أمضى أبو ابراهيم الشالاتي ثلث عمره في مقهى النوفرة في دمشق القديمة. لم يكن صاحب المقهى ولا عاملاً فيه، بل كان زبوناً مدمناً من زبائنه، ولم يقل "دوامه"، فيه في يوم من الأيام، عن ثماني ساعات، وأحياناً امتد الى اثنتي عشرة ساعة. تلقى نبأ ولادة أربعة من أولاده وهو وراء طاولة النرد، ولم يكلف نفسه، مرة واحدة، عند تلقي خبر المولود الجديد، عناء انهاء "الدق" مع صديق عمره أبي توفيق، والذهاب الى البيت، بل كان يحث أبا توفيق على متابعة "البرتية"... ومن ثم لكل حادث حديث. وليس أبو ابراهيم حالاً استثنائية في هذا المجال، بل هو واحد من آلاف الرجال، تزدحم بهم مقاهي المدن العربية، يمضون فيها الساعات الطويلة في جلسات الثرثرة، أو تتبع الأخبار، أو لعب طاولة الزهر النرد، وورق الشدّة الكوتشينة، ويشربون الشاي والقهوة أو المشروبات الباردة، أو يجلسون صامتين يدخنون النارجيلة، كأنهم في عالم آخر لا علاقة له بالعالم الذي خلف الزجاج. ولا تنفرد المدن العربية بهذه الظاهرة، إذ أن للمقهى مكانة خاصة في نفوس رواده، في أي مكان من العالم. بعضهم يقتل أو يستهلك الوقت المستقطع من حياته. والبعض الآخر يعتبره محطة سريعة لجلسة استراحة، أو لقاء صديق، أو تناول فنجان قهوة... وتذكر فيرونيك ناهوم غراب، في دراستها الضافية عن المقهى انه كان أول مكان أعيد تأهيله وترميمه وسط أنقاض مدينة "ليبيك" الكرواتية، التي دمرت عام 1991، وكأنما البقاء في هذه المدينة الأوروبية المعاصرة المدمرة، لم يكن ممكناً إلا بوجود مقهى واحد على الأقل. ماذا قالوا عن المقهى؟ ولعل أطرف ما أطلق على المقهى من تعريفات، انه المكان الذي يتبادل فيه الناس الثرثرة والصمت. وقد يجد رواده نوعاً من "التسلية" في انتظار المشروب الذي يطلبون، أو في تأمل ذوبان قطعة السكر في الفنجان، كما يرى برغسون، أو في متابعة وجوه المارة عبر الحاجز الزجاج. مشاهد تخلو من أي بريق أو إثارة، لكن المقهى يعطيها وقعاً خاصاً في نفوس رواده. انه نوع من التجربة الانتروبولوجية المحض، ولكن بلا مضمون ولا طقوس. ويقول احد "مدمني" المقهى، وهو استاذ مساعد في الجامعة: "أنا من رواد المقهى، لكنني لم أحاول أن أتساءل، مرة واحدة، ماذا يعني مشروع دخول هذا المقهى الذي على الناصية؟ ولماذا نشعر براحة نفسية وبحال من "الأنس" عندما نعلم أن المقهى يفتح أبوابه حتى منتصف الليل". ويستدرك: "مرة واحدة تساءلت. لماذا أشعر بالضجر حين أجلس وحيداً في البيت، ولا أحس بهذا الضجر عندما أجلس في المقهى، حتى لو كنت في جلستي وحيداً؟". ويتابع: "لم أجب عن هذا السؤال، ولم أحاول ان أعطيه تفسيراً معيناً، بل تركته مفتوحاً". ويقول استاذ في اللغة العربية تقاعد حديثاً: "كنت أظن ان المقهى للمتقاعدين، لكنني لم أجد وقتاً كبيراً بين الحالين، سوى أن المتقاعد يمضي فيه وقتاً أطول". ولا أحد يعرف - على وجه الدقة - متى بدأت ظاهرة "المقاهي" وان كان البعض يعود بها الى مرحلة اكتشاف حب البن وشرب القهوة. إذ كانت تعقد جلسات لتناول هذا الشراب، تحولت في ما بعد مقاهي. ومع هذا يعتبر المقهى، في الأصل، "حالاً شرقية"، اهتم بها الرحالة الغربيون، كما يقول الكاتب خليل صويلح في دراسة عن مقاهي الشرق الكويت العدد 118 مستنداً الى كتاب مهم عن هذا الموضوع وضعه الروائي المصري جمال الغيطاني، قدم له بقوله: "يرى البعض