على رغم مرور ما يقرب من عشر سنوات على انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وأكثر منها على سقوط سلطته الفكرية التي جعلت الماركسية بمثابة "كهنوت" يقبع كهنته في موسكو، ما زال معظم اليسار العربي الذي كان أسيراً لتلك السلطة غير قادر على الفكاك من آثارها. فقد كانت "بيروسترويكا" غورباتشوف أول علامة واضحة على المأزق العميق لليسار. واقترنت أهميتها الكبرى بأنها جاءت من قلب السلطة التي كانت هي المسؤول الأول عن تلك الأزمة التي ضربت اليسار في كثير من أنحاء العالم. وأدى سقوط الاتحاد السوفياتي والنظم التابعة له في شرق أوروبا إلى تعميق الأزمة على نحو كان مفترضاً معه أن تبدأ في الانفراج عبر التجديد الفكري والنظري الذي بدا وقتها أنه لا بديل منه. ولكن إذا نظرنا إلى حال اليسار العربي اليوم، وخصوصاً قسمه الشيوعي أو الأكثر اقتراباً من الماركسية، نجد أن السنين مرت بطيئة عليه. فلم يغادر بعد حال الأزمة، إن لم يكن استسلم لها. وعندما اتجه بعض الأحزاب والتجمعات اليسارية العربية إلى محاولة التجديد، غلب على هذه المحاولة الطابع الشكلي ووقفت أحياناً عند حد تغيير اسم بعض الأحزاب الشيوعية. فأصبح الحزب الشيوعي الفلسطيني حزب الشعب، والحزب الشيوعي التونسي حزب التجديد على سبيل المثال. ولم يكن بعض هذه الأحزاب في حاجة إلى تغيير الاسم، لأنها حملت من البداية اسماء أخرى، مثل حزب التجمع الوطني التقدمي في مصر والذي نشأ أصلاً العام 1976 كتجمع لتيارات شيوعية، وناصرية وشخصيات قومية عامة ولكن بقيادة ماركسية. وبعد سنوات خرج منه الناصريون أو غالبيتهم والشخصيات القومية، وأصبح حزباً شيوعياً ذا صلة وثيقة بالحزب الشيوعي المصري الذي يعمل تحت الأرض، إلى حد أن معظم المراقبين يعتبرون التجمع هو الواجهة العلنية للحزب الشيوعي. غير أن هذا التقدير ينطوي على مبالغة ناجمة عن إغفال أهمية وجود هيكلين تنظيميين متمايزين مهما كان حجم التدخل بينهما. وأياً كان الأمر، فالواضح أن اليسار العربي لم يستطع الخروج من الأزمة التي عانى منها اليسار العالمي وتباينت استجابته لها. ففي أوروبا حيث نشأت الماركسية وترعرعت، نجد فرقاً جوهرياً بين الذين بادروا بالتجديد وسبقوا إليه منذ السبعينات، وفي مقدمه الحزب الشيوعي الإيطالي، وبين من استسلموا للجمود المذهبي وفي مقدمهم الحزب الشيوعي الفرنسي. ففي الوقت الذي برز في ايطاليا يسار حديث تمييزاً له عن اليسار الجديد الذي برز في الستينات وصار قديماً جداً الآن قادر على النمو والتأثير في تطور بلاده، ظهرت أعراض الشيخوخة على اليسار الشيوعي في فرنسا. ومن الدلائل على ذلك أن صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي لم تنتبه إلى عبثية استمرار وضع شعار "المنجل والمطرقة" إلا منذ أقل من عامين. وكان مغزى تأخرها في استبعاد هذا الشعار هو عدم إدراك التحولات الجوهرية التي يشهدها الاقتصاد العالمي في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات، وما أدت إليه من ظهور ما يسمى الاقتصاد الحديث الذي أدى إلى تراجع الزراعة والصناعة التقليديتين من حيث إسهامهما في النمو الاقتصادي، فضلاً عن إدخال تغييرات أساسية في طابع الأنشطة الزراعية والصناعية. ومع ذلك ما زال وضع اليسار العربي في مجمله أقل استجابة للأزمة مقارنة ليس فقط بنظائره في أوروبا، ولكن أيضاً في بعض بلاد أميركا اللاتينية وآسيا. فبالإضافة إلى العجز عن التجديد في المضمون والاكتفاء برفع شعارات تبدو جديدة ولكنها غير منسجمة مع البناء الفكري والمرجعية المعرفية، يفتقد بعض الأحزاب اليسارية العربية الشفافية ولا تمتلك الشجاعة الكافية لمصارحة الناس بموقفها من المرجعية الماركسية. ويمكن الاستدلال على ذلك من البرنامج الانتخابي الذي أصدره أخيراً حزب التجمع الوطني التقدمي في مصر والذي سيخوض على أساسه الانتخابات البرلمانية التي ستبدأ في منتصف تشرين الأول اكتوبر المقبل. فأبرز