أرقتني لسنوات مسألة الأماكن المحرمة على النساء. وكنت أتساءل عما يجري فيها على رغم اني أعرف، كما يعرف الجميع، ما الذي يجري فيها. لكني كنت أتساءل، ربما، عن الكيفية التي تتيح لي ان أدرك أنا، بذاتي، ما يجري فيها. هناك بالطبع أكداس من الصفحات يتحدث فيها كتاب رجال عن هذه الاماكن. وكل كاتب قصة أو رواية في العراق كتب في/ عن حقبة الخمسينات والستينات، لا بد أفسح واسعاً للمشرب والخمر، للمبغى والمومس، للملهى والراقصات، وبالطبع للمقهى. وذلك اكثر بكثير مما أفسحوا للبيت، وبخاصة حين يكون بيت الأسرة. لكني كنت أريد بتساؤلي، معنى آخر غير المعنى السياحي الذي فهمه الآخرون من زملاء وأصدقاء اقترح علي بعضهم حلاً عملياً: أن أتنكر في زي رجل! وتحديداً في زي شعبي يمكن ان يموّه تفاصيل جسدي وشكل رأسي، وتطوعوا باصطحابي في هذه الحالة الى المقهى، متواطئين على تجاهل الأماكن الاخرى! وقد رفضت بالطبع. فقد أردت الذهاب بصفتي الشخصية، الواقعية، الحقيقية. ربما كنت مندفعة بتلقائية غريزية فيّ كإنسان - بغض النظر عن الجنس - للتحرك في المكان دون عوائق: أن أجلس على كرسي في مقهى وأشرب شاياً وأتفرج على العالم من حولي. وربماأردت - في ما بعد - أن اكتشف كيف تولّد لدي إدراك بتحديدات "الكف" عن الحركة في جغرافية المكان من حولي بسبب كوني أنثى. ولعلّي في النهاية أردت ان اكتشف كيفية ادراك خبرة شخصية في ارتياد أماكن موقوفة على الذكور ومحرمة على الإناث، ولكن! أيضاً وفق تقسيم عمل يحتكم الى فداحة حرية الذكور في الحركة والتواجد والاستثمار في أي مكان يشاؤون. فللإناث ان يرتدن هذه الأماكن، ولكن حين يكن "مشاعات". فوجود الإناث هناك لا يساويهن بالرجال، بل يجعلهن لكل واحد منهم، وللاأحد في الوقت نفسه. وعلى المرأة "ذات الخِدْر" ان تأخذ ذلك بحسبانها وتتحمل النتائج. وعلى الذكور المسؤولين عن سلوك المرأة ان يأخذوا ذلك بالحسبان ايضاً. ولذلك، ربما، اقترح على أولئك الزملاء التنكر! في ما بعد أدركت ان الارتياد سيظل سياحياً. قد يصلح مادة لكتابة صحيفة، ولكن ليس لإدراك جوهر خفي. كما أدركت أن ذلك ينطبق على جميع المحرمات، من مواقع ومراتب ومكانات، حيث دخول المرأة اليها ووجودها فيها يظل، مهما طال، هامشياً قشرياً. لطالما سرحت في ما حسبته فضاء حرية لا حدود له يمثله ارتياد المقهى. في الواقع ان الانتماء التلقائي للرجل الى ما هو "خارج البيت" يثير في خيالي صوراً جذابة لا تُحَد لما أتخيله سعادة مطلقة، قياساً بالتهديد القائم الذي تواجهه المرأة هناك، مهما كانت قيمتها، ومهما بلغ تطور المجتمع. ويا للغرابة، كم يبدو الأمر طبيعياً، ان يختلف فضاء ذو علامات وهمية بالكامل، في السمات والمعطيات والوعود، إزاء مخلوقين بشريين، لمجرد ان احدهما رجل والآخر امرأة! خطر لي ذلك وأنا استعرض اتجاهاً حثيثاً لكاتبات عربيات لاتخاذ شخصيات ذكورية لبطولة رواياتهن، سعياً وراء نوع من الاستقلالية عن "النسوية" التي قد يوصف بها أدبهن، فيودي به وبهن الى العزلة، كما يتخيلن. إلا ان الكاتبة في هذه الحالة انما "تستعير" القدر الذكوري، أو تتنكر في زي بطل روايتها لكي تقتحم/ تدخل/ تتسلل الى الواقع، الرهيف بالرجال. وفي ظني انها لن تدرك، بذلك، هذا الواقع كما يُفترض بالذات المؤنثة ان تدركه. لأنه في الأساس مستعصٍ على الإدراك الانثوي، ليس فقط بسبب امتناعه وانغلاقه، بل ايضاً نتيجة الكف والحجر المتلازمين على حضور المرأة فيه. فكم بالأحرى الفعل والتأثير به، أو امتلاك ذاكرة خبرة خاصة به، أو حتى الحق في تقييمه وإبداء الرأي فيه. على ذلك، فالكاتبة ستتبنى وجهة النظر الذكورية في العالم/ الواقع الذي تسللت اليه بواسطة بطلها، على الأقل لأنها ستصنع تاريخاً للاحداث بالاعتماد على التاريخ المدوّن والمنقول والمروي والمفسر، وقبل ذلك المصنوع