} تناولت حلقة أمس الظروف التاريخية التي ساهمت في تأسيس كتابات الملل والنحل. وتتناول حلقة اليوم الدور التأسيسي الذي لعبته كتابات الملل والنحل في بلورة الوعي التاريخي عند المسلمين. لعبت الفوضى الاخبارية للراوي في دفع فكرة التاريخ الى المزيد من التركيب والتعقيد خصوصاً عندما بذل العلماء والفقهاء المزيد من الجهد للتدقيق في خطأ الأخبار وصحة المعلومات، فنهض علم تاريخي يربط بين الخبر والفقه ويحاول تفسير التحولات والوقائع انطلاقاً من الحديث وتأويله. الى ذلك ساهمت السياسة وصراعاتها في وضع حدود عقائدية بين القوى والفرق المتنافسة وهو موضوع لعب دوره في صوغ وعي تاريخي للاختلاف فنشأ علم الفرق والملل والنحل، وباتت معرفة خلافاتها مركز انطلاق للكثير من الدراسات التاريخية التي حاولت العودة الى القرن الأول لربط نتائج المناظرات بأسباب وعناصر لها جذورها في تلك الصراعات الأولى. إلا أن مناظرات القرن الثاني كانت اكثر تشعباً نظراً لتداخل الصراعات وتقاطعها بين الدولة والمعارضة من جهة وبين الدولة والكتلة الدينية من جهة أخرى. واختلف المؤرخون على نقطة بدء الصراع أو على تحديد بداية واحدة. فكل مؤرخ كان يرى بداية مختلفة عن الآخر. وحاول كل مؤرخ تفسير "بدايته" لقراءة التتابع الزمني للصراع وما آل اليه من انشقاقات "فرقية" و"نحلية" و"مللية" تجسدت في "مقالات" متناقضة وغير موحدة لتأويل التطور وتنظيره معرفياً. فهناك من اتخذ من اجتماع السقيفة نقطة بدء، وهناك من رأى في الصراع على الخلافة بداية للانقسام بين المسلمين، وهناك من اعتبر أن الخلافات سابقة زمنياً على الخلاف اللاحق على الإمامة أو شرعية اجتماع السقيفة وإجماع الأمة عليه. من الاختلاف المذكور يمكن قراءة خلافات أخرى في تكوين معرفة تاريخية لسياق التطور. فهناك من جعل عبدالله بن سبأ نقطة بدء للفتنة الداخلية وهناك من أنكر وجود شخصية تاريخية تدعى عبدالله بن سبأ وشكك في الأمر واعتبر ان ذلك الاسم مختلق أساساً. وهناك من اعتبر أن الفتنة بين المسلمين بدأت بالخروج على الخليفة الثالث عثمان بن عفان وهناك من يؤخر الفتنة الى لحظة الخروج على بيعة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب وهناك من يؤخرها الى معركة التحكيم صفين وتمرد الخوارج على أمير المؤمنين. ثم انقسام الخوارج الى فرق وشيعاً ساهمت السبئية تيار عبدالله بن سبأ في إذكاء نيرانها وتحريفها عن خطها الإسلامي وادخال عناصر غريبة عن القرآن المنزل تقول بالرجعة والعودة وان الرسول لم يمت وانما رفع، ثم تقول بأن الإمام علي لم يقتل بل رفع الى السماء، وغيرها من المعتقدات التي ساهمت لاحقاً في تكوين اجماع اسلامي مؤتلف من مختلف الاتجاهات لمحاربة هذا النوع من التفكير. الى ذلك نشأت خلافات فقهية تقرأ التاريخ انطلاقاً من التنازع ونهضت مناظرات حول شرعية البيعة وكيف تكون بالاجماع، بالغلبة، بالنص، بالتعيين، بالتوريث، بالمشورة، بمجلس اختياري معين من أهل العقد والحل وينتخب خليفة المسلمين. ولم تقتصر الخلافات النظرية بين أهل السنّة بل طالت مختلف الاتجاهات الإمامية. فهناك من قال بعودة الإمام، وهناك من قال بتتابع الائمة وانقطاعه ثم عودته، وهناك من قال باستمرار التتابع من دون انقطاع. وحصلت سجالات نظرية على مستويين بين السنّة وما عرف لاحقاً بالشيعة وبين فرق الشيعة نفسها. كذلك امتد السجال النظري ليطال علماء السنة إذ تفاوت الفقهاء في قراءات مختلفة اوجبت لاحقاً قيام مدارس ترصد اختلاف