عددهم اثنا عشر. وأعمارهم بين 70 و90 عاماً. كلهم يهود من أصل عراقي. حلمهم اعادة احياء ثقافتهم التي طالما احتقرت. نعم. فهم موسيقيون، مثل ثمانينيي الموسيقى الكوبية، نفضوا الغبار عن آلاتهم لكي يعزفوا بنجاح مقاطع تقليدية من الموسيقى اليهودية - العربية. قبل 15 عاماً ألّف شلومو زيف لي - الذي استعاد اسمه العربي الأصل، سليم النور - هذه الفرقة. فاستأجر بيتاً قديماً كان في الأصل مركزاً ل"هستادروت" اتحاد العمال الاسرائيلي في رامات غان. ومذ ذاك، وهو يحاول أن يؤسس "بيتاً ثقافياً" للموسيقيين الاسرائيليين من أصل عراقي. نوعية الصوت في المكان رديئة جداً. إلا أن النور، وهو عازف جيد لم تنصفه الحياة كثيراً، يعتبر نفسه محظوظاً. "في كوبا، يعاني الموسيقيون اضعاف ما نعانيه هنا، وحياتهم صعبة جداً" كما يقول. وعليه فهو فخور بال"Buena vista Bagdad club" الذي جمع حوله موسيقيين يعزفون الموسيقى العربية الكلاسيكية منذ نعومة أظفارهم. كلهم وصلوا الى اسرائيل في الخمسينات مع تراث ثقافي وموسيقي هائل. معظمهم يسكن اليوم في رامات غان. بعضهم بلغ خريف العمر، ومنهم من عرف الشهرة في بغداد. الا أن هذا النجاح لم يؤثر في أحد في اسرائيل. ففي الخمسينات ما كان أحد يهتم بالموسيقى العربية باعتبارها "موسيقى بدائية تخص العدو، ومخصصة لسكان الأحياء الفقيرة". وإذ وجد بعض الموسيقيين العراقيين لهم عملاً في الأوركسترا الشهيرة التابعة لمعهد الاذاعة والتي يديرها زوزو موسى، ظلوا عقوداً محصورين في "غيتو" البرامج العربية في الاذاعة الاسرائيلية، ثم برامج التلفزيون العربية. أما اليوم فإن الموسيقى العربية تثير اهتمام "صانعي" الموضة. بعضهم يسمي هذا التيار "world music" أو "الموسيقى الاثنية". وقد انطلق في الولاياتالمتحدة الاميركية، ووصل الى اوروبا، ليطاول أخيراً الموسيقيين المجهولين في رامات غان الذين يعتبرهم الاختصاصيون مميزين جداً. منذ 15 عاماً، يجتمع الاثنا عشر مع المايسترو كل نهار اثنين. سليم النور، الثمانيني، ولد وكبر في بغداد وسط عائلة تغمرها الموسيقى المصرية. تعلم أخوه البكر العزف على العود على داود الكويتي "ويُعتبر شقيقه، صلاح الكويتي، استاذاً في العزف على الكمان". درس النور في "روبرت كوليدج" في اسطنبول قبل أن يحصِّل اختصاصاً في الهندسة المدنية في الجامعة الاميركية في بيروت. انتقل الى اسرائيل عام 1950. "كنت استمع الى شقيقي ينقر على العود تقاسيم تقليدية تركية، كما يقول، وتعلمت العزف على السمع. وفي احدى السهرات كنت أعزف في منزلي وحولي عدد من الأصدقاء عندما سألني أحدهم لماذا لا أؤلف قطعاً موسيقية خاصة وأعزفها. لم يغمض لي جفن تلك الليلة. وفي الصباح الباكر رحت أحلل مؤلفات عازفين مختلفين. وصلت الى اقتناع أن كل واحد حر في العزف كما يشاء، وبدأت مذ ذاك بوضع مؤلفاتي الخاصة. لم يعلمني أحد شيئاً. والشخص الوحيد الذي ساعدني قليلاً هو صلاح الكويتي، الذي كان صديقاً لاخوتي الكبار. عندما كان