في مقال نشر في الحياة 13644، تراث ص21 ذكرت ان الفلسفة اليونانية وصلت الى المسلمين متأخرة على ظهور حركة الكلام. وسكت آنذاك عن بعض وثائق التراث العربي الإسلامي السيوطي، الشيرازي، وعن بعض الكتابات المعاصرة علي سامي النشار التي لها مواقف تتعارض معها. وبالعودة الى السيوطي والشيرازي والنشار يتأكد لنا أكثر أن المسلمين الأوائل ما عرفوا الفلسفة اليونانية، بل أن الاتجاهات الكلامية التي نمت وتوسعت في ما بعد متخذة أشكالاً مختلفة نبعت من احتياجات داخلية محضة وليس من خلال الاحتكاك أو التفاعل مع أنسقة أو أنظمة معرفية مجاورة. وأن الفلسفة اليونانية إذا أثرت على الفكر الاسلامي فقد حدث ذلك أخيراً مع تأسيس بيت الحكمة سنة 215 ه. ففي هذه المرحلة طالع شيوخ المعتزلة كتب الفلسفة حين نشرت أيام المأمون، فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، حتى ظهر أولئك الذين سماهم ابن تيمية "فراخ اليونان في الشرق"، وظهر أول فيلسوف في العالم الإسلامي: أبو يوسف بن اسحق الكندي ت 257 ه، وتلاه تلامذته أبو أحمد الحسين بن أبي الحسين بن كرنيب، أحمد بن طيب السرخسي، وأبو زيد أحمد البلخي. في كتابه "صون المنطق" يذهب جلال الدين السيوطي الى القول بوجود اتصال حقيقي بين المسلمين والفلسفة اليونانية في القرن الأول الهجري. وكذلك نجد صدر الدين الشيرازي في كتابه "الأسفار الأربعة" عن المطارحات للسهروردي يقول: "أهل الكلام الأوائل في عهد بني أمية عرفوا الفلسفة اليونانية لما نقلت بعض كتبها اليهم، غير ان الفلسفة التي عرفوها لم تكن من النوع المشائي الذي دخل في ما بعد الى العالم الإسلامي، وقد جعلوا هذه الفلسفة أساساً لفلسفتهم". ويعتمد مفكر معاصر هو علي سالم النشار "على هذين الموقفين ليبين بأن موقف ماكس مايرهوف... والقائل بأن حركة اتصال المسلمين بالفلسفة اليونانية بدأت في القرن الثاني الهجري، انما يحتاج الى تعديل كبير وبحث أكثر اتساعاً". ويدعم وجهة نظره برأي لابن كثير، وهو أن الفلسفة اليونانية وعلم النجوم وغيرها من معارف يونانية نقلت الى العربية في المئة الأولى للهجرة. غير أن النشار لا يحدّد المصدر الذي جاء فيه القول هذا لابن كثير، ولا يذكر شيئاً عن النَقَلة والكتب التي نقلت في تلك المرحلة. وإذ يذهب النشار هذا المذهب، فإنه يحاول أن يؤيده ببعض المعطيات التاريخية حين يقول: "ونلاحظ في كتابات المتكلمين الأوائل من أمثال: أبي الهذيل العلاّف وهشام بن الحكم وغيرهما، معرفة واسعة بالفلسفة اليونانية وتناولاً لمصطلحات فلسفية تدل على أن حركة الاتصال قد تمت من قبل". ويذكر أن هشام بن الحكم المتوفى سنة 195 ه، عاش في القرن الثاني الهجري، وإلى ان أبي هذيل العلاّف المتوفى سنة 235 ه، عاش في نهاية القرن الثاني ومطلع القرن الثالث الهجريين، أي وقت كان الكلام قد تكون في معظم أطره الأساسية، لأن نشأة الكلام هي تاريخياً القرن الأول الهجري. ومما يستوقف الباحث عند النظر في آراء كل من السيوطي والشيرازي والنشار، انما هي