وقفنا مع زمرة أصدقاء، ننتظر وصول الباص الذي سيقلنا الى حلب. لم أقصد قراءة حرف واحد عن المدينة التي سأزورها للمرة الأولى خوفاً من فقدان المفاجأة في الجديد الذي يقابلنا. كنت وضعت في حقيبة كتفي ديوان شعر للميعة عبّاس عمارة، بعض المخلوطة بزر وفستق للتسلية، وأوراقاً بيضاً ودواة. وعقدت العزم على ترك الزمام للحرية التي تلقى علينا نحن المسيّرات بحسب مخطط الرحلة وسرعة السائق. قرأت شعر لميعة لرفيقتي التي تجلس قربي وحين طال المشوار قرأته لمن جاور مقعدي من الجهة اليسرى. وصلنا الى فندق الشام، عند حيّ الكيلاني في حماه، بعد رحلة استغرقت أكثر من أربع ساعات. وجدنا الفندق حديثاً، وتعجبنا من تصميمه المثمن، الذي يفسح المجال أمام الداخل للجلوس في نقطة التثمينة، وكأن المجلس هو أوكتاغون الكنائس القديمة. هناك كثير من النباتات تتدلى، فالنور يضيئ ساحتها من السقف الزجاجي، ويقف موظفو الفندق في أحد جوانب الأروقة. استيقظت ورفيقاتي باكراً، فقد رأينا من نافذة غرفة الفندق جامع نور الدين والدالية، أي الناعورة التي يديرها الماء لسقاية الأرض، وتعتبر علامة حماه الفارقة. وأردنا استغلال الصباح الباكر في زيارة جامع نور الدين زنكي، ونور الدين زنكي هو القائد الذي جيّش الوعي لقتال الفرنجة في العصور الوسطى، وله الفضل في تنشئة صلاح الدين الأيوبي العسكرية. صعدنا الى مدخل الفندق الرئيسي، ودرنا حول سورة باتجاه حماه القديمة، ولاحظت الياسمين لا يزال محمولاً على كتف الغصن في فصل الخريف. مشينا فوق الجسر باتجاه الجامع وقصدنا بوّابته. وجدنا البوابة مغلقة، والساحة خالية إلا من الرجل الذي يلمّ النفايات. وأخبرنا الرجل ان الجامع لا يفتح بين صلاة الفجر وصلاة الظهر. شعرنا بامتعاض، ومشينا باتجاه أزقة حماه القديمة. بدأت أنظارنا تجول حول الزقاق وقد بدا خالياً من السكان، ويحمل جمالاً وأسراراً عند كل منعطف أو عمق. لا تسمع هنا حركة، وان كان يوم الجمعة فلا بدّ ان هناك صراخ طفل أو عواء قطّة أو ان أحدهم ينادي في زاوية من زوايا البيوت. دخلنا باتجاه أحد البيوت، وحين فتحت بوابته اكتشفنا اننا في احدى الدور التي تستضيف فناني حماه. وتعرفنا على الفنان مصطفى الراشد، الذي أخبرنا عن حماه والحيّ الذي مشينا على رصيفه الحجري. وقدّم لنا القهوة على عادة العرب الكريمة. عدنا الى الفندق لننضم الى القافلة التي شاء القدر أن يسوقنا معها في الرحلة الحلبية. كانت المحطة الثانية، في برنامج الرحلة، هي أفامية، المدينة التي بناها سلقس نيكاتور في 300 ق.م. وهي المدينة التي بلغ عدد سكانها نصف مليون نسمة في العصور المسيحية الأولى. وقد أعادت البعثة الأركيلوجية البلجيكية بناء قسم من هذه المدينة المدمّرة. واكتشفت البعثة آثاراً تعود الى العهد الروماني والبيزنطي. فالحياة استمرت قائمة في هذه المدينة الى القرن الثاني عشر. شرح لنا المرشد، الدكتور محمود الحريتاني، كثيراً من آثار المدينة التي ظهرت بعد حملة التنقيبات هذه. وبدأنا ننتبه أكثر الى المرشد المتعلم