ليس امراً نادراً، في التاريخ، او الحياة العامة واليومية، ان يقع خصمان عنيدان في حب بعضهما، اخيراً، وليس امراً نادراً - كذلك - ان تنقلب العداوة الجارفة او النارية، الى حب جارف وناري. ففي طباع البشر ما هو اكثر غرابة من هذا التقلّب. ومع ذلك، فان ما حدث اخيراً مُحيّر ومفاجىء على نحو يصعب تخيله على انه مجرد تحول طفيف في المشاعر المتأججة. يمكن اعادة تمثل "واقعة" التبدّل المفاجئ في المشاعر والآراء الشخصية والسياسية، بين العاصمة العراقية وعدوها اللدود سكوت ريتر على هذا النحو: اخيراً ولسبب ما، وقع الخصمان العنيدان في غرام بعضهما، ولاجل توثيق هذه اللحظة التاريخية فان الفيلم الوثائقي الذي يُعده سكوت ريتر يستحق ان يحمل العنوان: "الوقوع في غرام العدو". فما الذي حدث، حقاً، لكي يغيّر الخصمان مواقفهما؟ يقال في سيكولوجيا الشخصية العراقية ان العراقي يمتلك طباعاً نارية تقبع خلف او تحت جبل من العواطف الجامدة، ولذا فهو يحب بعنف او يكره بعنف، ولا سبيل الى عاطفة ثالثة. طبقاً لهذا المعتقد العامي الشائع، فان العداوة موقف نفسي قبل ان تكون ذات بعد سياسي. ولذلك فهي تتمتع بقابلية تجريدية على الانقلاب الى نقيضها: الحب. وفي الواقع لا يخلو تاريخ الشخصية العراقية الجمعية والفردانية من مواقف يكون فيها مثل هذا الانقلاب في المشاعر هو القانون السائد. تروي اسطورة قديمة من مدينة الحضر شمال العراق شيئاً عن هذا الانقلاب المفاجئ في المشاعر. تقول الاسطورة رواها الطبري وآخرون ان سابور ذي الاكتاف ابن اردثير الاول: 241 - 272م ملك فارس، حاصر مدينة الحضر لاربع سنوات لكنها امتنعت عليه ولم تسقط بيده. وذات يوم اشرفت ابنة ملك الحضر وتدعى النضيرة على السور فرأت الملك الفارسي الشاب والوسيم سابور. في هذه اللحظة وقع الشابان في حب بعضهما. لقد ضجر الشاب من الحصار وضجرت النضيرة من الحرب التي لا نهاية لها، ولذا بدا الحب هو المخرج الوحيد المتاح امامها للخلاص من الورطة. آنئذٍ، سقطت اسوار الحضر ودخل الملك الفارسي لا فاتحاً بل طالباً يد ابنة الملك زوجة له. مثل هذا الانقلاب في المشاعر، يمكن ان يكون قد لازم هذا التحول في موقف بغداد وسكوت ريتر بعد حصار طويل يبعث على الضجر. ان تأملاً عميقاً في مغزى هذا الانقلاب يمكنه ان يكشف عن ابعاد اخرى غير مرئية. 1- ان اتهام العراقيين لسكوت ريتر بأنه "جاسوس" و"كلب امبريالي مسعور" و"حاقد على العراق" يمكن ادراجه ببساطة، في اطار التكوين التاريخي للشخصية العراقية لا في اطار معضلات الخطاب السياسي العراقي. وبرأينا فان مثل هذه التوصيفات تتصل بالموقف التقليدي للعراقي، حتى العراقي العادي، من كل "غريب" او "غامض"، فهو "شيء مشبوه" و"استعماري" و"جاسوس". ان العراقي، بطبيعته، يتمتع بقدرة مذهلة على تخيّل الآخر من دون استناد الى وقائع. ولذلك فان الفولكلور السياسي العراقي السائد في اوساط المعارضة والحكم على حد سوء ينطوي على "استخدام مفرط" لتوصيفات مثل "هذا خائن" او "ذاك جاسوس". ان التكوين التاريخي للشخصية العراقية بالكاد يفلت من هذا المكوّن الرئيسي: "شيطنة" الآخر، الغريب والغامض لأن الطريق الاسهل والافضل لفهمه هي في تخيّله لا في رؤيته عن قرب، وهذه رواسب طباع بدوية متأصلة في الشخصية العراقية. 