ان المقاهي أماكن يتبدد فيها الوقت، ويتعطل الانتاج، ولكنني إذ أركن الى أحد المقاهي القديمة، أحاول تلمّس معنى الزمن، الرائع والحلو، الذي نفتقده الآن في الضجيج والزحام، وايقاع الحياة السريع اللاهث. ان المقهى نموذج مصغّر لعالمنا الذي يضج بكل ما تحتويه دنيانا". وهناك مصادر كثيرة عن المقاهي في كتب المستشرقين أوردتها الدراسة ومنها: - كتاب رحلة الى فارس، يصف فيه الرحالة توماس هيبرت القهوة بأنها مشروب أسود جداً، وكيثف ومر، ويشرب ساخناً، ويبدو صحياً، ويطرد الكآبة، ويجفف الدموع، ويهدئ الغضب، ويولد أحاسيس رقيقة. - ويقول المستشرق الانكليزي ادوارد وليم لين الذي زار القاهرة، مطلع القرن التاسع عشر، ان فيها أكثر من ألف مقهى. - ويروي جان شاردان ان المقهى كان في بداياته مصاطب للجلوس على الطريقة الشرقية، ثم أصبح مخصصاً لاحتساء القهوة المعدة بكل اتقان. والى القهوة، انتشرت "المكملات الأخرى". فارتبط بها التبغ، وكان يدخن، أول الأمر، بطريقة النارجيلة قبل أن يصبح على شكل اللفائف السجائر المعروفة. ثم أضيفت مشاريب أخرى الى القهوة مثل الشاي والزهورات والحلبة والزنجبيل. وظهر ما يسمى "الحكواتي" الذي يجلس في مكان عالٍ ويقرأ على رواد المقهى سير الأسلاف، مثل سيرة الزير وعنترة وأبي زيد الهلالي، وعلى حلقات، حتى إذا جاء التلفزون وحل محله، لم يعد يظهر إلا في بعض المقاهي الشعبية وفي شهر رمضان المبارك بالتحديد. وترتبط اسماء بعض المقاهي في الشرق والغرب بأسماء المشاهير، كارتباط اسماء بعض المقاهي الفرنسية بأسماء عدد من الكتاب والشعراء والفنانين الذين كانوا يرتادونها. وارتباط اسم الروائي العربي نجيب محفوظ بأسماء بعض مقاهي القاهرة مثل "مقهى ريش" دليل الى ذلك، خصوصاً انه رصد حياة المقاهي ببراعة في عدد من رواياته. مقاهي دمشق ويدرس الناقد المعروف صميم الشريف مقاهي دمشق في أحد تحقيقاته. ويقول انها كانت في الأربعينات والخمسينات مدينة المقاهي بين المقهى والمقهى... مقهى، في شوارعها وأسواقها الرئيسة والشعبية. وارتبطت اسماؤها أيضاً بأسماء بعض الكتّاب والأدباء والصحافيين، كمقهى الكمال الذي كتب فيه الأديب الراحل معروف الارناؤوط رائعته "سيد قريش"، وكان من رواده أيضاً زعيم الحزب الشيوعي السوري خالد بكداش. وهناك "مقهى علي باشا" الشعبي على ناصية ساحة المرجة، ومن رواده الأديب الراحل صدقي اسماعيل. وعلى الضفة الأخرى لنهر بردى "مقهى الطاحونة الحمراء" ومقهى "الأولمبيا" اللذان يضمان وجوه السياسة، والى جانب محطة الحجاز "مقهى الحجاز" الذي لا يزال قائماً الآن، ومقهى "المشيرية" ومقهى "المولوية". وفي شارع بورسعيد ثلاثة مقاه شهيرة هي "دمشق" و"الهافانا" و"البرازيل". وكانت للأدباء والمثقفين وأساتذة الجامعة، ومدرسي الثانويات، ومن هؤلاء: كامل عياد وصلاح المحايري وزكي الأرسوزي ويوسف العيسى وفوزي أمين وسعيد الجزائري وأحمد الصافي النجفي وعبدالسلام العجيلي وشاكر مصطفى ونزار قباني وبديع الكسم وجميل صليبا والشاعران نديم محمد وأبو سلمى. أكثر هذه المقاهي جرفه التنظيم الجديد للمدينة وتبعثر الأدباء بين كافيتريات الفنادق الكبيرة. واختفت من دمشق مقاهيها الشهيرة، حتى "مقهى الرشيد" الصيفي الذي عقد فيه المؤتمر التأسيسي الأول لحزب البعث العربي الاشتراكي، هدم وأقيم مكانه بناء للمركز الثقافي الروسي.