منذ أن كتب واين بوث سفره الجميل عن بلاغة المفارقة، وبحوث الشعرية تتوقف ملياً عند هذا النبع الصافي للابداع، متمعنة كثيراً في طابعها السردي الغالب، ومؤوّلة قليلاً لما فيها من عنصر درامي كما فعلت في "اساليب الشعرية المعاصرة". وقد اعتبرت المفارقة في القص مناظرة للاستعارة في الشعر، اي انها تمثل عموده الفقري. غير ان زئبقية الحدود بين الاجناس الادبية من ناحية، ومهارة التوظيف التهجيني لبعض التقنيات الخاصة بنوع ادبي في انواع اخرى تجعل المفارقة في بعض الاشعار ملمحاً اسلوبياً يعطيها نكهتها الخاصة ومذاقها المميز كما نرى لدى الشاعر الفلسطيني/ الاردني موسى حوامده، ذلك لأنه يولد منها روح الفكاهة الغالبة على كتابته النثرية، مثل كتابه الطريف "زوجتي ضربتني" والموقف النقدي المدهش من الحياة في اشعاره في توظيفه للتراث كما نرى في ديوانه "شجري أعلى". ومهما كانت مساحة النص الشعري الذي تتحرك فيه لعبة المفارقة قصيرة او طويلة، فلا بد له ان يخطو في بناء نسيج سردي متماسك يتضمن اكثر من حركة، سواء كانت وجيزة مكثفة ام طويلة ممدودة. ولا يمكن ان يتم ذلك في ظل هيمنة الصوت الوحيد او اللون المفرد او النقطة الثابتة. وربما كان من ادق اشكال المفارقة وألطفها ما يتصل بمرجعيات الضمائر في بلاغة الشعرية، واختلافها الاساسي عن لغة الحياة العادية. فأنا الشاعر - مثلها في ذلك مثل انا القاص - لا تشير الى الشخص الحي المتلبس بالواقع التاريخي، وانما الى مؤلف ضمني يتجاوز حدود الواقع ويعلو عليه. وقد لمح النقد العربي القديم طرفاً من ذلك عندما أباح للشعراء ما لا يباح لغيرهم من القول، لا من ناحية انتهاك اللغة وتوليدها ابداعياً فحسب، بل من ناحية انتهاك القواعد العرفية للاخلاق العامة على وجه الخصوص. فالغزل - حتى الفاحش منه - لا يسقط مروءة الشاعر، وقد كان يكتبه الفضلاء في البيئات القديمة من القضاة والفقهاء والقادة، متجاوزين فيه الخطوط الحمر العربية، اعتمادا على طبيعة التخيل الوهمي من ناحية وانفصال الانا الشعرية عن الانا الاجتماعية من ناحية ثانية. لكن ضعف ثقافة كثير من قراء اليوم يجعلهم يتصورون القصائد فضائح ويخلطون بين مستويات القول والفعل، ويسارعون الى ادانة بعض اشكال الابداع المألوفة. ولنبدأ في قراءة بعض نماذج هذا الديوان المثير الذي تأرجح بين عنوانين كان اولهما ارهاصاً بمصيره اللاحق عندما كتب عليه "استحق اللعنة" فظلت تطارده لعنة سوء الفهم حتى بعد ان غيّره الى "شجري اعلى". حيث نجد القطعة الاولى فيه تلعب بضمير المتكلم وتثير شجون المفارقة اذ يقول بعنوان "مرايا": "يا الهي../ كلما حدقت في المرآة/ ... ارى وجهي!". تقوم المفارقة هنا على افتراض ان المرآة لا تعكس الظاهر بل الباطن، فاذا ما فعلت ذلك اثارت العجب والدهشة من الامر الطبيعي. ويذكرنا ذلك بجملة "لوركا" الشهيرة "اليس من الغريب ان يكون اسمي فيديريكو" فاسم الانسان - مثل وجهه - اقرب الاشياء الحميمة المألوفة له، فاذا ما دهش منها فقد انشطر وعيه الى مستويين، احدهما يستمرئ المألوف والاخر يعجب منه، بما يجعل المفارقة اداة فاعلة لنقد الوجود ومعابثة الحياة. وربما استحضرت هذه الصيغة بعض لفتات الهجاء اللاذعة في الذاكرة الشعرية مثل بيت الحطيئة الشهير: "أرى لي وجها قبّح الله شكله/ فقُبّح من وجه وقبح حامله" لكننا لن نراوغ اشعار موسى