في كل الكتب التي تتناول بالشرح والتحليل ما يمكن ان نسميه "المدن الفاضلة" استناداً الى الكتاب الاشهر للفيلسوف المسلم ابو نصر الفارابي، ثمة مكانة خاصة تكرس لكتاب "يوتوبيا" للسير توماس مور، الذي عرفته السينما بلقب "رجل لكل العصور". و"يوتوبيا" هو بالتحديد كتاب عن "مدينة فاضلة" تخيل الفيلسوف الانكليزي النهضوي الانساني، والذي كان مستشاراً للملك هنري الثامن، وجودها في جزيرة متخيلة تقع في نصف الكرة الجنوبي في موقع يرى كثيرون انه موقع جزر اليابان، بمعنى ان توماس مور استعار اليابان، الى حد ما، ليجعل منها المكان الذي يعيش فيه الناس تلك الحياة "الفاضلة" التي نقل تفاصيلها بحار يدعى رافائيل هيثلوداي، بعد ان عاش فيها خمسة اعوام. في البدء لا بد من الاشارة الى ان الاسم الذي اختاره توماس مور لكتابه ولمدينته الفاضلة، عاد وأُسبغ لاحقاً على المدن الفاضلة المتخيلة جميعاً، من جمهورية افلاطون، الى عالم هاكسلي "الطريف الشجاع" مروراً "بمدينة الله" للقديس اوغسطين، و"مدينة الشمس" لتوماسو كامبانيلا، وعشرات "المدن" الأخرى التي كانت غايتها دائماً اعطاء صورة مسهبة، للعالم كما يجب ان يكون من وجهة نظر المفكرين. العالم كما يجب ان يكون، هو الغاية اذاً من كتابة تلك النصوص، وهذه الغاية لئن دلت على شيء فإنها تدل بالطبع على نوع من الاختلال بين الافراد المتميزين، والمجتمعات التي يعيشون فيها، ما يدفعهم الى البحث عما هو افضل. وبالنسبة الى توماس مور، كانت الحياة في "يوتوبيا" وتعني شيئاً قريباً من "اللامكان" هي الحياة المثالية التي يتعين على بني البشر اتباعها. غير ان ما ينبغي التوقف عنده هو ان هذا الكتاب القريب والمسهب في تفاصيله، لا يمكن احتسابه صورة لدولة يتعين بناؤها، بقدر ما ينبغي اعتباره، وفي الوقت نفسه، انتقاداً للمجتمع الانكليزي والاوروبي زمن وضع الكتاب، اي بداية القرن السادس عشر 1515. الكتاب هو بعد كل ذلك دعوة الى اتّباع أعلى القيم الروحية بغية الافلات من مجتمع المادة المفسدة والحكم الفردي القاسي. في "يوتوبيا" توماس مور، كما هو الحال في "جمهورية افلاطون" ليس ثمة ملكية خاصة، هناك الخير العام والمساواة. و"يوتوبيا" تنقسم الى 54 مدينة صممت كلها على نمط واحد باستثناء العاصمة. وفي كل مكان للشوارع العرض نفسه وللبيوت الهندسة نفسها والأبواب بلا اقفال. وكل عقد من السنين يبدل الناس مساكنهم. وهنا، الكل يلبس الثياب نفسها. وكل شخص يعمل ست ساعات في اليوم. وينام في الثامنة. وعند الصباح دروس للجميع. وبعض الناس، بسبب قدراتهم العقلية، ينتخبون رجال معرفة. والابناء يعيشون في بيوت الآباء، حتى يفيض عدد الاطفال عن مقدرة المنازل الاستيعابية فتنشأ فروع جديدة. واللافت هنا وجود الرقيق، الذين لا يتمتعون بالامتيازات نفسها، وهم يزاولون الاعمال القاسية، ولا سيما ذبح الحيوانات لكيلا تعم روح القسوة بين الاحرار. والطعام جماعي، تطبخه النساء، ويخدمه العبيد. والزواج يتم بين الاحرار. والتجارة الخارجية مزدهرة. وبالتالي ثمة علاقات مع الخارج، ولكن ثمة حروب ايضاً. اما المحاربون فمرتزقة يُستأجرون لذلك، وهم غالباً اجانب. والنساء تحارب كالرجال. والقواعد الاخلاقية صارمة، وصارمة الى درجة ان برتراند راسل حين كتب عن "يوتوبيا" من خلال كتابته عن مؤلفه قال ان الحياة لا شك مملة في هذه المدينة الفاضلة الى درجة لا تطاق. ولكن مملة او غير مملة، من المؤكد ان وصف الكتاب للحياة هناك قد داعب مخيلة الكثيرين، وكان في خلفية الكثير من النظريات الخيالية وغير الخيالية. من المفيد ان نذكر هنا ان كتاب "يوتوبيا" كان في الاصل كتابين، "اكتشف" مور ثانيهما حين زار هولندا واجتمع بصديقه الفيلسوف النهضوي ايرازموس، الذي يهديه الكتاب بعدما "اعاد كتابته" في العام 1516، سائلاً اياه ان يساعده على نشره. وتوماس مور الذي ارتبط اسمه بهذا الكتاب، هو نفسه ذلك المفكر الذي تربى تربية دينية لكنه آثر التفكير الحر بعد ذلك. وهو ولد في العام 1478. وهو حين انهى دراسته وتخصص في القانون، ارتبط بالملك هنري الثامن ومنح لقب سير في العام 1514. وذات لحظة عيَّنه الملك مستشاراً له، في وقت كان فيه الملك على وشك طلاق كاثرين داراغون، احدى زوجاته، والاقتران بآن بولين، وكان مور - المرتبط بالكنيسة الرومانية - معارضاً للطلاق، فأقاله الملك ثم دعاه لحضور عرسه فرفض. بعد ذلك اعلن هنري الثامن نفسه رأس الكنيسة الانكليزية وهو ما عارضه مور أيضاً، فأدين بتهمة الخيانة العظمى وقطعت رأسه في العام 1535، ليدخل التاريخ كمفكر حر شرس، ولكن خصوصاً كصاحب ذلك الكتاب الذي يتحدث، سلباً، عن انكلترا بالطبع، اكثر مما يتحدث ايجاباً عن اية دولة خيالية.