من قبل الذكور. وغاية ما ستصنعه الكاتبة ان تُحل ذاتها، أو بعض ذاتها في الشخصية الذكورية فتعلي، بذلك، الجانب الأنثوي فيها، فتصنع بالتالي شخصية "أنثذكورية" لا تجد بُعدها أو ذورة تحققها في صنع التاريخ/ أو الواقع كما يريده الذكور. لكن، هل يتم ذلك بناء على موقف ايديولوجي، أم لعجز الكاتبة عن الانهماك الفعلي بالاحتكاك بالواقع ومحاكمته والفعل فيه بصفته واقعاً يخصها "أيضاً!": أعني العجز المتأتي من مكانها ومكانتها كأنثى مقصاة من عملية صنع الواقع، ومن ثم التاريخ. أظن ان الأهم هو تقديم الكاتبة موقفها ووجهة نظرها بالواقع/ التاريخ/ الثقافة الموروثة، حتى وان من موقع الكفّ عن الفعل، أو العزوف عن المشاركة. وربما كانت الشخصية الانثوية هي الأنسب لبطولة روايات تكتبها نساء، ما زالت قواسمهن مشتركة مع كل امرأة في الواقع من حولهن. "وقد" تنتقل الكتابة النسوية، اذا ما تطور موقف ووضع المرأة من الفعل الاجتماعي والثقافي الكلي، نحو المشاركة في صنع الواقع/ التاريخ/ الثقافة. ويكون هذا الانتقال فعلياً من ناحية، وبآلية ميسورة على قدر من التلقائية التي لا تتحقق إلا بالتراكم الحقوقي المتخلص من قانون الابعاد "الطبيعي" للنساء عن مثل هذه المشاركة. من هنا، فالذين يقولون ان ليس هناك أدب نسوي يتجاهلون، أو ربما يجهلون، موقع كل من الذكر والأنثى من هذه المداميك الواقع/ التاريخ/ الثقافة، سواء من عملية صنعها أو من التأثير فيها أو تقنينها أو حراستها، أو تقرير موقع كل جنس من حدودها. والمرأة التي لا تريد ان "توصم" بالنسوية تظن انها اذ تكتب كما يكتب الرجل فإنها تحرك المساواة. لكنها قد لا تسأل نفسها: من أين لها ان تكتب كما يكتب الرجل؟ ومن أين للرجل ان يكتب كما ينبغي لها ان تكتب؟ هي: الكائن الناقص القاصر المتطفل المنبوذ المكفوف عن الفعل الايجابي، ذاتياً وجمعياً وتاريخياً واسطورياً. وهو: ال... ال... ال... ال... الخ. وحتى العام الماضي "تخيلوا" كنا نحطط أنا وأحد الزملاء لجولة في شارع المتنبي حيث تباع وتشترى الكتب الجديدة والمستعملة، فاقترحت عليه ان نلتقي في مقهى "حسن عجمي" وهو مقهى قديم معروف يتجمع فيه الأدباء، ثم ننطلق منه الى شارع المتنبي القريب. فظن أني أمزح، ثم اقترح علي ان ينتظرني على الرصيف الذي يطل عليه المقهى، قائلاً ان النساء لا يدخلن المقاهي. قلت له: لكن هذا مقهى المثقفين، والأدباء تحديداً. قال: حتى لو كان ذلك، فالنساء الوحيدات اللائي دخلنه كن سائحات أو صحافيات اجنبيات! فسألته: ما الذي سيجري إذا ما دخلت المقهى، هل سيرفضون خدمتي، أم يطردونني، أم يتفرجون علي كما لو كنت دمية ناطقة، فتهرّب من الإجابة. وأتذكر حين وصلت الى بيروت للمرة الأولى في السبعينات. فقد كان أول شيء فعلته ان اشتريت جريدة وجلست في مقهى "على الرصيف" وحيدة. وطلبت قهوة، وجعلت أدعي تصفح الجريدة وأنا أختلس نظرات نارية الى ما حولي لأرى ما إذا كنت مُراقبة من قبل قوى معادية! يمكن ان تفسد حلمي العسير الذي قدر له ان يتحقق أخيراً. وفي ما بعد صارت أجمل أوقاتي هي التي أمضيها وحيدة في مقهى أو مطعم أو سينما حيث يمكنني ان أتشبع بذاتي الحرة، المصونة، المتحققة في أبسط فعل يمكن لانسان ان يقوم به. ولقد دخلت مقاهي كثيرة: في بيئات محافظة كسائحة، وفي بيئات مفتوحة، في بلدان عربية وأجنبية، لكنني لم أدخل قط مقهى شعبياً عراقياً، رغم انني امتلكت حق التقاء الزملاء والأصدقاء في الاماكن العامة. ورغم ان مقاهي كثيرة في بغداد تستقبل اليوم النساء والرجال معاً، والنساء من دون رفقة رجال، والنساء بمفردهن في مقاه خاصة بهن، أو النساء حين يكنّ جواز دخول للرجال في ما يُعرف بأماكن مخصصة "للعائلات". لكن تلك المساحة الذكورية قد امتنعت علي، لسبب - صدقوني وأنا أحسب نفسي "فهيمة!" - لم أفهمه قط. نازك الأعرجي