قبل ربع قرن انبأنا صديق لنا أنه سيسافر إلى الخارج. سألناه لماذا؟ قال بحثاً عن عمل، قلنا له وعملك الذي تعمل فيه اليوم.. لماذا ضاق عليك؟ قال: هو عمل بل مستقبل. ونقوده لا تكفيني اسبوعاً. حاولنا اقناعه أن يظل معنا ويحاول تصحيح وضعه حتى لا يسافر، ولكنه رفض بحزم واشترى تذاكر الطائرة وخرج من مصر المحروسة. انقطعت اخباره في البداية. ثم فوجئنا به بعد سنوات بنزوله إلى اجازة في مصر. كان مظهره يبدو مختلفاً. كان العهد به في مصر انه كان يرتدي ملابس مثل التي نرتديها نحن.. ملابس صنعت في مصر. أما بعد عودة صاحبنا فكانت كل ملابسه اجنبية من أرقى الأصناف. وقال لنا الصديق: إن كل ملابسه ممهورة بإمضاء بيت من بيوت الأزياء في أوروبا. ورفض أن يفصح لنا عن هذا البيت، فقلنا إنه حاول اتقاء الحسد واعتبر بيت الأزياء سراً عسكرياً. المهم أن صاحبنا انتقم من أيام فقره اعظم انتقام، وقلنا في انفسنا لعل ناره تبرد بعد الانتقام ويعاود سيرته في الدنيا بتواضع الفقراء الذين لا تعنيهم الأناقة كثيراً. كان يسافر فيمكث سنوات ثم يعود الى مصر في اجازة مدة شهر أو شهر ونصف. وراقبت اسلوبه في الانفاق. كان النهم الاستهلاكي صار طبيعة ثانية له. في البداية كان يهتم بملابسه. ثم بدأ يهتم بالأدوات الكهربائية والالكترونية. اشترى غسالة وثلاجة، بعد عامين تصرف مثل اغنياء اميركا حين يستبدلون الثلاجة والغسالة بجهازين جديدين ويبيعون الاجهزة القديمة. بعد ذلك دخل في اجهزة التلفزيون والفيديو، اشترى جهازاً للتلفزيون، ثم عاد واشترى جهازاً لزوجته، وجهازاً ثالثاً لابنته ثم اشترى مع التلفزيون فيديو. ثم ظهر الدش فاشترى دشاً واحال الفيديو إلى التقاعد. كان يشتري كل جديد يظهر في الاسواق، ثم قفز قفزة اخرى وصار يشتري كل ما يظهر في الاسواق، وكان هذا النهم الاستهلاكي يكلفه نقوداً كثيرة، ولكنه كان مندفعاً مثل صخرة سقطت من أعلى الجبل. ولم يعد يمكن أن يوقفها أحد. وكلمته في ذلك مرة. قلت له أنت تقلد نمطاً اميركياً في الحياة، ولكن هذا النمط الذي يبدو لك معقولاً ليس في حقيقته كذلك. ان الانسان في اميركا مشروع مهم لزيادة الانتاج، وهو مشروع أهم لزيادة الاستهلاك. وفي مجتمع كالمجتمع الاميركي يلعب الاستهلاك دوره في حفظ توازن السوق ومن دون الاستهلاك بهذه الصورة تتوقف المصانع عن الانتاج وتبدأ في تسريح العمال. هذا الواقع الاميركي ليس هو واقعنا. انت لا تستهلك بضائع وطنية وإنما تستهلك بضائع أجنبية، وهذا يعني أن نقودك تذهب الى جيب الغرب. ان النهم الاميركي ضرورة في المجتمع الاميركي، ولكنه أذى كبير في المجتمعات التي تعيش فيها. استمع إلى حديثي بضجر حاول ان يخفيه، وتثاءب مرتين وأنا أحدثه، وادركت أن هذا النهم الاستهلاكي صار طبيعة ثانية له ولم يعد ممكناً أن يتغير. اعتاد على الإنفاق هكذا، والحقيقة ان غاية ما يريده السوق العالمي ان نتحول لمستهلكين اشداء. ان هذا يضمن ألا نتحول ذات يوم الى منتجين اشداء، وهذا هو المطلوب بالتحديد. أن نظل عالة على الغرب. أن تظل نقودنا تجري من جيوبنا لجيوبهم. أن نظل نكدح ونكد طوال السنة، لكي نوفر نقوداً لشراء سلع لدينا مثلها، سلع لا نريدها، ولكنها حمى الشراء.