والملم جداً بموضوعه والمحب لعمله. استرحنا في مقصف كافيتيريا في طرف المدينة وهناك شاهدت بيت عائلة ريفية تعمل احدى نسائها في صب الباطون على سطح البيت. وقد ظهرت الصحون الفضائية مع عملها هذا غريبة جداً. كانت المرأة ملثمة لتحمي وجهها من الغبار الذي يصعد من حركة يديها وهي تجرف بالرفض خلطة البحص والرمل. تركنا المقصف، ورأيت من وراء نافذة الأوتوبوس قلعة المضيق القريبة من أفاميا، وهي مأهولة بالسكان وعلى تلة عالية كما هي المدن المتربعة في التاريخ القديم. ساقنا المرشد الى خان المضيق الذي كان خان الحجّاج في القرن السادس عشر ميلادي أيام العثمانيين. ثم حُوِّل الخان الى متحف يحتوي مجموعة رائعة من الفسيفساء. وروعة الفسيفساء، في قدمها. فلم تصدّق عيناي رؤية قطع فنية من القرن الميلادي الرابع مأخوذة من أفاميا، وقطع من القرن الخامس والسادس أي من العصور المسيحية الأولى. وتزيدنا هذه الزيارة قدرة على تذكّر قطع الفسيفساء المشهورة في خربة المفجر في أريحا. وتذكرنا صورة سقراط يتوسّط تلاميذه في الفسيفساء من أفاميا القرن الرابع ميلادي بصورة المسيح عليه السلام يتوسّط تلاميذه. وبدأت أعي قدم سورية وعمقها الجغرافي الذي سمح للزمن بالحفاظ على هذه الثروات التي لا تقدّر بثمن. لم أرَ نفسي إلا في مطعم سيسي في حارة السيسي في حلب والنادل يضع أطباق المازة الواحد تلو الآخر. وبدأت السيدات اللاتي برفقتنا يقارنّ به الأطباق اللبنانية الشهية ومثيلاتها في حلب. فغارت صديقتي الجنوبية على "الكبّة النية" خاصة "الجنوب اللبناني" واعترضت ابنة صيدا على الحلوى التي قدمت لنا فأهلها صناع حلوى بامتياز. ولم نكد ننتهي من هضم المأكولات الشهية التي يشتهر بها المطبخ الحلبي حتى بدأنا السير باتجاه المعالم المميزة في حلب وفي مقدمها البيت الحلبي التقليدي الذي ينتمي بهويته الى كل العصور السالفة. أول دار زرناها هي دار اجقباش كاشف الراس بالتركي في حارة الياسمين، والدار حوّلت الى متحف للتقاليد الشعبية. وقف المرشد في الايوان الرئيسي يحكي لنا قصة هذا البيت وقد ظهرت فوقه واجهة الايوان العالية وسقفها المميز. ولفت نظري، النقش والحفر والزخرفة الحجرية فوق كل نافذة من النوافد التي تطلّ على صحن البيت. وللبيت نافورة لا تعمل مثل أيّام زمان - حين كانت تطيب لها النفس بسماع صوت مياهها وبإحساس البرودة التي تلون بها الجو. أغرب ميزات البيت الحلبي القديم أن بابه الذي يطل على الزقاق أو العالم الخارجي بسيط وبساطته لا تعكس غنى الدار. وهذا الاحتشام مقصود في بيئة لا تستلطف التبجّح. أسرعنا الخطى باتجاه كنيسة الأربعين شهيداً للأرمن الأرثوذكس وتقع في بوابة الياسمين. كانت الظلمة أسرع من خطانا في الهبوط على ليل حلب، لكن المرشد يلقي علينا زبدة الحقائق التاريخية أسرع من هبوط الظلمة ووقع خطانا على الأرض. هناك ايقونات مهمة جداً في الكنيسة الأرمنية لفتت نظري، خصوصاً ايقونة الأربعين شهيداً التي تثير الأحاسيس المأسوية تبعاً لقرب أجساد الناس بعضها من بعض - هكذا تخيل المصور جحيم الموت الجماعي. وقد أثار اعجابي وجود محراب في الكنيسة أي محراب على طراز محراب الجامع وهذا شيء جديد في المفاهيم الهندسية، تركنا الكنيسة الأرمنية، ومشينا باتجاه كنيسة العذراء للروم الأرثوذكس، ودخلناها، ودهشت بكثرة الايقونات القديمة. وأكثر ما أثر بي الألفة التي سمعتها بين المرشد المسلم والأب حنا راعي الكنيسة. فالإثنان كانا متحمسين لمشاطرتنا المعلومات عن المسيحيين والمسلمين في حلب والأخوّة الذكية بينهما. وشعرت بعراقة الشرق وحضارته المميزة وموقع سورية من هذه التقاليد العريقة. زرنا في المساء بيتاً عريقاً في تجارة التحف القديمة وهو بيت جورج انطاكي في حارة انطاكية. ولن أحدثكم عن البيت، فالزيارة كان لها طابع الدخول الى احدى الدور الارستقراطية في حلب. أما زيارة بيت جلال الدين قرب بوابة قنيسرين في حلب القديمة فلها طعم آخر. فجلال الدين هو الموسيقار جوليان الفرنسي الأصل والمستعرب الذي استقر في حلب طلباً للمعرفة الموسيقية وخصوصاً العزف على القانون. كان بيته كلوحة استشراقية من القرن التاسع عشر لكن عزفه على القانون بلدي وعربي من المقام الرفيع. لن أسرد تفاصيل الزيارات في اليوم الثاني من الرحلة الحلبية. فيومنا كان طويلاً بدأناه في زيارة نماذج للعمارة الإسلامية منها: المدرسة العثمانية 1730م قرب باب النصر، البيمارستان النوري منتصف القرن الثاني عشر وقصر جنبلاط نهاية القرن السادس عشر. ثم دخلنا خان الوزير 1682م وهو من أضخم الخانات في حلب. ومشينا من سوق الى سوق. فالأسواق مفتوحة بعضها على بعض وصعدنا بعد الظهر الى قلعة حلب العريقة وهي تتصدر حلب الحديثة كالعقد الجمان. ويعد موقعها مخطوطة من أندر المخطوطات التاريخية. وكانت خاتمة النهار كالمسك إذ ختمناه في حمام يلبغا الناصري. والحمام من أجمل الحمامات في سورية. ولا يمكن نوادي الرياضة الحديثة في العالم ان تتخيل أجمل من هذه المساحة التي صممت وهُيئت لاستجمام الناس. هنا تركنا العنان للجو الساخن وغرف البخار والتدليك الذي أزاح تعب الأيام عن الأجساد. لعل أجمل ما لفتني الالتقاء الجميل بين الماضي والحاضر الذي شعرنا به ونحن ننقاد مع هذا السياق العريق من الزمن، مثلاً تنزل في فندق "بيت وكيل" المميّز، وتكتشف الأسِرّة في غرف ذات سقوف عالية. وهناك نظام التخصص الحرفي في الأسواق لا يزال يعمل به في حلب. وتشاهد الناس يشترون أقمشة للثياب. وتنظر الى الخان فتراه يعجّ بحركة السوق وبابه مفتوحان مصراعاه ثم تمسك بيدك أنواع البهارات وحب الهال فتشتهي المعرفة بعلم الأصول وتشتهي الطهو على طريقة الجدّات. هنا لا نستطيع الا ان ندعو الله أن يُبعد عنا الجزء المادي من الحضارة الغربية. فهذا الجزء يزيّف الوعي ويُبقي الإنسان على حافة الاغتراب. فالمدن أصبحت يشبه بعضها بعضاً وهناك مدن عصرية ترى الواحدة وكأنك رأيت الكثير منها. أما حلب فواحدة وهي ليست كغيرها من المدن التي دمرت ماضيها بنفسها، وجعل أهلها قطيعتها مع الماضي شيئاً قسرياً لا تطوراً بديهياً.