الغجر قوم الرحال والترحال، عشاق الحرية والانفلات، وقد اطلق عليهم اكثر من سبع تسميات مختلفة في البلاد. وسواء كانوا غجراً كما يسميهم العالم او "نَوَراً" كما نطلق عليهم في بلادنا العربية، فهم شعب اسطورة في شكل ما، وشعب يختلف عن الشعوب الاخرى في معظم مجالات الحياة كالاعتقاد والعادات والتقاليد. وهذا ما تبين لمن يزور هذه القبائل في سورية ولبنان اياماً متتالية بغية الاطلاع على حياتها اليومية. لا عجب ان يناقش ممثلو الغجر في اوروبا، اثناء اجتماعاتهم وخصوصاً في بودابست الكثير من شؤون او شجون هذه المجموعة البشرية التي يقول المؤرخون المعنيون بالسلالات والهجرات، إن موطنهم الاصلي يعود الى شمال الهند وهو يعتبر مهداً للغجر الذين اضطرتهم الحروب الناشبة في تلك المنطقة على التشرد في انحاء العالم. ومن بين المواضع التي نوقشت وباهتمام كبير كيفية الحفاظ على الطابع المميز والخاص للغجر وسبل الحفاظ على تقاليدهم الفنية والثقافية والتراثية مما يعني عدم ذوبان الغجر في التجمعات البشرية والثقافية المسيطرة حيثما يوجدون. يبلغ عدد الغجر في العالم ما يقارب خمسة عشر مليوناً يتمركزون في الشرق الاوسط في بلدان مثل ايران والعراق وسورية ولبنان وتركيا والاردن... وعددهم غير محدد بدقة. اما في اوروبا الشرقية فهم ينتشرون في الاتحاد السوفياتي وعددهم نصف مليون وفي بلغاريا نصف مليون والمجر ستمئة ألف ورومانيا ما يقارب المليون وكذلك يوغوسلافيا. اما في تشيكوسلوفاكيا فيبلغ عددهم اربعمئة ألف نسمة، وفي اوروبا الغربية يتوزعون في الدنمارك بنسبة قليلة تبلغ ثلاثة آلاف وفي فنلندا ثمانية آلاف والسويد عشرة آلاف وكذلك بلجيكا وبريطانيا. اما في فرنسا فيبلغون مئة ألف وفي اسبانيا مئتان وخمسين ألفاً وفي المانيا ثمانين ألفاً. وعلى رغم توزع الغجر في الكثير من الأمصار والبلدان الا ان لديهم التقاليد نفسها والعادات في كل البلدان وخصوصاً ما يتعلق بفنونهم وآدابهم الشعبية وقد بذلت الحكومات الشيوعية جهوداً لاذابتهم في المجتمعات ذات الطابع الشمولي ولم تنجح. والآن اذ تريد كل مجموعة بشرية في هذا العالم العودة الى اصولها ومنبعها الثقافي، فإن الغجر لا يعملون فقط من اجل الحفاظ على هويتهم الخاصة وانما يجهدون لتشكيل برلمان خاص بهم استكمالاً لسعيهم المتواصل من اجل ابراز هويتهم الثقافية وابراز ما نسميه وحدة المكان والجغرافيا والتعبير عن الخصوصية الوطنية. وتبرز سمات الغجر عبر التجوال في المحافظات الداخلية في سورية كحمص وحماه وحلب ودير الزور وبرالياس وفي السهول الواقعة على حدود لبنان وسورية حيث تتوزع خيامهم في ممالك قائمة يحكمها رئىس القبيلة وهم يأتمرون بأمره ويرجعون اليه في كل امورهم. رئىس القبيلة "دحام المزعل" الذي التقيناه في خيم بر الياس ليحدثنا عن الغجر لم يتمالك عن القول: "خيمتنا تختصر العالم كله، ففيها عالم الغجر المجهول الذي لم يقترب احد منه بالدراسة من جميع جوانبه النفسية والاجتماعية والاصولية. ولا اعرف سبباً واضحاً لمعاملتنا كمثل من يستحق الشتم والتحقير والنظرة الدونية. ولا اعرف سبباً لاهمال ثقافتنا وادبياتنا وخصوصية شعبنا التاريخي اي اجدادنا الغجر الذين اينما يحلوا يحل معهم الخير والعطاء. فهم لا يؤذون احداً، ولا يعتدون على املاك احد. وقد تعرض الغجر على مدى حياتهم لأقسى انواع القمع والاضطهاد وخصوصاً ايام النازية، حين قتل النازيون ما يزيد عن ثمانمئة ألف شخص في المعتقلات. وعلى رغم ذلك وعند محاكمة مجرمي الحرب، لم يُدعَ اي من الناجين الغجر للشهادة في المحاكم، ولم تُدفع لهم التعويضات. وأظن ان الامر بدا واضحاً لتبيان سبب التساؤل عن تنقل الغجر من مكان الى آخر. ومع ذلك فنحن نحترم العرب كثيراً ونكن لهم الود وباعتقادي ان شهامة العرب وحسن ضيافتهم، شجعا كثيراً الغجر