المواقف التي تحتاج الى توضيح. فالسيوطي، حين يقول بوجود اتصال حقيقي بين المسلمين والفلسفة اليونانية، لا يحدّد بدقة نوعية هذا الاتصال ولا كيفيته. وكذلك الشيرازي، فهو حين يقول بأن بعض كتب الفلسفة اليونانية نقلت الى العربية في عهد بني أمية، فإنه لا يذكر شيئاً عن هذه الكتب، كما ولا يذكر شيئاً عن نوعية هذه الفلسفة، التي ليست "من النوع المشائي". ولا نجد الأمر يختلف عند النشار حين يرجّح احتمال معرفة المسلمين الأوائل بالفلسفة اليونانية إنما تمت عن طريق الغنوصية، فالغنوصية كانت تحمل في أعماق فلسفتها كثيراً من عناصر الفلسفة اليونانية. فقوله يفترض ان تكون العناصر الفلسفية التي حملها الغنوص عناصر لم يمسها أي تعديل، والمعلوم، هو ان كل ثقافة حين تأخذ عن أخرى، فإنها تهضم ما تأخذه هضماً يجعل من الصعب، إلاّ بتحليل دقيق، أن نتبين العناصر الدخيلة. يضاف الى ذلك هذا التساؤل عما إذا كانت هذه العناصر "المغونصة" كافية حقيقية لأن تجعل المسلمين الأوائل يتعرفون من خلالها على الفلسفة اليونانية، ولو بصورة اجمالية. اضافة الى الموقف الاحتمالي الذي أخذه النشار، فإنه ذهب الى اعتبار هشام بن الحكم وأبي هذيل العلاف من المتكلمين الأوائل، بينما عبارة: "متكلمون أوائل" يجب ان لا تعني سوى المتكلمين الذين ابتدأ بهم الجدل في العقيدة والدفاع عنها، وهم أولئك الذين عاشوا في القرن الأول الهجري. إذ في هذه المرحلة نشأ علم الكلام وتكونت خطوطه الكبرى الرئيسية. إننا لو عدنا الى الفرق الكلامية الأولى نتصفح مبادئها الأساسية، لا نكشف أمامنا وقائع تاريخية وفكرية مهمة. فمثلاً، كيف نشأت الخوارج؟ هل عرف رجالات الخوارج فلسفة اليونان؟. إن الواقع هو أن فرق الخوارج نشأت من جراء الفتنة، على أثر مسألة التحكيم 37ه. فالنشأة لم تكن نشأة بدواع خارجية يمكن تأييدها بالأدلة والشواهد. ويتبين ذلك لنا واضحاً، لو تتبعنا أحداث الفتنة حدثاً حدثاً، بدءاً من مقتل الخليفة الراشد الثالث وما خلفه هذا القتل من نقمة بين صفوف المسلمين، ثم مروراً بمعركة الجمل بعد أن بُويع علي بالخلافة، الى ان نصل الى سيرورة الصدام العنيف الدامي في معركة صفين، وكيفية حدوث التحكيم والخروج على علي. وفي هذا الجو المتلبد بالصراعات، ظهرت مدرسة الحسن البصري ت 110ه، في مسجد البصرة، حين كان هذا التابعي يعقد حلقاته التدريسية متجنباً فتن الدنيا وفتن السياسة، هو وتلامذته الذين من حوله. والواقع، أنّ مدرسة البصري كانت ترسم للمسلمين طريقهم عبر الأزمة. فمعبد بن خالد الجهني قتل 80 ه جاء هو وعطاء بن يسار الى الحسن البصري، وقالا له: "يا أبا سعيد، هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسملين ويأخذون أموالهم، ويقولون انما تجري أعمالنا على قدر الله تعالى". ومعبد الجهني الذي نراه يستفتي البصري، كان أول من تكلم في القدر من المسلمين، والظاهر ان البصري كان في بادئ الأمر يوافق القدرية في رأيها رداً على رسالة لعبد الملك بن مروان. هذه المواقف تقود الى هذه