الاجتهادات وخلاف المجتهدين على الفروع. تجمعت كل الآراء وانتقلت على اختلاف مدارسها الى القرن الثالث حين تمت استعادتها وقراءة دوافعها وعواملها وربطها بالجذور التاريخية للصراع ودور الفرق في تكوين وعي مغاير لبعضها بعضاً. إلا أن مناظرات القرن الثالث عرفت الكثير من التشعب. فإذا كانت الصراعات الأولى دارت حول الجبر والاختيار والعقل والقدر وحول التوحيد والصفات والزمان وعلة الزمان، وتداخلت تلك المناظرات بانقسامات سياسية وثورات كثورة الحسين بن علي ثم ثورة عبدالله بن الزبير ثم ثورة سعيد بن جبير وثورة الإمام زيد وما رافقها أو أعقبها من تمردات قادتها فرق الخوارج، وما تفرع عنها من ايديولوجيات مضادة مثل السبئية والكيسانية والضرارية والحرورية والزنادقة، فإن صراعات القرن الثالث استوعبت تلك الخيوط وأعادت شبكها في دائرة مختلفة تركزت على سؤال: من هو المسلم؟ لا شك في أن سؤال "من هو المسلم؟" جاء استتباعاً لسؤال سابق طرح في القرن الأول "من هو سبحانه تعالى وما هي صفاته؟". فالسؤال الأول أسس للسؤال الثاني وأدرج الصراع في قنوات جديدة. فالسؤال الأول يتعلق بالعقيدة بينما الثاني يطال السياسة. وهناك صلة استتباعية بين السؤالين طرحت خلافات استطردت في تشعباتها الى القرن الرابع للهجرة. الخلاف على تعريف الخالق وتحديد صفاته أنتج خلافات على تعريف المسلم ومواصفاته. وأدت تلك المناظرات الحامية الى تكوين علم تاريخي استحدث معرفة دقيقة لقراءة الخلافات بين الفرق وكيف تتفق ومتى تختلف، الأمر الذي طرح السؤال حول من هي "الفرقة الناجية"؟. ودخل الفقهاء والعلماء والائمة في اجتهاداتهم الى جانب المعتزلة والخوارج الشراة والاباضية والزيدية والإمامية في معارك حامية انتجت مناظرات عقائدية فائقة الأهمية، خصوصاً تلك التي دارت ضد الملاحدة والزنادقة والباطنية، لعبت دورها المميز في ادخال عناصر جديدة على الوعي التاريخي وتكوين قراءات مختلفة لفكرة التاريخ. فالفكرة التاريخية لم تنفصل في وعيها للصراع عن ذاك السياق. فهي نشأت كرد عليه وحاولت اكتشاف عوامله وأسبابه بالعودة الى الجذور الأولى. بالعودة الى جذور الصراع السياسي تباين تقدير توقيت الاختلاف بين المسلمين. فهناك خلافات على الأمر بين المؤرخين والعلماء والفقهاء. فكل فريق وضع تصوراته الخاصة، كذلك تباينت التقديرات بين العلماء والفقهاء أنفسهم وخضعت التأويلات التاريخية الى اختلاف الظروف الزمنية بين كاتب وآخر. فالإمام أبي الحسن علي بن اسماعيل الأشعري اختلف تقديره مثلاً في مطلع القرن الرابع عن تقدير الإمام عبدالقاهر بن طاهر البغدادي في مطلع القرن الخامس. فالأول بدأ بقراءة الخلافات بعد رحيل الرسول صلى الله عليه وسلم حين اختلف الناس في أشياء كثيرة، وأول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين "اختلافهم في الإمامة" حين اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة. بينما جاء تقدير الثاني مغايراً للأول. فالإمام البغدادي يوافق الأشعري على أن المسلمين عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا "على منهاج واحد في أصول الدين وفروعه غير من أظهر وفاقاً وأضمر نفاقاً". ويختلف معه في أول خلاف وقع بينهم. وبرأيه ان الخلاف الأول "اختلافهم في موت النبي عليه السلام. فزعم قوم منهم أنه لم يمت وانما أراد الله تعالى رفعه إليه ... وزال هذا الخلاف وأقر الجميع بموته ... ثم اختلفوا بعد ذلك في موضع دفن النبي عليه السلام فأراد أهل مكة رده الى