يزورنا، كنت أطرح عليه بعض الاسئلة، وهذا كل شيء". توصل النور الى وضع ثلاث مقطوعات في العراق لينهي الأخيرة في اسرائيل. وفيها تزوج براحيل التي كان التقاها في بغداد، وهي ضابطة ايقاع. سكنا في تل أبيب ورزقا بولدين. وابنتهما ليورا زيف لي عازفة بيانو مشهورة. وحتى العام 1985 عجز سليم النور عن الاعتياش من موسيقاه، فعمل مهندساً في "ميكو روت" شركة المياه العامة... وهو يعد الأيام. "عندما بلغت سن التقاعد، على ما يقول، قررت أن أؤلف فرقة من عازفين متقاعدين لديهم الوقت الكامل. في البدء، كان الأمر مجرد تسلية. أما اليوم فعملنا جدي تماماً. ونحن نعزف في مهرجانات معروفة اضافة الى حفلات كثيرة". دافيد معلم، 69 عاماً، يعزف على الكمان في الفريق. في بغداد تعلم العزف الكلاسيكي الغربي مع استاذ روماني. وصل الى اسرائيل في سن التاسعة عشرة، وانخرط في سلك الشرطة قبل أن يصبح قاضياً في كفار سافاه، وهو لم يعاود العزف على الكمان الا عام 1998، اي عندما بلغ سن التقاعد، ولكن ليعزف موسيقى كلاسيكية عربية هذه المرة. "قبل مدة - كما يشرح - تناولت كماني، ودوزنته على الأنغام الشرقية وتعلمت كل شيء من جديد. أنا أعرف سليم منذ وقت طويل. كان يزور أهلي في بغداد. وأنا أعزف معه من سنتين تقريباً". شوشانا الياهو عمرها 62 عاماً وتسكن هولون. وهي ممرضة متقاعدة، ولدت في بغداد وتتقن العزف على العود والقانون والكمان والطبلة. "تعلمت كل هذا في العراق. في بيتنا كان كل فرد يعزف على آلة. ولكن عائلتي كانت مؤمنة كثيراً وجاهدت لتعلم الموسيقى بمفردي، لأن الفتاة التي تعزف هي في نظر الأهل غير جديرة بالاحترام، مثل الراقصة الشرقية. ولكن قبل 10 أعوام سمعت بسليم النور وقررت أن أتعلم معه". ساسون شاهمون، محاسب يبلغ ال68، انضم الى الفريق قبل سنتين، وحياته الحقيقية، بالنسبة اليه، عاشها في ظل داود أكرم، وهو عازف عود شهير أعمى. "كنت مصاحباً موسيقياً له - كما يشرح - فرض علي تعلم الكمان، ربما كان عمري يومها 40 عاماً". وكان أكرم عازفاً في فرقة زوزو موسى وبحسب سليم النور فهو أعظم عازف عود عراقي. ميناشي غبايي 73 عاماً التحق بالمجموعة من سنة فقط وهو، كما يؤكد، ورث حبه للموسيقى من عائلة والدته، ومن أفرادها من اشتهر كثيراً. وغبايي يشرح لماذا لم تتطور اي موسيقى أصيلة في اسرائيل: "عندما عاد اليهود بعد ألفي سنة فرضت الموسيقى الأوروبية وجودها. بعدها كان لا بد من اعطاء شيء للشرقيين، فبرزت شوشانا داماري من الموسيقى اليمنية. إلا أن اليمن، بالنسبة الى الدول العربية الأخرى، هي اكثر بلد متأخر ثقافياً". أما الياس ساسا، ابن ال75، فيعتبر الذراع اليمنى لسليم النور، وهو انضم الى الفرقة مذ تأسست. كان في السابعة من عمره حين تعلم الكمان في بغداد على استاذ سوري. ودرس من ثم في اكاديميته، خمس سنوات، قبل أن يُعلم في المدارس اليهودية في بغداد. كان ساسا أحد مؤسسي أوركسترا الاذاعة الوطنية العراقية. وفي اسرائيل عمل موسيقياً في فريق انبال، 15 عاماً، قبل أن يصبح عضواً في أوركسترا الاذاعة الاسرائيلية، حيث يتذكره البعض مغنياً مميزاً أيضاً. اسحق غاباي، عطار سابق، بدأ العزف على العود بهدف التسلية. "أنا اليوم في سن التقاعد. تركت تجارتي لأولادي وسألت نفسي ماذا علي أن أفعل؟ تعلمت عندها العزف على الكمان على ساسا وأحببت الالة. في بغداد، كنت تعلمت قليلاً العزف على الكمان، وأهملته بعد وصولي الى اسرائيل. ولكن مذ سمعت بفرقة سليم لم أتوان عن الانضمام اليه فوراً". في آذار مارس الماضي، نظم يائير دلال، وهو عازف مشهور يبلغ الخامسة والأربعين، حفلتين مخصصتين للأخوين الكويتي، واحدة في القدس وأخرى في تل أبيب. وأمام قاعتين غصتا بالجمهور، أدى ستة موسيقيين "ريبيرتوار" هذين المؤلفين المجهولين في اسرائيل. ولد دلال في اسرائيل من والدين عراقيين. وبالنسبة اليه فإن جهل موسيقى الأخوين الكويتي بمثابة فضيحة كبيرة. وهو يعتبر أن التطور الحديث للموسيقى العربية في اسرائيل ليس وليد مصادفة، وإنما يُعزى الى أنها تصل عبر الدول الغربية. "كانت هذه الموسيقى حاضرة دائماً هنا، كما يشير، لكنها كانت مقموعة ومرمية في سلة المهملات. لم تنشأ يوماً مدرسة للموسيقى العربية في اسرائيل. وادعى البعض دائماً ان لا مدرسين لها ولا طلب عليها. أما اليوم فالمدرسون موجودون والطلب موجود ولكن كل شيء يتم في صورة شبه خفية". مذ تعرف دلال الى سليم النور، قبل 12 عاماً، لم يفوت أياً من حفلاته. "هؤلاء الرجال مؤتمنون على موسيقى يهودية عربية في طريق الزوال". و إذ يعتبر ان الأخوين الكويتي من أهم مؤلفي القرن العشرين، يرى انهما عانيا السلبية التي نظر بها الى الموسيقى العربية. ولا يتوانى دلال عن التحامل على نجاحه الحالي. "هذا إرث الاستعمار، كما يقول، ما دام الغرب فرض خياراته الموسيقية. هناك موجة اليوم في الدول الغربية تسمح للموسيقى العربية أو الهندية بالبروز. الكل في اسرائيل يحاول أن ينسى أو يتناسى ان الموسيقى اليهودية العربية كان لها دائماً جمهور وموسيقيون. فسليم أحد أهم موسيقيينا. والياس ساسا عازف كمان ومغن لامع. لو بقيا في العراق لبلغا العالمية". وبحسب شلومو ييسريلي، وهو مبرمج موسيقي في اذاعة اوروبية، يرتبط تطور الموسيقى العالمية بالعولمة: "كأنها سيف ذو حدين: من ناحية هناك رغبة في بث عناصر اثنية في الموسيقى الغربية، ومن ناحية أخرى هناك خوف من الانجراف في العولمة. وهذا الخوف يدفع بالموسيقيين الى العودة الى الجذور. لنأخذ يائير دلال مثالاً. فهو بدأ بأداء الجاز والبلوز، ليهرب من إرث أهله العراقيين. ومن ثم، ترك كل شيء ليعود الى الجذور، الى درجة التهام مؤلفات صلاح الكويتي". أما الشاعر روني سوماك فنشأ على موسيقى أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب. ويعتبر اليوم ان "موسيقى سليم النور واجهة لثقافة موسيقية هائلة هاجرت من العراق وغيرها من الدول العربية الى دولة اسرائيل لتعيش حكم الأكورديون الروسي والفيلارمونيا الألمانية".