النتيجة، وهي: أن نشأة القدرية كانت كرد فعل على القول بالجبر، على تنصل العبد من مسؤوليته في أمر الفتنة التي حدثت آنذاك. ومهما كان الأمر، فالقدر لم يكن في البداية إلاّ من اجل الدفاع عن شرعية التكاليف، ونحن ان رجعنا الى المحاورات التي كانت تدور بين أهل القدر وأخصامهم، يتبيّن لنا واضحاً أن القدر مسألة نتجت عن اجتهاد شخصي في فهم النص القرآني: فالمسعودي في "مروج الذهب" يحدثنا عن مناقشة دارت بين غيلان الدمشقي، الشخصية الثانية بعد معبد الجهني، وبين عمر بن عبدالعزيز. وأبو الحسين الملطي الشافعي يذكر هذه المناقشة أيضاً، وهي مناقشة تدور حول معاني النص القرآني المتعلقة بمسؤولية الإنسان عن أفعاله... وغيلان في هذه المناقشة لا يتسلح بغير المنطق القرآني: من جهة أخرى، نجد ابن المرتضى، وهو قدري معتزلي، يروي أن غيلان أخذ فكرة القدر عن الحسن بن محمد بن الحنيفة، بينما يرى طاش كبرى زادة أن غيلان كان من مدرسة الحسن البصري وأصحابه. وهكذا، فالقدريون الأوائل لم يتجاوزا النطاق الإسلامي، ولم يأخذوا من مصدر غير إسلامي، والباحث لا يجد عندهم أثراً لتفكير خارجي عن الاسلام. كان لا يوجد بحوزتهم سوى حماس يأخذ عليهم كل جوانحهم ويحملهم حملاً لنشر عقيدتهم والدفاع عنها دفاعاً مستميتاً. ويظهر هذا الواقع بوضوح أكثر، مع واصل بن عطاء: فهذا كان أيضاً تلميذ البصري، وكان يقول بالقدر. ثم ان واصلاً يقف موقفاً استقلالياً، قاده الى ان يخالف رأي استاذه الحسن في حكم مرتكب الكبيرة، وهو هنا في هذا الموقف الاجتهادي أراد أن يجد مخرجاً عقائدياً سياسياً للفرقاء المتقاتلين الذين اقترفوا كبيرة القتل "مؤمن أم كافر؟ فاسق، منزله بين منزلتين". فالموقف هو موقف التفقه بالدين، وإن كان هذا التفقه أخرجة صاحبه عن "الجماعة" وقاد الى العبارة الشهيرة التي قالها استاذه الحسن: "اعتزل عنا واصل"، التي لأجلها سمي هو وأصحابه الذين ذهبوا مذهبه بالمعتزلة. ولئن كانت القدرية الأولى لم تعرف الفلسفة اليونانية، فهل ان الجبرية اختلفت عنها؟ الجبرية على يد الجهم بن صفوان الذي تابع الجعد بن درهم قتل سنة 124 ه في آرائه، لجأت هي بدورها أيضاً الى تأويل عقلي، وهي أول من أدخل التأويل في فهم صفات الله، حين ذهبت الى عدم تجويز وصف الله بصفة يوصف بها خلقه، وكذلك هي أول من أحدث القول بخلق القرآن سنة 120 ه، وذهبت في تأويل الآيات القرآنية مذهباً جعلها تعلن بأن الإنسان "لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة، وانما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له ولا ارادة ولا اختيار". فهل توجد علاقة مباشرة بين هذه الأفكار وبين المذاهب اليونانية التي تميل الى شيء من الجبر أمثال الرواقية، أو ان هذه الأفكار جاءت من الرواقية بطريقة أخرى، بواسطة كنائس الديصانية والمسيحية؟ ليس من السهل أن نسلم بهذه الفكرة الأخيرة. غير أننا نجد من المؤرخين من يذهب هذا المذهب. فأبن كثير يذكر أن الجعد أخذ بدعته عن بنان بن سمعان، وأخذها بنان عن طالوت بن أخت لبيد بن أخت أعصم، عاصر لبيد بن أعصم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عدواً له، اشتغل لبيد بالسحر، وكان يقول بخلق القرآن. ويضيف ابن كثير: "ويقال أن لبيداً أخذ قوله عن يهودي باليمن". من جهة أخرى، نجد أن ابن النديم في "الفهرست" يرى أنه تأثر بالمانوية، وابن تيمية يرى أنه تأثر بالصائبة والمسيحية، والجهم بن صفوان الذي أخذ عنه تأثر بكل هذه المؤثرات الأجنبية. غير أن الرجوع الى المواقف الجبرية يكشف بأنها كانت تستند الى حجج شرعية، بعضها واضح لا لبس فيه، وبعضها مستنبط بتأويل عقلي محض. ولقائلٍ أن يقول بأن هذا التأويل العقلي المحض، انما حدث بتأثير خارجي، يهودي أو صائبي أو مسيحي، أو الثلاثة معاً. ولكن علينا أن نتنبه بأن الجبرية حين نفت ان يوصف الله بصفة يوص بها خلقه، لم تكن تهدف إلاّ الى فكرة التنزيه المطلق، وبالتالي الى مجابهة المجسمة والمشبهة". وهكذا، فإننا نجد أنفسنا أمام واقع، وهو أنه اذا استطعنا أن نصل موقف الجعد أو الجهم باليهودية أو المسيحية عن طريق الاستنتاج، نظراً للتشابه في المواقف، فإنه من الصعب من جهة أخرى أن نصل الى جبرية الجهم بجبرية الرواقية، كما هو من الصعب أن نكشف مشابهة بين فكرة خلق القرآن ونفي الصفات، وبين أية عقيدة رواقية. فمضمون العقيدة الجبرية في كل مبادئها وأبعادها، في جوهرها وظاهرها، هو غير مضمون الفلسفة الرواقية، في شكل لا يمكن معه التسليم بوجود صلة حقيقية بين هذه وتلك. والمرجئة، لا تختلف عن بقية الفرق الكلامية الأخرى. فالإرجاء جاء على يد غيلان الدمشقي. فهذا الرجل هو ثاني من أحدث القول بالقدر، وهو أول من أحدث القول بالإرجاء. والإرجاء هو تعليق الحكم بكفر أو بإيمان مرتكب الكبيرة. هو، بعبارة أخرى، محاولة من أجل حد الايمان في علاقته بالمعصية. ونحن، إذا رجعنا الى فرق المرجئة، فإننا نجد بأنها كلها تتمحور حول مسألة الايمان. ما هي علاقة الايمان بالمعرفة وبالاخلاص والمحبة والعمل؟ وماذا سيكون اذا وقعت المعصية؟ والإرجاء، من جهة أخرى، هو موقف أملاه واقع سياسي محدد. فالبحث في مسألة الإيمان، في علاقة الايمان بالمعصية، هي مسألة نتجت بفعل التقاتل بين المسلمين بفعل ارتكاب كبيرة القتل. فالواقع كان يفرض على المؤمن أن يتخذ موقفاً بين المتقاتلين في معركة الجمل، وبعدها معركة صفين، ثم بعدها في المعارك الأخرى الكثيرة التي حدثت. هل يقضي على أحد الفريقين بالكفر؟ أم يقضي على الاثنين معاً؟ لم يكن من السهل اتخاذ موقف من دون المساس بصدق وإخلاص وايمان شخصيات اسلامية معروفة. وهكذا، جاءت فكرة الإرجاء، فكرة تأخير العمل على النية والعقد، فكرة لا تضر مع الايمان معصية، فكرة تأخير حكم صاحب الكبيرة الى يوم القيامة، فلا يقضى عليه بحكم ما في الدنيا. والسؤال: هل هذه الأفكار تتصل بطريقة ما بالفلسفة اليونانية أو باليهودية أو الغنوصية؟ والى متى سنبقى أسرى منتصري التاريخ أو اسرى الخط الأكاديمي الاستشراقي الغربي؟ أما آن لنا أن نحرر التاريخ من قيوده؟