يبدو العنوان الذي اختاره جميل روفائيل هذه المرة، مثله في ذلك كمعظم العناوين التي يختارها، إنما تعبر عن توجه معين يبدو فيه البلقان بشكل مختلف عما قد يراه البعض الآخر. وفي هذا الإطار تبدو مقالات روفائيل يربطها خيط واحد في تغطيته للأحداث في مكدونيا وكوسوفو والجبل الأسود وصربيا. وتبدو في هذه المقالات، وخصوصاً بعد انتقاله الى بلغراد، حماسة واضحة للعهد الجديد الديموقراطي في صربيا الذي ينقل مبادرته في كل اتجاه البلقان وأوروبا والعالم العربي الإسلامي. ومع هذا العنوان الأخير يبدو أن الطرف الآخر الألبان هو من يرفض الحوار مع بلغراد، مع أن الأمر ليس كذلك. وفي الواقع ان العنوان الأخير كتب بمعزل عن تطورات مهمة على الصعيد الصربي - الألباني والبلقاني لا يجوز تغييبها. وتجدر الإشارة الى أن روفائيل كان قد نقل "الحياة" عدد 27/11/2000 دعوة الرئيس فويسلاف كوشتونيتسا الى د.ابراهيم روغوفا، الزعيم الألباني المعتدل الذي فاز حزبه بالغالبية في الانتخابات المحلية الأخيرة، لإجراء "حوار ثنائي للعثور على حل سريع لمشكلة كوسوفو من دون التدخلات الأجنبية التي ليست في مصلحة الصرب أو الألبان". وكان من المهم توضيح رد فعل روغوفا على هذه الدعوة وليس الاكتفاء برد فعل هاشم تاتشي مع أنه لم توجه له الدعوة أصلاً الذي اعتبره مبرراً لكي يكون العنوان بهذه العمومية ألبان كوسوفو يرفضون الحوار مع بلغراد وكأن تاتشي يمثل لوحده ألبان كوسوفو! وفي الواقع كان الألبان قد رحبوا بحذر بتولي كوشتونيتسا السلطة في بلغراد، مؤكدين على أنه من المهم تغيير السياسات وليس الشخصيات. ولكن التصريحات التي كانت تصدر في بلغراد من حين الى آخر كانت توحي بأن مفردات عهد ميلوشيفيتش تستخدم من جديد في عهد كوشتونيتسا، إذ فوجئ الألبان ان العهد الجديد لا يزال ينظر الى كوسوفو باعتبارها "قلب صربيا" انظر مقابلة روفائيل مع وزيرة الإعلام الصربية في "الحياة" عدد 3/11/2000. ومن هنا فقد جاءت دعوة كوشتونيتسا الى روغوفا في وقت متأخر جداً بعد أن تبلور في كوسوفو موقف مشترك في ما يتعلق بالحوار مع بلغراد. ففي غضون ذلك كانت قد جرت الانتخابات المحلية في كوسوفو 23/10/2000 التي تنافست فيها بقوة الأحزاب الألبانية الرئيسية رابطة كوسوفو الديموقراطية، حزب كوسوفو الديموقراطي، التحالف من أجل المستقبل الخ. وبسبب طبيعة الحملة الانتخابية فقد تسابقت كل الأحزاب على التأكيد على الاستقلال مع وجود تباين في مفهوم الاستقلال، ولم يتخلف حزب روغوفا رابطة كوسوفو الديموقراطية كغيره عن التأكيد على هدف الاستقلال. ومن ناحية أخرى، جاءت دعوة كوشتونيتسا الى روغوفا في وقت أعلن فيه عن إجراء انتخابات عامة في كوسوفو خلال الربيع القادم، مما جعل كل الأحزاب الألبانية تستعد منذ الآن لهذه الانتخابات في كل خطوة تخطوها، بما في ذلك الاتصال/ الحوار مع بلغراد. ونتيجة لهذا تبلور موقف مشترك اتفق عليه زعماء الألبان في كوسوفو، ألا وهو تأجيل أي اتصال/ حوار مع بلغراد الى ما بعد الانتخابات القادمة في الربيع، التي يفترض أن تفرز "القيادة الشرعية" التي يحق لها أن تتصل وتتحاور مع بلغراد باسم الألبان في كوسوفو. وفي هذا الإطار اعتذر روغوفا بدوره عن تلبية دعوة الرئيس كوشتونيتسا لأنه يفضل أيضاً أن يتم اي اتصال/ حوار "بعد الانتخابات العامة وتكوين المؤسسات الشرعية للسلطة في كوسوفو" نشرة "تشيك" 4/12/2000. وفي الواقع، ان مثل هذا الاعتذار لا يعني رفض الألبان للحوار مع بلغراد، وإنما الأمر يتعلق بالمكان والزمان. وهكذا لم يمنع مثل هذا الاعتذار/ الموقف روغوفا أن يتحاور مع وزير خارجية صربيا/ يوغوسلافيا غوران سفيلانوفيتش في أثينا، في اليوم الذي أدلى فيه باعتذاره عن الاستجابة لدعوة كوشتونيتسا. وفي الواقع تم هذا الحوار في ندوة دولية عقدت في أثينا حول "الألبان كغالبية وكأقلية - حوار إقليمي" 1- 3 كانون الأول/ ديسمبر شارك فيها وزير خارجية اليونان جورج باباندريو ووزير خارجية صربيا/ يوغوسلافيا غوران سفيلانوفيتش ووزير خارجية ألبانيا باسكال ميلو وابراهيم روغوفا وغيرهم بالإضافة الى د.برنارد كوشنر رئيس الإدارة الدولية في كوسوفو. وكان من الملاحظ أن هذه الندوة الإقليمية - الدولية، التي لم تنل ما تستحقه من اهتمام، إذ تمخضت عن نتائج جديدة على الصعيد الصربي - الألباني والبلقاني بشكل عام، حتى أن باباندريو وصفها بأنها "خطوة ايجابية على طريق التفاهم البلقاني". وكان من أهم هذه النتائج قبول بلغراد لأول مرة بالحوار حول مستقبل كوسوفو في إطار اقليمي- دولي. وكانت الولاياتالمتحدة قد عبرت لأول مرة في الشهر الماضي على لسان "عراب البلقان" ريتشارد هولبروك أن قرار مجلس الأمن 1244 لا ينفي استقلال كوسوفو وأنها تقترح عقد مؤتمر دولي لمناقشة ذلك. وبعد دعوة كوشتونيتسا الى روغوفا، التي كانت تحصر الأمر في الإطار الثنائي، جاء موقف الوزير سفيلانوفيتش في ختام ندوة اثينا ليوضح أن موقف بلغراد تجاوز الإطار الثنائي الذي كانت تصر عليه. فعبر الوزير سفيلانوفيتش لأول مرة عن الترحيب بمناقشة مستقبل كوسوفو في إطار إقليمي/ دولي، وبالتحديد في مؤتمر ما بين ممثلي كوسوفو ويوغوسلافيا والمجتمع الدولي مع التسليم ب"دور خاص" لألبانيا وبلغاريا ومكدونيا واليونان في هذا المؤتمر نشرة "تشيك" 4/12/2000. ومع الأخذ بالاعتبار هذه التطورات الجديدة يمكن القول إن ألبان كوسوفو يرحبون بالحوار مع بلغراد ولكن بعد الانتخابات القادمة في الربيع، وبعد الاتفاق على المكان والزمان والإطار الإقليمي - الدولي مع بلغراد. محمد م. الأرناؤوط