الانكليز أصابوا الصديق القديم سليم نصار، صداقة لا عمراً، في "ثاني" أعز ما يملك. وهم أصابوه في جيبه، على اعتبار ان أعز ما يملك هو الأسرة الكريمة لا ما فكر القارئ به. اخونا سليم، أو سِي سْليم، كما كان يخاطبه المغفور له الملك الحسن الثاني، عرض عليّ فاتورة بمبلغ 10934 جنيهاً استرلينياً، أي ما يزيد كثيراً على 20 مليون ليرة لبنانية، وهو ثمن شارع بمبانيه في رأس بيروت أيام العز الضائع. طبعاً الدنيا تغيرت، والأسعار ارتفعت، ومع ذلك فالفاتورة لم تكن ثمن سيارة جديدة، أو قسطاً أول على شقة لابنه سعيد، بل ثمن كشّ حمام. كشّاش الحمام، في أيام العز الضائع الغابر السالف الذكر، لم تكن تقبل شهادته في المحاكم اللبنانية، ربما لأنه كان يقسم بكل مقدس وعزيز انه لم ير الحمامة التي سرقها من كشّة جاره. وإذا كان يكذب على حمامة، فهو سيكذب على دجاجة فما فوق. أتوقف هنا لأشرح الموضوع، ففي لبنان ثمة رياضة اسمها كشّ الحمام، والكشة قد تتألف من 20 حمامة وقد تزيد على مئة، كلها من الذكور، تطير بشكل دائري، على وقع اشارة مالكها وصفيره، وتصطدم بكشة منافسة فينتقل بعض الحمام من واحدة الى الأخرى. وعندما يرفع الكشاش حمامة انثى بيده، تسرع الذكور لتهبط على السطح، ويأسر الكشّاش الحمام الغريب، ثم يحصي حماماته ليرى ان كان خسر شيئاً منها. وأتوقف مرة ثانية لأقول ان سليم نصار يقيم في شقة ضمن مجموعة بنايات سكنية فخمة في غرب لندن. ويبدو ان الحمام غزا الحي، وترك آثاره في كل ركن وشرفة. وهكذا كان ودخلت شركة كشّ الحمام على الطريقة الانكليزية الصورة وقدمت فاتورة وجدت في تفاصيلها 5076 جنيهاً أجر صقر يأتي به مدربه، ويتركه يحلق فوق الحي، فيفر الحمام منه، و2191 جنيهاً لازالة قفلات الحمام، و959، لتركيب مسامير شوكية تمنع الحمام من أن يهبط على المباني، و3.055 قيمة العقد السنوي، وأرقاماً كثيرة تالية، بينها ضريبة مبيعات. لو كان المبلغ للخلاص من حماة لفهمنا، إلا أنه ليس حماة بل حمامة. ولم اقترح على أخينا سليم أن يأكل أهل الحي الحمام، فأنا أعرف تعذر ذلك، وقد قرأنا قبل أشهر عن يوناني كان يذهب بقفص الى ميدان ترافلغار، حيث يعيش ألوف الحمام، ويملأه لحساب مطعم يوناني يقدم الحمام لزبائنه. وهو اعتقل إلا أنه لم يحاكم، مع انني منذ عرفت لندن، وهناك حملات لتقليص عدد الحمام في ميدان ترافلغار وحوله بسبب ما يوقع من أضرار في تماثيل تاريخية، منها نصب نلسون، ومبانٍ قديمة بنيت في أيام أمجاد الامبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، وأصبحت لا تشرق. جمعيات الرفق بالحيوان والطير في بلاد الانكليز لا تسمح بقتل الحمام أو أكله، وواضح ان اعضاءها لم يذوقوا الحمام بالفريك في مصر ليغيروا رأيهم. وهم يعترفون بمدى الأذى الذي يلحقه الحمام بالبيئة التي يختارها، إلا أنهم يصرون على أن يتأقلم البشر معه، لا العكس. في مثل هذه الحال، فالحل اللبناني لمسألة الحمام وكل طير غير وارد. وكان هناك قبل عقود ديبلوماسي شاب في السفارة اللبنانية في لندن، طار عقله وهو يرى الطيور في حديقة كنزنغتون، قرب السفارة والقنصلية، فاشترى بندقية تعمل بضغط الهواء، وأخذ يصطاد منها ما يصلح للمازة. وأخيراً ضبط بالجرم المشهود، وكان حادثاً ديبلوماسياً مشهوداً أيضاً، وترك الرجل بريطانيا قبل أن يعتبر شخصية غير مرغوب فيها. كيف نشرح للانكليز ان أرقى عناصر المازة هي العصافير المقلية، خصوصاً الصغيرة ذات الدهن، مثل عصفور التين، أو عصفور القمح الذي كنا نصطاده في لبنان، وقد دخلنا موسمه الآن. أكتب قبل ذهابي للصيد في هنغاريا كعادتي كل سنة، والناس هناك متخلفون مثلنا، لذلك نصطاد كل ما تقع العين عليه. وإذا اصطدنا طيراً ممنوعاً، أو حيواناً محمياً، تتم تسوية الأمور في الحقل بأقل قدر ممكن من المال. سأصطاد في هنغاريا وقلبي مع أخينا سليم الذي تركته يقف في شرفة الصالون ويخاطب حمامة بقوله: أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارتا هل تشعرين بحالي وعندما أعود سالماً غانماً من بودابست، سأخلع قبعة الصيد وأدور بها حول المنطقة لجمع التبرعات لمشروع كشّ الحمام من الحي، علماً ان حصة سليم نصار منه محدودة، لأن المبلغ سيقسم على عدد الشقق. في غضون ذلك ليس عندي لكشّاش الحمام الانكليزي سوى الدعاء عليه "حمّى تحمّك".