2- في هذا الاطار لم تتمكن بغداد قط، من تفهّم شخصية "عدوها التاريخي" الذي دخلت معه في حرب دامية. لقد ظل الاميركي شخصية غامضة حتى بعد عشر سنوات من الحرب والحصار. والمثير، ان بغداد ظلت تستخدم اللغة ذاتها طوال هذه السنوات في توصيف الاميركي من دون ان تدرك ان هذه السنوات كفيلة بحمل كل امرئ مهما كان عديم الاهتمام، على ان يجرّب الاقتراب وامعان النظر ملياً في "الشبح" الذي يحاربه. وباختصار فضّلت بغداد رسم صورة نمطية موازية للصورة النمطية التي رسمها العدو وهذا امر مثير ومحيّر، فاذا كانت بغداد تريد رفعاً للحصار او حواراً مع الولاياتالمتحدة، كما صرح بذلك مسؤولون بارزون منهم طارق عزيز وطه ياسين رمضان، فان لمن الاجدى والانفع الشروع في التخلص من التخيّل والاقتراب من الصورة الفعلية للعدو. وهذا يعني تفهماً جدياً لدوافع اصرار العدو على تدمير العراق. هل حقاً تريد الولاياتالمتحدة تدمير العراق؟ ام انها تريد فرض شروط جديدة تعاد فيها صياغة النظام السياسي العربي الاقليمي ومن ضمنه العراق؟ في قلب هذه الصورة النمطية، تخيل العراقيون سكوت ريتر: رجلاً شريراً حقوداً، مهووساً، جاسوساً، فيما تراجعت الى الوراء اية امكانية اخرى للاقتراب من دوافع ريتر لأن يكون "حاقداً" و"جاسوساً" او "كلباً مسعوراً" واعادة فحصها وتقويمها. هل هي حقاً كذلك، ام ان لسكوت ريتر دوافع مهنية مُحرّكة بقوة زخم الحماسة الدولية للكشف عما اصطلح عليه ب"اسلحة الدمار الشامل". 3- الامر الهام للغاية في هذه الواقعة، انها يجب ان تكون درساً بليغاً للعراقيين، سواء كانوا في الحكم ام في المعارضة: ففي حقل السياسة من غير المسموح به الافراط او عدم التحسّب، عند استخدام مثل هذه التوصيفات. ولكن في المقابل، تنبئ هذه الواقعة ببداية حقبة لا بد ان ينهار فيها هذا "التراث العراقي التقليدي" اي: تراث "تخوين" الآخر ووصمه ب"الكلب" و"الجاسوس" لأن الواقع ربما يرغم منتج هذه التوصيفات على الاعتذار الضمني منها، وعلى التعاطي مع "الكلاب" و"الجواسيس". ففي السياسة ثمة المصالح لا العواطف بل ان السياسة هي، حقاً، التعاطي مع "الكلاب والجواسيس". 4- تنتمي هذه اللغة وهذه الصورة السياسية في واقع الامر، الى ايديولوجيا كفّت عن تبرير نفسها. اذا كانت بغداد قادرة على تبرير تخليها عن هذه اللغة، فبوسعها ايضاً ان تتقدم خطوة اخرى الى امام وتتخلص من "خطابها" السياسي، الذي برهن بجدارة انه يستحق مكاناً وحيداً هو المتحف الوطني للمحفوظات. الغرام المفاجئ الذي وقعت فيه بغداد، كما وقع فيه سكوت ريتر، يمكن تأويله في اكثر من اتجاه. بيد ان الامر المهم يقع هنا: لقد اضطرب الخطاب الايديولوجي للحكم في بغداد عند اول امتحان للسياسة. فاذا كانت الايديولوجية تحرّم على معتنقيها التعامل مع "الجواسيس" و"الكلاب" فان السياسة، بالضبط، هي التعامل مع "الجواسيس" و"الكلاب". ان الثقافة السياسية السائدة في عراق الداخل مثلها مثل الثقافة السياسية السائدة في عراق الخارج، انتاج لصور نمطية يتحول فيها الاشخاص والجماعات، بسهولة، الى "اشباح". ومثال سكوت ريتر قد يكون مفيداً للتأمل في الذهنية العراقية من زاوية جديدة، اذ قد يقع المرء، ذات يوم، في غرام عدوه. من يدري؟