قطعاً، سأكون آخر من يخطر ببالك أن يكتب إليك إذا استعرضت أسماء الخلائق المُبهمة، والواضحة، وراء ذلك الستار المُمزّق الذي تحاول، مع القاطنين مثلك عمارة الحيلة الأزلية، أن ترفوه بخيوط الندم. وأنا، نفسي، كنت آخر من يخطر بباله أن يسلك بكلمات حبر الى بياضك الورق المنفلت من تقويم الله ممهوراً بختم القَدَر المعلوم كدوي الطلقة، التي اخترتها شوقاً الى العافية. غير انني أعرف، كلما استعرضتُك على خيالي، كم خذلت قصيدتك بتدبير يقين للقصيدة هو "هداية" الواقع بعد ضلاله في المعاني، ووكَّلتها بأخذ العصبية في طبائع المِلَل المخذولة مأخذ إيمان ب"الربح"، في منازلات الآتي الكبرى "للتاريخ"، حتى تساوى نازع التعويض عن "دنس" الراهن بالضرورات في سياق الطبيعة التي صونُها قانون الفيزياء. هكذا استدرجت القصيدة الى فكرة عَرَضٍ من فكرات المفتونين بالحتم، فخذلتَها، فخذلتك القصيدة. أعدتُ قراءة أناشيدك المدربة على "مضمون" مستقيم الإنشاء، وفق مغالبة السياسة - كأمل شرقي يرفده، أبداً، ماض "طاهر"، صُفِّي في غربال العصبية كالبلور - لأي وجدان آخر يتأمل صورة الشعر كعصيان في جوهره للمثال اللغوي، والمثال التاريخي للأفكار إذ تستوطن الخطاب، كنظر، لتوصيف الذات المجتمعية سيرورة "معافاة" في السياق الى طمأنينة الحلم بتصويب الخلل العارض على حقيقة "خلود" الملّة، والخِّلة، والأمة، والشعب: "شرق جديد" يلهم القصيدة، إذاً، بما ليس مثال شهوتها الى تدبير العصيان، وأنت، يا عزيزي خليل، ممتثل "للحقائق" الكبرى التي لا يجد الشعر فيها "ترفيهاً" عن محنته النبيلة، منذ قيِّض للشعر أن يزن الوجود والعدم بميزان المارق من نشأتيهما عن يدي المعنى المغلوب على أمره من كثرة التداول. رأيتك، في آخر صناعات شعرك تستقبل الرنين الجاذب من أوائل صناعات شعرك، حين غلبتك فتنة البشارة الرسولية بقدوم "الجوهر" بعد الطوفان - الجوهر الشرق، البكر، العذرية. الستينات الأوائل، العلم، في ريادتك لنصف الذائقة المنخطفة في وميض ت.س.إليوت: قَدَمٌ في التوراة، وقدم في أعمال الرسل - الستينات، تلك، أعطتك بسطةً على لغة توصف بقلة المفردات على نحو مدهش، فاستعارها المتأملون في "وجوديتهم" المترجمة الى العربية، قبل انقلابهم، في ما بعد بقليل، الى "نقاد" للإثم الفادح عقب الهزيمة. أنت، نفسك، يئست قليلاً حينذاك. لكنك عدت، في الثمانينات، الى "إحياء" المنهاج الرسولي بتدبير "أمل" للقصيدة كوعدك ب"شرق جديد" جمع حولك، في الستينات، مريدين، ومدافعين، ونُظّار معانٍ، كأنك أزمعت النظر الى نفسك، ثانية، في المرآة ذاتها، التي غادرها المشهد الى انهيار أكثر بؤساً. كنت غاضباً أبداً، عصبياً مريراً، قادتك خديعة القصيدة، التي لقنتها لغة "العافية"، الى محاكمة الآخرين جميعاً بتهمة التواطؤ على ريادتك. أنت تعرف، يا عزيزي خليل، انها كانت حرب "ريادة" ملفقة. لكن تقاسم الزمن بين "الأقران الأنداد" سوّغ للبعض إطفاف الكيل، بزعم جواز كيل الزمن ذاته بالمثاقيل - مثاقيل التفعيلة المنكوبة وجوازاتها المجزوءات. كسواك، لم تحاكم القصيدة في تراجعها، لأن ذلك قودٌ الى محاكمة "الفكرة"، التي تعامت عن انخطاف الواقع مذهولاً من شدة حماسة "الفكرة" الى تسويق الاستيهام النظري في الشعر. تخففت من توصيف المرئي الى توصيف النفوس بإنشاء الريبة العاصفة من كل شيء: رأيتك مرة تدخل "دار العودة" متوعداً، لأنك حلمت حلم منام بوجود أخطاء مطبعية في أعمالك، التي صدر عنها مجلد يحمل من المقالات عن شعرك أكثر من نصوصك. كان هذيان الريبة، وخديعة الواقع في القصيدة والقصيدة في الواقع، يمهدان لك تدبير العافية في دوي الطلقة من شرفة بيتك - طلقة صوَّبتها الى "الجسر" الذي يلي غمام "الشرق"، حيث تجلس الآن مقلِّباً هذه الرسالة، بأنامل الحجَّار، وجهاً الى ظهر. أأسمعك تقول شيئاً، يا عزيزي خليل؟: "مهلاً. ناصرتني مطلع شبابك". أهذا ما تهمسه إليَّ؟ أأسمع شيئاً آخر؟ لم أزل نصير غضبك من قصيدتك، مذ كان شبابي خيانة كهولتي، يا عزيزي خليل، الذي لم أكلمه قط، ولم يكلمني. حبذا لو جالستُك مرة واحدة. كانت المنضدة بيننا ستتقوَّض من صراخها إشفاقاً على تبادل الوعيد. مودَّتي لك