الكتاب: الفكر المصري في العصر المسيحي الكاتب: رأفت عبدالمجيد الناشر: دار "قباء" و"مكتبة الأسرة"، طبعتان - القاهرة 2000. ينتمي كتاب "الفكر المصري في العصر المسيحي" إلى ما يعرف ب"تاريخ الأفكار" Geites geschichte، وهو فرع معرفي جديد أصبح يحتل منذ النصف الثاني من القرن العشرين موقع الصدارة في الدراسات الفلسفية والتاريخية في جامعات أوروبا وأميركا واليابان. ويبحث تاريخ الأفكار، كما يبدو من تسميته، في المفاهيم المحورية التي تسيطر على حقبة بعينها أو مجتمع معين في فترة محددة، ويتتبع هذه الأفكار في مختلف ميادين المعرفة وليس في ميدان بعينه، كما أنه لا يدور حول الأفكار الواضحة بذاتها فحسب، وانما هو يهتم أساساً ب"العالم الباطني للفكر"، أو قل تلك الأفكار التي تكمن وراء كل الفكر الصوري أو تعد شرطاً له، وبديهي أن هذه الأفكار هي التي تكشف عن أعمق أعماق شخصية شعب معين او عصر ما أو حضارة بأكملها. ويبدو أن مفتاح سر هذا الكتاب يكمن في عنوانه بالفعل، فليس هذا العنوان، "الفكر المصري في العصر المسيحي"، مجرد تلخيص تجريدي لمضمون الكتاب فحسب، بل هو لب هذا المضمون ذاته من بداية الكتاب الى نهايته. ويقصد المؤلف ب"العصر المسيحي" الفترة الممتدة من القرن الرابع حتى القرن السابع الميلادي، حين بدأت الامبراطورية الرومانية تصطبغ بالصبغة المسيحية تاريخياً، في الفكر السياسي، والتشريعات القانونية، والمعاملات الاقتصادية، والكتابات الأدبية، والتشكيلات الفنية، ومناحي الحياة الاجتماعية، وحين طغت المناقشات الدينية والجدل العقيدي على ما عداهما من الأمور الأخرى، أصبح الاساقفة وكنائسهم، والرهبان وتجمعاتهم وأديرتهم محط أنظار طبقات المجتمع كافة، من الامبراطور الى رجل الشارع. هذا التحول الهائل في المفاهيم العامة السائدة في العالم المعروف آنذاك، ساهمت فيه مصر بالنصيب الأكبر، وتركت بصماتها واضحة على العالم المسيحي والمسيحية خلال تلك الفترة، وهو ما اتفق ومكانتها الفكرية التي تمثلت في وجود المدرستين الفلسفية واللاهوتية في الاسكندرية. فقد فرض اللاهوت السكندري نفسه على الفكر الكنسي كله في دنيا المسيحية، سواء كان اللاهوت "الاوريجينية" التي شغلت أذهان الاكليروس والرهبان بل الأباطرة حتى القرن السادس الميلادي، او "الأريوسية" التي سادت الامبراطورية طوال القرن الرابع، أو "الكيرللية" التي عقدت من حولها المجامع في القرن الخامس الميلادي. ولا توجد مدينة فرضت بصماتها على المسيحية كالاسكندرية، إذ كانت كنائس روما والقسطنطينية وأنطاكية تنتظر القول الفصل في أمر العقيدة من الأسقف الاسكندري. وتناول المؤلف "الفكر المصري" في ذلك العصر في اتجاهاته كلها، الاتجاه الوثني بشقيه المادي والفلسفي، ثم الاتجاه المسيحي في شكله الجديد وهو ما أطلق عليه "المسيحية المفلسفة" التي ظهرت في القرن الثالث عشر الميلادي، عند القديس توما الاكويني، ثم الاتجاه التأملي المتمثل في الرهبانية، وهي الجوانب التي فاقت فيها مصر زمانها ومعاصريها. وخصص لكل من هذه الاتجاهات فصلاً مستقلاً، الى جانب فصلين آخرين حول امتداد الفكر المصري الى افريقيا بارزاً في الكنيسة الاثيوبية، وكيف نجحت مصر نجاحاً كبيراً من خلال هذه المكانة الفكرية التي احتلتها في التدخل المباشر - وهي الولاية - في شؤون البلاد البيزنطي ومن يعتلي عرش القسطنطينية. حتى صدور هذا الكتاب كان تاريخ مصر إبان تلك الحقبة الزمنية، أشبه بتمثال "بوليفيميوس" ذي العين الواحدة، مكتوباً من وجهة النظر الاجنبية لمؤرخي تلك الحقبة، ومن سار على هديهم من المؤرخين والباحثين العرب، أما هذا الكتاب فهو يتناول هذه الحقبة من منظور جديد وزاوية جديدة، هي تفوق مصر وسبقها على من كانت بأيديهم السلطة والنفوذ والجباية، وخلص الى أن مصر اذا فقدت استقلالها السياسي عوضت ذلك بالتفوق في ميدان آخر بحيث يمسي هذا المحتل تابعاً لمصر في هذا الجانب. هذه النتيجة التي انتهى اليها المؤلف جاءت بعد سجال طويل مع المصادر التاريخية المختلفة والوثائق الرسمية المعاصرة وكتابات مؤرخي ذلك الزمان، وبحسب المؤرخ "جونز" فإن العلاقة الوثيقة التي كانت تربط مصر بالامبراطورية الرومانية هي "القمح والنقود" سواء عندما كانت روما القديمة على ضفاف التيبر هي حاضرة الرومان، أو بعدما انتقلت الى "روما الجديدة" القسطنطينية على شطآن البوسفور. ويقر الخطيب الروماني الأشهر بلينوس هذا الأمر بقوله: "إن روما لا تستطيع ان تطعم نفسها أو تقيم اودها من دون ثروة مصر". وينوه المؤرخ"ديون كاسيوس" بثروة مصر ووفرة قمحها، ويقول يوسيفيوس انه فضلاً عن الاموال التي تمد مصر بها روما، فإنها تعد أفضل جزء في الامبراطورية بسبب القمح الذي تمونها به. ويؤكد المؤلف أنه بمرور الزمن راحت أهمية مصر الاقتصادية تزداد بالنسبة للامبراطورية، وبالتالي من الناحيتين السياسية والعسكرية، فقد كان على مصر ان تقدم للقسطنطينية سنوياً ما يتراوح بين ثمانية وتسعة ملايين إردب من القمح، الى جانب الجزء الخاص من مرتبات موظفي الادارة الرومانية العاملين في مصر والذي كان يدفع عينياً أي من القمح، وكان هناك جهاز خاص بالقمح يعرف ب"إدارة الميرة" يتولى متابعة المحصول منذ جنيه حتى وصوله الى العاصمة. وظل الاهتمام بقمح مصر ديدن أباطرة بيزنطة حتى القرن السابع الميلادي عندما دخلها العرب وضموها الى سلطانهم، لتفقد الامبراطورية بذلك - على حد قول شارل ديل - قبو الحنطة الذي لا ينضب له معين. ونتيجة لأهمية مصر الاقتصادية، حظيت بنظام للحكم يختلف عن سائر الولايات الأخرى، إذ كان حاكمها يختار من بين طبقة الفرسان وليس من طبقة الشيوخ كما جرى التقليد بذلك، كذلك لم يكن يحمل، مثل أقرانه من حكام الولايات الأخرى - لقب "بروقنصل" نائب قنصل أو "بروبرايتور"، لكنه حمل لقب "حاكم عام" أو "وال" برايفكتوس وسُمّي حاكم عام الاسكندرية ومصر. على أن هذا الوضع الذي اعتبر متميزاً لمصر عن سائر الولاياتالرومانية الأخرى، لم يشفع لروما عند مصر - على حد تعبير المؤلف - التي أدركت أنها فقدت مكانتها في الساحة الدولية كدولة ذات سيادة في ظل البطالمة، وباتت ولاية تدور في فلك روما، نتيجة للهزيمة التي لحقت بالملكة كليوباترا السابعة 69-30ق.م. آخر ملوك البطالمة في مصر، والقنصل الروماني ماركوس انطونيوس 82-30ق.م. في موقعة "أكتيوم" سنة 31ق.م. على يد زميله "اوكتافيانوس أغسطس" 63 ق.