تردد القيادة الفلسطينية والصمت العربي المهيب ليسا مؤشر خير بالضرورة. فقد ينتهي كل ذلك بقبول مقترحات الرئيس الأميركي بيل كلينتون مع بعض التعديلات. وهو ما يبدو أنه دفع برئيس الوزراء الإسرائيلي إلى التراجع عن مواقفه السابقة، وإعلانه رفض التوقيع على أي إتفاق يعطي للفلسطينيين السيادة على الحرم الشريف. اذ يحاول باراك بإعلانه هذا أن يعطي الإدارة الأميركية مؤشراً الى حدود ما سيقبله من تعديلات. الأمر الذي قد يجعل منه موقفاً تفاوضياً أكثر منه موقفاً نهائياً. و مهما كان فقد دفع باراك بموقفه هذا القيادة الفلسطينية إلى الرد بإتخاذ موقف الرفض نفسه. والأميركيون يعتقدون أن وصول الطرفين إلى حالة التصريحات العلنية و"المتشنجة" يؤذن بإقتراب التوصل إلى حل وسط. إذا كان الموقف الإسرائيلي من المقترحات الأميركية واضحاً، فماهي أسباب تردد القيادة الفلسطينية؟ وماذا يعني الصمت العربي ؟ وما هو الموقف الذي ينبغي على القيادة الفلسطينية أن تتخذه رداً على المقترحات الأميركية؟ صحيح أن هذه الأيام التي تمر بها القيادة الفلسطينية هي من أصعب ما مرّ بها خلال أكثر من ربع قرن. مرت بأيلول الأسود في 1970م، وبحصار بيروت وتجدد المنافي في 1982م، وهما من أقسى المراحل في التاريخ الفلسطيني، لكنها مراحل في طريق الصراع، ولم تكن مراحل تقرر نهاية لذلك الطريق. هذه الأيام تواجه القيادة الفلسطينية خيار قبول أو رفض مقترحات تتعلق برسم ملامح حل نهائي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ولاشك أن ذلك أحد أسباب التردد الذي يبدو واضحاً في سلوك القيادة الفلسطينية، وتفكيرها حالياً. فالحل النهائي مهيب بطبيعته لأنه يقرر هنا الحدود النهائية أو ما يفترض أنه كذلك للحقوق والمطالب في الأرض، وفي الأمن والسلام، وفي التاريخ كذلك. لكن لا شك أيضاً بأن هناك أسباب أخرى للتردد. من أهمها إنتفاضة الشعب الفلسطيني التي أكملت شهرها الثالث بأكثر من 350 شهيداً، وأكثر من 15 ألف جريح. كيف يمكن الموازنة بين حجم تضحيات الشعب، وبين ما تقدمه المقترحات الأميركية من حل نهائي؟. ومن الأسباب كذلك الضغوط الأميركية والإسرائيلية المبطنة بالتهديد، مضاف إليها الضغوط الأوروبية لقبول المقترحات. ومن مصادر تردد القيادة الفلسطينية أيضاً الضغوط العربية عليها. في أي إتجاه تعمل هذه الضغوط: في إتجاه قبول المقترحات الأميركية، أم في إتجاه رفضها؟ هذا ليس واضحاً علناً، وعلى وجه الدقة والمباشرة. القاهرة بإعتبارها تمثل محور الموقف العربي المفوض هنا تتكلم كثيراً، لكنها لا تقول شيئاً. والدور المصري هذا يصب في الأخير في توفير غطاء عربي للموقف الفلسطيني. هل هو غطاء لرفض المقترحات الأميركية؟ أم غطاء لقبولها؟ في العلن هناك صمت عربي مهيب. وقد يبرر هذا الصمت بعدم الرغبة في تعقيد المفاوضات أكثر مما هي عليه أصلاً. قد يكون مصدر الصمت أن الأطراف العربية لا تريد إحراج الإدارة الأميركية برفض مقترحاتها، أو التحفظ عنها علناً، أو أنها لا تريد أن تكون في موقع الإتهام من جانب هذه الإدارة بتشجيع الفلسطينيين على التشدد. وقد يكون مصدر الصمت العربي أن الأطراف العربية تستحسن المقترحات الأميركية، لكنها لا تجرؤ على إعلان موقفها خوفاً من الشارع العربي. وقد يكون المصدر خليطاً من هذا وذاك. إلا أن الصمت العربي بصيغته العلنية يوحي بأن القاهرة تعمل على توفير غطاء لقبول فلسطيني معين بالمقترحات الأميركية. وهو صمت يزيد من ضعف الموقف الفلسطيني. الفلسطينيون من جانبهم لا يستطيعون قبول تلك المقترحات كما هي. والسبب، كما يقولون، يعود إلى ما يكتنفها من غموض في مواضيع مثل السيادة على الحرم الشريف، وعودة اللاجئين، والحدود ...