حوامده طويلا حتى نخلص الى تلك التقنية التي فجرت سخط المتطرفين عليه واتهامه بالمساس بالمقدسات وتمثلت في معايشته العميقة لنصوص القرآن الكريم والاجتراء على التناص معها بالتوافق حيناً والتخالف حيناً آخر مثلما تسمح التقنيات الشعرية المتداولة وقبل ان نعرض لقصيدة / قصة يوسف الشهيرة، لنبدأ بقصيدة اخرى عن سميّه الاول "موسى" حيث توهم الشاعر انه بامتلاكه الاسم يستطيع ان يشارك صاحبه الكليم ويناجي ربه ويتوه في سينائه. ثم يطلب في النهاية ارض ميعاده كما فعل نبي الله. فهو هنا يسير في قصته الجديدة على غرار الخطوط الاساسية للقصة القديمة، لكنه لن يتمكن من صناعة الشعر بهذا الاتفاق، بل عليه ان يعمد الى شيء من المخالفة للنموذج الديني المأثور. عندئذ يعمد الى صياغة معبود جديد يختلف عن العجل الذهبي الخوار الذي صاغه قوم موسى، وهو معبود يتألف من كلمتين مدمجتين تشيران الى معبودته فلسطين المعجونة من نور وماء. يقول الشاعر متكئاً على عصا موسى بعنوان "مآرب اخرى": "أعطاني سحر الكلمات وكلمني تكليما/ يا ألله/ هل يلقي عبدك موسى/ في الناس بنوته وعصاه/ بيضاء يدي/ والطير طيور/ سأشق البحر وأرفع عن كل الناس الجور/ هارون اخي/ والشعر شقيقي الاوفى/ ولساني لا بد يدور/ اني للرب الاقرب منذور/ مذ ألقتني امي في اليم/ ومذ منحتني زوجة فرعون النور". فأنا المتكلم هنا - صوت القصيدة - يلامس ذكرى النبي التوراتي ويتوازى مع معجزاته بما يماثلها في القدسية في عالم اليوم وأشواق للحرية والعدل، لكنه يتخذ الشعر شقيقه الافصح منه لساناً بدلاً من هارون، وعندما يصل الى تشكيل معشوقه يجعل اسمه "نورما" معجوناً من ماء ونور. ويَنْذُر صوت القصيدة إن عادت اليه فلسطين - ارض الميعاد للعربي المشرد اليوم - ان يعود بدوره للرب ويقيم له الصلوات. وليس هناك اقوى ولا ابلغ من هذا التوظيف الناجح للمقدس الديني لاستعادة المقدس الوطني والقومي. ليس هناك في طوايا هذه المفارقات الجادة اي ظل للسخرية او التجديف. ان الشاعر الفلسطيني الذكي يقاوم قهر الروح وطغيان الامر الواقع باستثارة انبل المكنون في تراثه الاصيل. واذا كان عدوه الصهيوني المهووس قد اقام حلمه القومي المتعصب على اساس التأويل التوراتي فان التوظيف القرآني الناجح يصبح مصدر الرؤية الخلاقة للمستقبل، وتحريم مثل هذا التوظيف على الشاعر تجريد له من سلاحه الروحي، وبدلاً من الادانة حريّ بنا ان نشجع الشعراء على التواصل الجمالي المبدع والتغذي الفني الخصب بالنص القرآني المعجز. على ان القصيدة التالية لهذا في الديوان تتابع صناعة ضمير المتكلم الجماعي وتخلق السياق الممهد لقصيدة يوسف نفسها، انها تتحدث عن "بلادي" معتمدة على شكل آخر من المفارقة. فهذه البلاد المحتلة، وان اصبحت جنة لمغتصبها في المستعمرات، تظل قاحلة لا ماء فيها ولا عشب عند ضمير المتكلم، بل انها تفقد كل يوم ملمحاً من ملامح الحياة حتى تنتهي الى الموت من دونه، انه: "يراها/محبوسة في البحر/ لا شمس ترفعها بخارا/ لا ريح تنثرها سماء/ لا رعد يخلع قلبها/ لا برق يخطف لبها/ لا ظل يجلب ماءها/ فتظل قاحلة/ بلادي...". يتجاوز الشاعر بهذه الرؤية المفارقة المركبة مواقف الانانية او الايثار ليعلن وضع الانتماء الجديد لارض لا خير فيها ان لم تكن ارض قومه، وسماء لا مطر فيها ان لم تستجب لصلوات اهله. انه: ينزف لأن وطنه