عام 1641 كان غاليليو غاليلي قد أصبح أعمى يعيش تحت الإقامة الجبرية في منزله، وكتب الى أحد تلامذته: "انني أقضي أيامي الجدباء الطويلة من دون أن أتوقف عن الحركة، وهي أيضاً أيام قصيرة إذا قيست بالشهور والسنوات الماضية، لم يعد لي سوى الذاكرة وعذوبة الصداقات القديمة". في تلك الفترة كان غاليلي يعيش مأساة فقدانه إبنة غير شرعية، الأخت ماريا سيليست، وكانت في الثالثة والثلاثين. على أثر موتها كتب مكتشف دوران الأرض الى صديق آخر يقول أنه يعيش حزناً كبيراً وكآبة لا توصف، يعيش بلا قابلية على العيش ويسمع صوت ابنته يناديه باستمرار. تلك الإبنة التي دخلت الدير وهي في الثالثة عشرة، ومن هناك ما انفكت تكوي قمصان والدها وتنسخ مراسلاته وتصنع له الحلويات المفضلة من زهور حديقة الدير. أما هو فكان يطبخ لها بنفسه وجبات السبانخ ويرسل من يصلح نوافذ صومعتها. كانا على اتصال دائم وفراق دائم. وفي الكتاب الذي نشرته أخيراً في نيويورك دار "ووكر" وشركاه للمؤلفة دافا سوبل، واحدة من أكثر قصص الحنان الأبوي في تاريخ الإنسانية. استمدت سوبل مادّة كتابها من مجموعة الرسائل التي تلقاها غاليليو من ابنته بين 1623 و1634، وكان بلغ التاسعة والخمسين. ذائع الصيت في أوروبا كلها، لكن صحته في حال يرثى لها. معظم تلك الرسائل يدور حول اهتمام الإبنة بأبيها خلال مرضه ومصاعبه الأخرى، وهي مليئة بمشاعر الولاء، وطلب المساعدة، وتفاصيل الحياة الصلفة في دير القديس ماثيو، اضافة الى شؤون أسرية أخرى حين كان غاليليو قيد المحاكمة في روما. ومع أن "ابنة غاليليو" يرتكز على رسائل الإبنة فأن محوره الأقوى حياة وظروف معيشة وأفكار الفيزيائي الإيطالي، خصوصاً جدله العنيد في نظرية الكوسموس المتمحور حول النظام الشمسي، وما اعتبرته الكنيسة نقضاً للكتاب المقدس. إلا أن ذلك لم يكن كافياً بل قام العلماء الكلاسيكيون المتعلقون بنظام أرسطو وبطليموس ويعتبرون الأرض ثابتة وسط الكوسموس، يرجمونه بحجارة الهرطقة والتكفير. ولو ألقينا نظرة خاطفة على نتائج عاصفة غاليليو لوجدنا أن "حواراته" بقيت تحت الحجر الكنسي حتى 1835 ولم ترفع عنها اشارة الكتب الممنوعة في الفاتيكان رسمياً حتى 1982 عندما أسس يوحنا - بول الثاني لجنة غاليليو وكلّفها دراسة "الملف" فاستغرق ذلك عشر سنوات انتهت بقبول الكنيسة في 1992 مكتشفات غاليلي غاليليو! بدأت القصة سنة 1543 عندما اقترح الفلكي البولندي نيكولاوس كوبرنيكوس تصوّراً مخالفاً للنظام الإغريقي، فقال: ماذا لو أن الأرض تدور على نفسها مرّة في اليوم وتدور بالتالي حول الشمس؟ واقتنع غاليليو بالمبدأ، فطوّر مجهره الفضائي الى أن اكتشف سنة 1610 جيوباً حول القمر وعطارد قادته الى دراسة حركة المدّ والجزر وحرارة الشمس المتكررة في نقاط معينة من الأرض. وانتهى الى دعم مبدأ كوبرنيكوس. سنة 1616 طلب البابا بولس الخامس من كرادلته دراسة مبدأ كوبررنيكوس فوجدوه "هرطقة"، وعلى الأثر أرسل في طلب غاليليو وطلب منه الإقلاع عن معاضدة كوبرنيكوس. وبعد سنوات قليلة جاء البابا أوربان الثامن وكان معجباً بتيليسكوب غاليليو، فخفف الأمر الكنسي طالباً من غاليليو اعتبار أبحاثه مجرّد حسابات فلكية، وسمح له بالكتابة عنها شرط اعتبارها تكهنات نظرية. وسرّ غاليليو بذلك فانطلق يسجّل أفكاره ونتائج أبحاثه على شكل حوارات بين شخصيات متخيلة. إلا أن حيلة غاليليو لم تنطل على عتاة الكرادلة وفي 1633 سحبوه مقيداً الى روما، مريضاً بداء المفاصل والعصبي والحصى في الكلى، والدوخة والفتاق، وأجبروه على الوقوف في المحكمة. هناك كتب كثيرة عن حياة غاليلي غاليليو وانجازاته العلمية التي غيّرت وجه التاريخ، لكن كتاب سوبل يضع شخصية الرجل في سياق انساني - روائي ما يجعل المطالعة أكثر سلاسة ومتعة وربما يعيدنا الى المثل القائل أن وراء كل رجل عظيم امرأة!