الخ. وإذا كان هذا صحيحاً فلماذا تتردد القيادة الفلسطينية في إعلان رفضها للمقترحات؟ خصوصاً أن الغموض بالتحديد هو الآلية الرئيسة التي يعتمدها فريق "السلام الأميركي" لإدارة كلينتون في صياغة مقترحاته منذ أوسلو، وهو فريق يتكون بكامله من يهود أميركيين معروفين بميولهم وعلاقاتهم الإسرائيلية. الأكثر من ذلك إعلان باراك رفضه الكامل لمبدأ حق العودة، وهو شيء مختلف عن القبول بعودة بضعة آلاف من اللاجئين. لأن رفض المبدأ يعني رفض القبول بمسؤولية إسرائيل القانونية والأخلاقية عن تهجير الشعب الفلسطيني وطرده من أرضه، وإنتهاك حقوقه التاريخية والسياسية. مثل هذا الرفض، وهو ليس جديداً في اي حال، يعطي الفلسطينيين الحق الكامل برفض المقترحات الأميركية. نعم هناك مصادر أميركية وإسرائيلية وأوروبية وعربية للتردد الفلسطيني. لكن هناك مصادر فلسطينية لهذا التردد أيضاً. ومن ثم لا يجوز أن تتخذ المواقف العربية لإعفاء القيادة الفلسطينية من مسؤوليتها هي عن التردد الذي تعاني منه هذه الأيام. ولعل هذا التردد كان السبب في عدم اعلان التحفظات الفلسطينية عن المقترحات إلا بعد عودة الوفد المفاوض من واشنطن. وكان الأجدر أن يتم إبلاغها الى الطرف الأميركي أثناء مفاوضات قاعدة بولينغ. الموقف الفلسطيني من المقترحات الأميركية ينبغي أن ينطلق من رفضها إبتداءً. لأنها مقترحات لا تغير من الواقع القائم شيئاً ذا قيمة. فهي من ناحية تثبت الإحتلال الإسرائيلي للكثير من الأراضي الفلسطينية في الضفة وقطاع غزة، خصوصاً لجهة إعطاء إسرائيل الحق في ضم الأراضي التي تقوم عليها المستوطنات الكبيرة، والإحتفاظ بمعظم مدينة القدسالشرقية. وإذا أضيف إلى ذلك ما يقوله الفلسطينيون عن الغموض الذي يحيط بموضوع السيادة الفلسطينية على المسجد الأقصى ومحدوديته، تتأكد مشروعية رفض تلك المقترحات. وإذا كان الموقف الرسمي العربي يبعث على الحيرة، فإن هناك مواقف عربية غير رسمية تثير الحيرة أيضاً. هذه المواقف ليست مترددة، ولا تتخذ من خلف الكواليس. بل إنها معلنة. المواقف العربية الرسمية تحكمها حسابات وتحالفات سياسية إقليمية ودولية. اما المواقف غير الرسمية فتنطلق، كما يبدو، من قناعات ومفاهيم مغلوطة عن الصراع العربي - الإسرائيلي، وعن طبيعة المفاوضات، والطبيعة التاريخية لكل ذلك. من هذه المواقف ما قرأناه قبل ايام وفيه "ان من يدقق في مشروع السلام المقترح الذي يعرض حالياً على الوفد الفلسطينيي سيذهل للتراجع الكبير في طروحات الأميركيين وكذلك الإسرائيليين". فهذا المشروع، كما قيل "يعتمد قرار مجلس الأمن 242 أساساً... ويجعل من إقامة دولة فلسطينية أول نتاجه بسيادة وحدود وحماية دولية مضمونة يعيد كل الأراضي الفلسطينية المحتلة بإستثناء أثنين في المئة فقط". والأغرب من ذلك أن صاحب هذا الموقف يقرر بطريقة لا يداخلها الشك أن المشروع المعروض "يرد كل القدسالمحتلة في حرب 67 بإستثناء الحي اليهوديي وحائط المبكى … ويعطي الفرصة للاجئي الجيل الأول للعودة إن شاؤوا، وتعويض من لا يرغب مع ضمان حقه السياسي في البلد الذي يستقر فيه". ما يثير الحيرة هو التقريرية التي يقدم فيها صاحب هذا الموقف مطالبته بعدم التسرع في رفض المقترحات الأميركية. هذا في حين أن هذه المقترحات لم تعلن بعد، ولم يطلع عليها أحد خارج نطاق المتفاوضين. بل إن صحيفة ال"نيويورك تايمز" الأميركية نقلت الإسبوع الماضي عن مصدر رسمي في الإدارة الأميركية أن هذه المقترحات لم تدون كتابياً، وبالتالي قد لا تكون متوفرة للتفاوض مستقبلاً. ما هو "المذهل" في المقترحات الأميركية؟ ما تسرب منها لا يشير بأي شكل إلى أنها تعتمد قرار مجلس الأمن 242. لأن القدسالشرقية حسب هذا القرار تدخل بكاملها ضمن الأراضي المحتلة التي يجب إعادتها. والمقترحات الأميركية حسب ال"نيويورك تايمز" لا تعطي الفلسطينيين أكثر من 62 في المئة من المدينة القديمة التي لا تتجاوز مساحتها أكثر من كيلو متر مربع واحد. وفوق ذلك تحرم المقترحات الأميركية على الفلسطينيين إجراء حفريات تحت المسجد الأقصى، وفي الوقت نفسه تفرض الإعتراف الفلسطيني بعلاقة اليهود التاريخية بهذا الموقع. ولعل هذا أحد مصادر الغموض حول هذه النقطة بالذات التي يتحدث عنها الفلسطينيون. والذي يبدو هو أن المقترحات الأميركية تبقي على معظم القدسالشرقية تحت السيادة الإسرائيلية، ما عدا نسبة 62 في المئة المذكورة من المدينة القديمة. وحسب المصادر الأميركية ستحتفظ إسرائيل بموجب هذه المقترحات بكل الأراضي التي ضمتها إسرائيل إلى القدسالشرقية بعد 67، وهي أراض فلسطينية. من هنا قول مسؤول الإدارة الأميركية بأن إسرائيل ستحصل وفقاً لهذه المقترحات "على أكبر قدس يهودية في التاريخ اليهودي". أما القول بأن المقترحات الأميركية ستعيد كل الأراض الفلسطينية ما عدا أثنين في المئة فهو غير صحيح على الإطلاق. لأن كل التسريبات الأميركية والإسرائيلية لم تتجاوز في تقديراتها للأراضي التي ينتظر أن تنسحب منها إسرائيل تبعاً للمقترحات الأميركية نسبة 95 في المئة من الضفة الغربية. وليس صحيحاً ايضاً أن المقترحات الأميركية تعطي الفرصة للاجئي الجيل الأول للعودة إن شاؤوا أو التعويض. واذا استبعدنا المصادر العربية والفلسطينية نجد أن المصادر الأميركية التي إستندت إليها ال"نيويورك تايمز" في تقريرها المشار إليه، لا تذكر ذلك على الإطلاق. كل ما تذكره إستناداً إلى تلك المصادر هو أن الخيار الأساسي المطروح حول هذا الموضوع هو أن يعود اللاجئون إلى وطنهم، أي الدولة الفلسطينية المزمع قيامها. وبذلك تنتفي إمكانية عودة أعداد كبيرة منهم إلى إسرائيل. من جانبها ذكرت الصحف الإسرائيلية الأسبوع الماضي أن إسرائيل مستعدة لإستقبال عشرات الآلاف من اللاجئين، من دون تحديد رقم معين. وسيتم تأسيس صندوق دولي تشارك فيه إسرائيل لتعويض اللاجئين أو توطينهم في دول ثالثة. بعبارة أخرى، ليس موضوع اللاجئين بالنسبة الى الأسرائيليين أكثر من موضوع إنساني تقع مسؤولية معالجته على دول أخرى، وإسرائيل قد تبادر بتقديم المساعدة في ذلك إذا لزم الأمر. وهو المنطق نفسه الذي تتبناه الإدارة الأميركية. ويقال أن من الدول التي إتصلت بها الولاياتالمتحدة لغرض تمويل معالجة هذا الموضوع دول أوروبية وخليجية وآسيوية. قد تكون المقترحات الأميركية المطروحة محاولة أخيرة من فريق السلام الأميركي الحالي لتحديد خيارات الإدارة الجديدة عندما تبدأ بتناول ملف السلام في الشرق الأوسط. وهو ما ينبغي أن يؤخذ بعين الإعتبار. كل ذلك يشير إلى أن تردد القيادة الفلسطينية في رفض المقترحات غير مبرر، إلا من زاوية أنه يجعلها مكشوفة لضغوط أكبر من أطراف كثيرة. هذا عدا عن أنه قد يؤدي إلى الإنقسام بين قيادة السلطة وقيادات الإنتفاضة. وهذه الإنتفاضة هي حرب إستقلال لم تبدأ فقط قبل ثلاثة أشهر، وقدم فيها الشعب الفلسطيني الكثير من التضحيات. وليس من المقبول أن تنتهي حرب الإستقلال بأقل من ذلك. * كاتب سعودي.