مكة ... وأراد أهل المدينة دفنه بها ... وقال آخرون بنقله الى أرض القدس ودفنه ببيت المقدس ... وزال هذا الخلاف ... فدفنوه في حجرته بالمدينة. ثم اختلفوا بعد ذلك في الإمامة ... وهذا الخلاف باق الى اليوم لأن ضراراً أو الخوارج قالوا بجواز الإمامة في غير قريش". يلاحظ أن البغدادي استثنى الخلاف على الإمامة من بين خلافات كثيرة زالت كلها وبقي ذاك الأمر الى أيامه. وهو ما أشار إليه الأشعري. إلا أن البغدادي يرى في كل الخلافات السابقة، باستثناء الخلاف على إمامة المسلمين، مجرد خلافات "في فروع الفقه" كميراث الجد وكمسائل العدل وفي مسائل الحرام ونحوها وهو "مما لم يورث اختلافهم فيه تضليلاً ولا تفسيقاً. وكانوا على هذه الجملة في أيام أبي بكر وعمر وست سنين من خلافة عثمان". ويعود البغدادي للالتقاء من جديد مع ترتيب الأشعري في تتابع الخلافات فيشير الى الاختلاف في أمر عثمان ثم اختلفوا بعد قتله "اختلافاً باقياً الى يومنا هذا" ثم اختلفوا في "شأن علي وأصحاب الجمل وفي شأن معاوية وأهل صفين وفي حكم الحكمين أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص اختلافاً باقياً الى اليوم". اختلاف قراءة البغدادي، خصوصاً للفترة الأولى، عن قراءة الأشعري ثم اتفاقه معه في قراءة الفترة الثانية يعكسان التطور في وعي زمن الأوائل بسبب ابتعاد المسافة بين الإمامين قرابة قرن من السنين. فخلال الفترة الفاصلة بينهما حصلت تغييرات في بنية الدولة وتوجهاتها كما دخلت عناصر جديدة جلبت معلومات اضافية أملت على البغدادي تطويل الخلافات وترتيب تعاقبها بطريقة أكثر تداخلاً من أسلوب الأشعري. وينتقل البغدادي فوراً من عهد الخلفاء الراشدين الى "زمان المتأخرين من الصحابة" فيذكر خلاف القدرية في القدر والاستطاعة معبد الجُهني وغيلان الدمشقي والجعد بن درهم وتبرأ منهم المتأخرون من الصحابة "ثم اختلفت الخوارج بعد ذلك في ما بينها فصارت مقدار عشرين فرقة كل واحدة تكفر سائرها. ثم حدث في أيام الحسن البصري خلاف واصل بن عطاء الغزَّال في القدر وفي المنزلة بين المنزلتين وانضم إليه عمرو بن عبيد بن باب في بدعته ...". ويذهب البغدادي فوراً من السياسي الى العقائدي ويأخذ بترتيب الفرق الى أصناف ويوزعهم على أنواع: خارجي ورافضي وباطني وغيرهم من ملل ونحل. وسبق للإمام أبي محمد عبيد الله بن مسلم بن قتيبة ان ذكر ذاك الاختلاف العقائدي بين تلك الفرق في نهاية القرن الثالث الهجري. وجاء وصفه للخلاف والاختلاف، قبل عقود من محاولة الأشعري، حين ذكر تأويلات شيوخ المعتزلة وتعارض اتجاهاتهم "فأبو الهذيل العلاف يخالف النظام والنجار يخالفهما، وهشام بن الحكم يخالفهم، وكذلك ثمامة ومويس وهاشم، والأوقص وعبيدالله بن الحسن وبكر العمى وحفص وقبة وفلان وفلان. ليس منهم واحد إلا وله مذهب في الدين، يدان برأيه، وله عليه تبع". ويرى إبن قتيبة أن اختلافات شيوخ المعتزلة ليست في الفروع والسنن بل في "التوحيد، وفي صفات الله تعالى، وفي قدرته، وفي نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، وعذاب البرزخ، وفي اللوح. وفي غير ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبي إلا بوحي من الله تعالى". في السياق المذكور تطورالفكر السياسي ونشأ ما يعرف بالتشريع الذي كانت غايته أصلاً ربط المطلق بالزمني والعام بالخاص وهو ما أدى الى نشوء الفقه ومدارسه. ومن ناحية التحقيب الزمني والتتابع التاريخي يمكن القول إن الفقه نشأ أولاً التشريع وتأسست عليه ثانياً