تتميز دمشق كمدينة عريقة، بانتشار أسراب الحمام في سمائها. وعادة تربية الحمام كهواية، عادة شعبية قديمة، تكاد تندثر، فلم يكن يخلو حي من أحياء دمشق من "الحميماتية"، وهو الاسم الذي يطلق على هواة تربية الحمام. وعبر الزمن التصقت ب"كشاشي الحمام"، صفات سلبية كثيرة، كالتلصلص كونهم يبقون فترة طويلة على السطوح، والكذب "فلا تؤخذ شهادة لكشّاش حمام في الاعتبار، ولا يعتدّ بها. يضطر كشاش الحمام للكذب، حين يحظى بحمامة من سرب آخر، وهو في عرف الكشاشين شطارة وليست سرقة. وأصبحت كلمة "كشّ" مرادفة لكلمة كذب. وعرف عن كشّاشي الحمام المبالغة. ففي سهراتهم يسترسلون في الحديث عن "مناقب" أو "كفاية"، حماماتهم وميزاتها، فيفخر أحدهم بأن طيره يرجع إليه ولو طيّره من بلدة اخرى. ويقوم مبدأ كشّ الحمام، على تربية حوالى 10 أو 20 أو 30 طيراً بأشكال وألوان مختلفة، وأنواع عدة، متفاوتة الأسعار، يتم الاعتناء بها تدفئة وغذاء، وتخضع ل"دورة تدريبية" صارمة حتى تعتاد تماماً على صاحبها وعلى الرجوع الى مسكنها، فتطير مسافات بعيدة، وتختلط مع أسراب أخرى اثناء الطيران، ولا تتوه عن مسكنها. وتكون المنافسة بين الكشّاشين اثناء اختلاط الأسراب في فترة طيرانها. ويحدث أن يضلّ طير عن سربه، وينجذب الى سرب آخر ويختلط معه. وبلمح البصر يعرف "الحميماتي" المتمرس هل كسب حمامة أم خسر، فإذا حظي بطير جديد، يسارع إلى إنزال الكشة ويلتقط الطير فوراً ويحبسه ويقصّ جناحيه، ويخضعه للتدريب، قبل أن يطيّره مع سربه، ليضمن عدم عودته الى صاحبه الأصلي. ويبدو أن هذه العادة مشروعة في عرف "كشاشي الحمام". وكثيراً ما تتم محاربة هذه الهواية، وينظر الى مساوئها المتمثلة في إضاعة الوقت والجهد والمال لأن الحميماتي خسران دوماً، وإهمال الواجبات العائلية، وخصوصاً بعد أن تتحول الهواية الى إدمان أو "سوسة" بلغة أهل الشام. ولكن لا ينظر الى الجوانب الأخرى فيها، من كونها تسلية بريئة، مثلاً، تقدّم متعة لا تضاهى لهواتها، من خلال استئناس الطيور والتمتّع بأشكالها وألوانها المختلفة. وهي تعلّم اللطف والحنان والصبر، لأن تربية الفراخ في حاجة الى رفق، وطول أناة، وهي ذات فائدة تربوية للصغار والكبار. فمراقبتها تيسّر فرصة دراسة حياة هذا المخلوق اللطيف والتعرّف إلى عالمه القائم على الألفة والمودة. علاوة على ذلك فإن تربية الحمام سمة من سمات المدن القديمة، ومعلم من معالم دمشق في شكل خاص. فلا أحلى من سماء تظلّلها أسراب الحمام، ولا أعذب من هديلها وأصوات اصطفاق أجنحتها. وفي كل ساحات المدن الكبرى، يتجمع الحمام أسراباً، فيضفي على المدينة بهجة وجمالاً، فهل تحارب هواية كهذه، تقدّم كل هذا الجمال والمتعة؟