م. - 14م.. وزاد المرارة في حلق مصر انتقال عاصمة الامبراطورية الى القسطنطينية وليدة القرن الرابع الميلادي، على يد قسطنطين الذي دشنها عام 330، فبدت على هذا النحو، الى جوار الاسكندرية صاحبة القرون السبعة من عمر الزمن وفي عينيها قزم تتضاءل هامته. ولعل هذه النظرة راحت تزداد، وتسمو مصر بنفسها، بعد أن شهدت الاسكندرية قيام المدرسة اللاهوتية التي حملت عبء الدفاع عن المسيحية، واصبحت الاسكندرية القبلة التي تتجه اليها انظار الاسقفيات الاخرى والكراسي الرسولية في الامبراطورية. فقد وجد المصريون في العقيدة الجديدة المسيحية موئلاً يلتفون حوله، وسلاحاً يشهرونه في وجه سلطان روما الوثنية، او حتى المسيحية بعدما تحولت الامبراطورية الى هذه العقيدة وخالف ايمانها ايمان رعاياها في مصر. وكلما ازدادت حياة الاضطهاد عنفاً، والذي كان في جوهره اضطهاداً سياسياً، ازداد المصريون تمسكاً بعقيدتهم وتشبثاً بها، والتفوا حول اسقف الاسكندرية العاصمة وأعطوه كل تأييدهم باعتباره ممثلاً لآلامهم، معبراً عن آمالهم تجاه بطش السلطة الرومانية . ص-322. هكذا تجمعت كل هذه العوامل: المرارة السياسية، القهر الاقتصادي، والخلاف العقيدي والنزاع حول المكانة، لتزيد من تعميق النظرة المتبادلة بين الامبراطورية ومصر، الأولى بحرصها على السيادة على هذه الولاية الغنية بقمحها وأموالها لاطعام الامبراطورية، والثانية بمحاولة رد الاعتبار واثبات الذات. كان اعتزاز مصر بماضيها الحضاري ومكانتها السياسية وأهميتها العسكرية وثروتها الاقتصادية ومركزها الفكري المتميز في دنيا اللاهوت، وكراهيتها للرومان باعتبارهم أصحاب الدور الرئيسي والمصلحة الحقيقية في تخليها كارهة عن هذه المكانة، هو الذي دفعها الى أن تلعب دوراً أساسياً في ما يحدث في العاصمة من تيارات سياسية واضحة أو خفية، وخلافات عقيدية جدلية وتقلبات اقتصادية. ويبرز المؤلف في الفصل الأخير والمعنون ب"مصر والعرش البيزنطي" دور مصر ليس فقط في التأثير على الأحداث التي كانت تجري على المسرح السياسي في القسطنطينية، وانما في صنع هذه الأحداث، خاصة تلك التي دار فيها الصراع حول العرش البيزنطي. فقد عرفت مصر كيف تنتهز فرصة الفوضى الجارية في الامبراطورية لتتدخل بصورة فاعلة ومؤثرة في تسيير مجرى الأحداث بما يحقق مصالحها، بل إن الرأي الأخير في المفاضلة بين المتسابقين على عرش الامبراطورية كان من نصيبها وحدها، وبالتالي كان طبيعياً ان يتهافت هؤلاء الأباطرة على أن يخطبوا ودها، كل يقدم ما في جعبته قرباناً على مذبح رضاها، الى الحد الذي يجيء فيه هذا القربان في صورة تنازلات مهينة على حساب العقيدة الارثوذكسية الملكانية والسيادة الكنسية الأسقفية العاصمة. ص342. وعلى سبيل المثال، لعبت مصر الدور الرئيسي والأخير في الصراع الذي دار حول العرش البيزنطي عام 610م بين الامبراطور فوقاس وهرقل بن أرخون على ولاية افريقيا والمرشح للعرش البيزنطي. ويبرز من الصراع بين المتنازعين الأهمية القصوى التي كان يعلقها كل منهما على الاستئثار بالسيادة على مصر، ليوقن ان أقدامه قد رسخت في القسطنطينية. هذا الذي حدث في القرن السابع الميلادي، شبيه بما جرى من قبل في السنة الشهيرة للأباطرة الأربعة، عام 69 للميلاد، حين زحف فسباسيانوس من سورية الى مصر "ليهصر ايطاليا بمجاعة" وكان نجاحه في ذلك محققاً بالقضاء على منافسه "فيتللوس" مثلما زحفت قوات هرقل من افريقيا الى مصر "لتهصر القسطنطينية بمجاعة" وكان نجاح هرقل في ذلك ايضاً محققاً بإعدام خصمه "فوقاس".