علوم السياسة والتاريخ والفلسفة. وكلها تأسست على قواعد الدين ثم تفرعت الى اتجاهات ومدارس. من الخلاف السياسي إذن بدأ السجال الفكري وأخذ الفكري يؤسس لخلافات سياسية جديدة، وهو مذهب تابعه الشهرستاني استناداً الى ابن حزم. إلا أن صاحب "الملل والنحل" لم يقرأ الخلافات وفق التتابع الزمني بل أعاد ترتيبها حسب المدارس الفكرية والمذهبية. فهو يبدأ بالمعتزلة بعد أن ينتهي من قراءة الاختلافات على الإمامة وهما على وجهين "احدهما القول بأن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار. والثاني القول بأن الإمامة تثبت بالنص والتعيين". ثم الاختلافات في الأصول وهي التي حدثت "في آخر أيام الصحابة بدعة معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، ويونس الاسواري في القول بالقدر وانكار اضافة الخير والشر الى القدر" ثم جاءت "الوعيدية من الخوارج، والمرجئة من الجبرية". ويرتب الشهرستاني الانقسامات الايديولوجية على أساس الاختلافات الأولى. فابتدأت القدرية نسبة الى القدرة في زمن الحسن البصري عندما اعتزل واصل بن عطاء وصاحبه عمرو بن عبيد "عن استاذه بالقول منه بالمنزلة بين المنزلتين". وسمي "هو وأصحابه معتزلة"، و"تلمذ له زيد بن علي وأخذ الأصول فلذلك صارت الزيدية كلهم معتزلة". ومن رفض زيد بن علي لأنه "خالف مذهب آبائه في الأصول" وهم من أهل الكوفة و"كانوا جماعة سموا رافضة". وأطلق الشهرستاني على هذه الفترة مرحلة الكلام، حين طالع شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة التي نشرت أيام المأمون "فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفردتها فناً من فنون العلم، وسمتها باسم الكلام". نلحظ من قراءة الشهرستاني السياق التاريخي الآتي: بدأ الانقسام على مسألتين: "الاستخلاف" و"الصفات". وأدى الانقسام الأول الخلافة الى نمو مختلف التيارات الفكرية والفرق السياسية الخوارج وفرقهم وأدى الثاني الى نشوء اتجاهات كلامية وفلسفية تفرعت في كل الجهات السلفيون وفرق المعتزلة. ومن هذا الانقسام تطور الاختلاف على مسألة الصفات صفات الصانع الى الختلاف على صفات الهوية من هو المسلم؟. فبعد الفتوحات دخلت الاسلام الأقوام والشعوب والقبائل حاملة معها موروثاتها السابقة فبات الصراع على تعريف هوية المسلم وتحديد صفاته من الأولويات. فسؤال "من هو المسلم؟" جاء في سياق تحديد خصائص الهوية الاسلامية والدفاع عنها انطلاقاً من تكفير الآخر أو حصر الإيمان ب"الفرقة الناجية". وبسبب تلك اللحظات التاريخية المتوترة نشأ علم يبحث في ملل الأمة ونحلها تأسس بداية على آليات دفاعية خوفاً على الهوية الاسلامية، وتطور الى منظومة أفكار تنطلق من حديث للرسول صلى الله عليه وسلم عن افتراق الأمة الى 72 فرقة واحدة منها ناجية وتعيد ترتيب الفرق وفق منهج خلاصي يصفي الفرق ويخرجها من دائرة الاسلام الا الفرقة التي ينتمي اليها العالم أو الفقيه أو المجتهد أو صاحب الرأي، كما فعل البيهقي في نقله لتلك المناظرة التي تمت بحضوره في نهاية القرن الخامس للهجرة. خلاصة القول إن الخلافات السياسية بين المسلمين تحولت لاحقاً الى مدارس معرفية فقهية - فلسفية ساهمت بدورها في تطوير فكرة التاريخ ونقلها من طور رصد الواقعات والحوادث الى طور تأويلها والتفكير فيها من منظار يعكس مصالح المؤرخ وصلاته المذهبية أو أصله النحلي والمللي. وبسبب ذاك الاختلاف ظهرت قراءات مختلفة للتاريخ قدمت تصورات متناقضة للواقعة الواحدة. * كاتب لبناني.