في الاسر. يفعل ذلك بشعرية المفارقة حيث تصبح الارض غيمة حبيسة فاقدة لهزة الوجود. هذه الدلالة المركزية هي التي تمثل بؤرة اشعار موسى حوامده المثيرة، وهي التي لا بد من استحضارها عند قراءة النصوص الموهمة او المشكلة من دون سياقها. ونخلص من ذلك الى القصيدة التي صنعت مأساة سوء الفهم، وادت الى اتهام الشاعر في عقائده، مع انها عمدت الى توظيف نص قرآني كريم لا علاقة له بالعقائد والاحكام، نص سردي يهدف الى العظة والاعتبار في قصة يوسف الصديق عليه السلام الذي لم يخطر في بال الشاعر للحظة ان ينكر وجوده التاريخي، انه يقيم تناصاً معه على سبيل التخالف لا التوافق، يقدم من خلاله يوسف آخر، ليس نبياً ولا قرآنياً، يوسف شخصية معاصرة ترمز الى معان جديدة تدور في الفلك الدلالي ذاته الذي يشد اشعار موسى حوامده، فلك الصراع الوجودي مع العدو العنيد، ويتصل بوضع قطر عربي حساس في هذا الصراع وهو مصر. يبني الشاعر قصته الجديدة بتعديل معطيات القصة القديمة وتبديل اطرافها لصناعة دلالة جديدة لها. ليس معنى ذلك على الاطلاق انه ينفي القصة القديمة او ينكرها، فالشعراء لا شأن لهم بإثبات التاريخ او انكاره، بل هم ينشئون صوراً مبتكرة لوقائع شعرية متخيلة، لا ينقصون الابنية القائمة في عقائد الناس، ولا يصنعون مقدسات بديلة، بل يتوهمون فحسب استعارة بعض عناصر المقدس الحي في الوجدان وتوظيفها في سياق مغاير لتوليد دلالة غالبة على نفوسهم وينبغي ان تكون كذلك عند قرائهم. ومن يُقبل على قراءة الشعر من دون ان يكون ذلك واضحاً وبديهياً في وعيه، فأحرى له ان يتدرب على فهم الادب ونصوصه قبل مطالعة قصائده المشكلة والملتبسة ويتصدى للحكم المغلوط عليها. يقول حوامده في قصته الجديدة عن هذا اليوسف الاخر، يهودي اليوم الراهن!: "لم يسقط يوسف في الجب/ لم يأكله الذئب/ ولم تنقص من خزنة مصر الغلة/ لم تكذب/ تلك الملكة. وزليخة لم تر يوسف اصلاً/ من يوسف هذا؟/ ولد مطرود يعمل خبازاً او ناطوراً / يتخيل ان تصدفه الملكة يتوهم ان تعشقه الملكة...". هذه هي بؤرة الدلالة في القصة الجديدة، غواية الرجل اليهودي المخادع وانتهاكه للشرف المصري العربي اليوم، اسناده الخيانة لرمز الوطن، لملكة مصر، لكن مغالاة الشاعر في تركيب الرسوم والصيغ اللصيقة بالقصة القرآنية من دون الاكتفاء بالاشارة الخاطفة اليها، جعلت القارئ العادي يتجه الى تأكيد العلاقة بالنص القديم. ربما يعطي هذا المقطع انطباعاً بتعديل مسار القصة القديمة، وهو انطباع خاطئ لأنه لا يدخل في استراتيجية القصد الشعري والدلالة المركزية للنص المقاوم. لكن التقنية التعبيرية التي أسرف في الاعتماد عليها، وهي استحضار عناصر القصة القديمة لم تسعفه في تشكيل القصة الجديدة، يوسف الآخر أو المعاصر صبي خباز متوهم، تسلل الى بلاط الملكة، افترى عليها انما محاولاً تشويه سمعة مصر ورمزها النبيل، مدعياً وقائع المراودة لاثبات عشق المصريين لاسرائيل في كناية واضحة عن التطبيع المزعوم، بينما تشهد كل الحقائق، التاريخية والشعرية، على صلابة الموقف المصري. قد يكون المقطع غير مبني عن هدفه التعبيري بالصفاء اللازم، لكنه بعيد عن انتهاك المقدس، ولا علاقة له بالعقائد الدينية. انه يضرب في اتجاه المفارقة وتوظيف التراث لتغذية المقاومة الروحية للاعداء والنضال الشعري لدعاواهم الباطلة. * ناقد وأكاديمي مصري.