على النزول بينهم. ولا يغيب عن اذهاننا ان معظم الغجر يسافرون الى اوروبا كفرنسا ولندن وايطاليا واليونان للسياحة او الى الهند والمجر لتثبيت نفوسهم كغجر وهم يتمتعون بمزايا وخصائص المجتمع الغجري او للحظي بالمعونات المخصصة لهم. ويساعد على ذلك تحريض علية القوم من النساء العجائز الغجريات اللواتي يقمن بعمل رئىس القبيلة اذا غاب عنها. والتقينا بالعجوز "برنجي" في الخيمة او المنزول او الديوان كما يسمونه وأمامنا "منقل" الفحم تستريح فيه حجرات ابريق القهوة والى جانبه المهباج. سألناها عن حال الغجر اليوم ولكن تعذر عليها وكان الوسيط بيننا حفيدها "صباب" الذي نقل اليها بواسطة لغة الغجر ما نسألها فقالت: "بلغت من العمر مئة وخمسة عشر عاماً شهدت حروباً كثيرة كالحرب العالمية الاولى والثانية والاحتلال والانتداب والزلازل والفيضانات وشاهدت ابناء احفادي وقريباً احفاد احفادي وزرت ما يقارب نصف العالم واكثر. ولم اشأ ان ابدل لغتي بلغة اخرى او ان ألبس زياً ليس زي الغجر. وقد زرت الغجر في نصف العالم وجدت ان العادات والتقاليد المتوارثة واحدة لا تختلف بين الغجر في بلاد العالم كلها. ولكن هذه اللغة وللأسف غير مكتوبة، وقد حاولت من خلال زياراتي للغجر في اوروبا ان نبدأ بالعمل على كتابة هذه اللغة لتبقى على مر الزمان وليس كما يعتقد البعض انها سر لا نستطيع البوح به، كما انها مفتاح للغجري الاصيل اذ يتلقاها الطفل من صغره فيتعامل معها على انها جزء منه ولكن الافضل ان يتكلم بها الغجري فقط. فبهذه اللغة يحمل الغجري معه آلامه وأحلامه ويتميز عن غيره من البشر حتى في اغانيه وأشعاره التي ظلت مجهولة الهوية الى ان قام قبل سنوات الالماني "هانز يكون نويكت" بنقل القصائد الغجرية الى الالمانية مع دراسة عميقة لحياة الغجر وفيها يتجلى الوضوح والحدة في سمات اشعار او اغاني الغجر. وتتجلى فيها الرغبات والمشاعر والشكوى وأحياناً الالم والجوع والمنفى. وقد كتب الشاعر "لوركا" الكثير عن حياتنا، فديوانه "حكايات غجرية" الذي تناول فيه مواضيع غجرية في كل ابعادها جسد وجوه الحياة المعاصرة وعلاقتها بالتراث في اللغة الغجرية. ولا تقتصر حياة الغجر على التجوال الدائم فقط، اي في عدم الانتماء الى ارض ثابتة او عنوان بل ينعكس سلوكهم في مجمل حياتهم اليومية كالتجمع في الخيم الكبيرة وقضاء ليال من السمر والاحتفال كل ليلة بعد يوم شاق على انغام الربابة والبزق والطبلة. وهناك الرقص الغجري المعروف والغناء الذي لا يقف في معانيه عند حدود، فهو كهارب يبحث عن السعادة المفقودة، ولا نستغرب ايضاً ان نجد الحزن احياناً والقسوة والغيرة في معاني هذه الاغاني احياناً اخرى: "سأنتظرك في الغابة/ في خيمة لم يولد فيها أطفال بعد/ مع بلبل ووردة". احتل الغجر أمكنة متميزة في الأدب الغربي، وخصوصاً الأوروبي منه كما في بعض روايات لورنس وأرنست همينغواي وشعراء اسبانيا وأوروبا الشرقية كما حدثتنا المغنية الغجرية "زاهور" التي تغني كل ليلة في الخيمة الكبيرة ويتجمع حولها وجهاء الغجر اضافة الى الأقارب والأهل والأخوة تقول: "لا أعرف تماماً متى بدأت الغناء ولكنني أعرف أنني ومنذ صغري أغني وأختي "ناهور". أما أخي الأصغر فيرافقني على البزق ليلاً ويتقن "القوالشة" أي طب الأسنان وتركيب أسنان الذهب لمن يريد. ولدينا مهن نعيش منها كصناعة السكاكين والسبحات والفنون اليدوية والغناء التي احترفته وصرت معروفة به. ولا يخفى على أحد ان علم الفلك والتبصير من شأننا. وكثير منا يعيش على ما يجنونه منه اضافة الى قراءة الكف وهي أصعب المهن لأنها تحتاج الى قدرة كبيرة في التفكير والتركيز، ومع ذلك فنحن نعيش حياة صعبة ولكنها تعجبنا ونتمنى أن يعم السلام العالم كله لنستطيع ان نواصل حياتنا التي ألفناها... وأخيراً تقول "شوباش" وتعني حظاً سعيداً.