"ومع هذا... فإنها تدور". يقيناً أن ليس ثمة عبارة تفوق هذه العبارة شهرة في ملكوت العلم، باستثناء عبارة "أميركا" وجدتها المنسوبة الى أرخميدس، بالطبع. "ومع هذا... فإنها تدور" هي العبارة التي بها جابه عالم جليل من علماء عصر النهضة محاكم التفتيش، كفعل مقاومة ساخر ويائس، بعدما أجبرته تلك المحاكم على أن يخر على ركبتيه معلناً، رغماً عنه، انه ينقض كل ما فكر وآمن به من نظريات علمية تتعلق بدوران الأرض حول الشمس، وذلك على مذبح الإقرار - القسري، إذاً - بأن أرسطو، والكنيسة هما المحقان، إذ يؤكدان ان الأرض ثابتة والشمس تدور من حولها. أمام محاكم التفتيش أذعن ذلك العالم وأنكر اليقين الذي كان ورثه عن أستاذه كوبرنيكوس، ثم تلفظ بالعبارة المقاومة التي سيجعل منها برتولد بريخت بعد ذلك بقرون موضوع واحدة من أشهر مسرحياته، ورمزاً لمقاومة العقل لمضطهديه. العالم الذي نعنيه هو غاليليو غاليلي. أما الفكرة التي حوكم من أجلها فكانت تقف بالضد من ذلك المعتقد الذي كانت الكنيسة وعلماء العصور السابقة يرسخونه، أي ان الأرض ثابتة. لكن غاليليو لم يتوصل الى ذلك فجأة، بل بعد زمن طويل قضاه في الدراسة والتأمل والتجارب العلمية، وبعدما اكتشف أعمال كوبرنيكوس. غاليليو الذي ولد العام 1564 بالقرب من فلورنسا في إيطاليا، اكتشف وهو في الثامنة عشرة حبه للعلم وللفلك بصورة خاصة وهو راح ينمي ذلك الحب ويستخدم المناطير والحسابات، حتى توج جهده ذاك كله بعد سنوات عمل وتأمل طويلة بذلك التأكيد الذي سيقلب نظرة الإنسان الى نفسه والى مكانه في الكون: التشديد على ان الأرض تدور حول الشمس خلال عام كامل، فيما هي تدور حول نفسها خلال 24 ساعة... وكان كوبرنيكوس قد سبقه الى ذلك التأكيد، ولكن عبر براهين أقل قطعاً. براهين غاليليو كانت حاسمة. لكن الكنيسة لم تنظر الى الأمر على ذلك النحو. والأدهى من هذا ان العلماء من زملاء غاليليو سيكونون هم من يُحرض الكنيسة ضده، غيرة على الأقل، وجهلاً في أسوأ الأحوال. والحال انه في زمن غاليليو كان العلماء يستنبطون أفكارهم، في الكثير من المجالات ومنها مجال الفلك، من كتابات أرسطو المعتمدة. وهكذا، ما إن نشر غاليليو نظريته حتى سارع الكثير من العلماء الى مطالبة الكنيسة بأن تسكته، فإن لم يفعل يتعين عليها معاقبته. وهكذا، في العام 1633، وإذ كان غاليليو قد بلغ الثالثة والستين من عمره، تعين عليه ان يحمل ثقل كهولته وينتقل من فلورنسا الى روما، حيث يتوجب عليه ان يدافع عن نفسه ويبرر مواقفه أمام قضاته. وكان من الواضح ان هؤلاء ليسوا على أي استعداد لتصديقه. وهكذا صرف أيام المحاكمة العشرين وهو يحاول، عبثاً، أن يشرح نظريته بأسلوب علمي يرتكز على الحسابات والتجربة العلمية. وكانت تلك الأيام من أغرب وأصعب ما مر على العلم في تلك الأزمنة، ولقد انتهت وغاليليو هو المتهم والمحكوم عليه: انتهت بانتصار الكنيسة وكان على غاليليو أن يرضخ ويقول بكل بساطة ان ارسطو كان على حق، وهو - غاليليو - كان على خطأ. لكن هذا لم يكن كافياً بالنسبة الى محاكميه: كان يتعين عليه أن يدخل السجن أيضاً. وهو رضخ لكل ذلك. لكنه لفظ تلك العبارة الشهيرة ليبرئ ذمته أمام العلم والتاريخ، ويؤكد كم ان حكامه كانوا، هم، المخطئين، وليرمز الى قدرة الكلام على التصدي للقمع. وحول سجن غاليليو الى اقامة جبرية أقام فيها شبه صامت، متابعاً تأملاته ومتيقناً من أنه كان على صواب. وهو عاش في تلك الإقامة طوال تسع سنوات كانت الأخيرة في حياته إذ أنه مات في نهايتها وحيداً شبه ضرير، لكن لسانه، وبحسب الحكاية، لم يكف عن التشديد على انها "... مع هذا، تدور". عرف غاليليو غاليلي 1564 - 1642 كعالم رياضيات وفلك وطبيعة، ولا يزال حتى أيامنا هذه يعتبر الأب المؤسس للمنهج التجريبي في العلم. وهو درس الطب باكراً في بيزا بينما درس الرياضيات على أستاذ خاص. ولاحقاً في شبابه، بعدما أنجز دراسة حول مركز الجاذبية في الأشياء الصلبة، عُيّن محاضراً في الرياضيات في الجامعة وله من العمر 25 سنة. ومن هناك انتقل، أيضاً أستاذاً للرياضيات، في جامعة بادوفا. وفي تلك الأثناء، بدأت خلافاته مع الكنيسة استناداً الى دعمه نظرية كوبرنيكوس. غير ان كتاباته وبحوثه الأساسية لم تكن في مادة الفلك بل في "الميكانيكا" وفي دراسة الحركة ومبادئها. وهو اضافة الى ذلك طوّر المناظير التي كان يأتي بها من بلجيكا ويزيد من امكاناتها حتى مكنته من دراسة النجوم وتحقيق اكتشافات في هذا المجال تتعلق بأقمار وحلقات "جوبيتر" و"عطارد". وكان هو أول من برهن على ان مجرة درب التبانة تتألف من كمّ هائل من النجوم.