ما يتسم به هذا البرنامج هو التناقض البنائي الذي يشعر به القارئ منذ الشعارات التي اختيرت عنواناً له تنمية مستقلة - عدالة اجتماعية - حرية سياسية وحتى الكثير من نصوصه التي قد يلغي بعضها البعض الآخر كما سنوضح لاحقاً. فهناك - أولاً - عدم انسجام بين شعاري التنمية المستقلة والحرية السياسية، إن لم يكن تناقض بينهما. فالتنمية المستقلة وفقاً لمضمونها الأكثر شيوعاً والذي صاغته مدرسة التبعية تقتضي تعبئة كاملة ليس فقط للموارد الاقتصادية ولكن أيضاً لفعاليات المجتمع وإخضاعها لتوجيه مركزي يعني بالضرورة مصادرة استقلال المنظمات غير الحكومية وبالتالي تقويض المجتمع المدني. أما الحرية السياسية فهي - على العكس - لا يمكن الوصول إليها من دون مقدار معقول من حرية المجتمع في إدارة شؤونه وبالتالي تحرره من التعبئة المركزية والتوجيه السلطوي وتمتعه بالحد الأدنى على الأقل من الاستقلال. ولذلك تظل الحرية السياسية عندما يطرحها اليسار مجرد شعار بلا مضمون إلى أن يقوم بمراجعة نقدية جادة لمرجعيته الفكرية كما فعل بعض الأحزاب الشيوعية في أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا. ومن دون هذه المراجعة يصعب الاقتناع بالشعارات الديموقراطية التي يرفعها حزب مثل التجمع المصري، لأنها تبدو مستعارة من مواقف وبرامج أحزاب ليبرالية من دون أي ضمان لالتزام الحزب بها إذا وصل إلى السلطة، بافتراض أننا في عصر معجزات. بل إن العنوان العريض الرئيسي لبرنامج حزب التجمع وهو "المشاركة الشعبية طريق التغيير" يعتبر مقولة ليبرالية، لا يسارية لأن المشاركة هي جوهرية الديموقراطية التي ينظر إليها في مرجعية حزب التجمع الفكرية على أنها أداة للاستغلال الرأسمالي وسيطرة البرجوازية. وهذا هو ما نقصده بضرورة المراجعة الفكرية التي دعا إليها الشيوعي الإيطالي العظيم بالميرو تولياتي، منذ نحو ربع قرن عندما قال بوضوح إن "مهمة رسم الطريق الديموقراطي للاشتراكية تتطلب إلى جانب التجديد السياسي العملي جهوداً جبارة في المجال النظري". وعلى هذا النحو يجوز اعتبار برنامج التجمع الانتخابي محاولة - على أكثر تقدير - للتجديد السياسي العملي. ولكن نجاح المحاولة من عدمه يتوقف على ما اشترطه تولياتي، وهو الجهود الجبارة في المجال النظري. ولكن التجمع، مثله مثل أحزاب اليسار العربي، لم يبذل جهوداً جبارة أو غير جبارة في هذا المجال. ولم يظهر حتى ما يدل على جديته في هذا الاتجاه، خصوصاً وأن صحيفته تتبنى في العامين الأخيرين خصوصاً مواقف لا ديموقراطية في كثير من القضايا، بل إنها سجلت تراجعاً ملموساً في هذا المجال مقارنة بما كانت عليه في الثمانينات، أي قبل زلزال انهيار الشيوعية العالمية، عندما خاضت معارك كبرى من أجل الديموقراطية. ولأن صحيفة الحزب هي عنوانه الأول - وأحياناً الأخير - في مصر حتى الآن، فقد ساد عن حزب التجمع انطباع أكثر سلبية من ذي قبل خلال العامين الأخيرين، على رغم أن العكس كان هو المفترض، وخصوصاً بعد أن طولب حزب التجمع بإثبات جديته في اعتماد الديموقراطية طريقاً للاشتراكية. واقترن بعض هذه المطالبات باتهامات صريحة مثلما حدث في مؤتمر الحوار الوطني العام الذي عقد في القاهرة في حزيران يونيو 1994. فعندما وقف أحد قادة الحزب متحدثاً عن أهمية الديموقراطية، قاطعه بعض الحاضرين من الحزب الوطني الحاكم والمستقلين متسائلين: وأية ديموقراطية هذه التي تعرفها الماركسية؟ كما كتب عدد من الكتاب الحريصين على أن يكون لليسار العربي دور مطالبين بمراجعة لأصوله الفكرية المتناقضة مع الديموقراطية. ونشرت "الحياة" وعلى هذه الصفحة مقالات عدة من بينها مقالة لكاتب هذه السطور في 2 أيار مايو 1995 تحت عنوان: "تجديد الخطاب لا يغني عن المراجعة المعرفية: كيف يتحقق الانسجام الفعلي بين اليسار والديموقراطية؟" وركّزتُ فيها على أن تحول الخطاب اليساري نحو الالتزام بالديموقراطية لا يكفي، وخصوصاً بالنسبة إلى الأحزاب والمنظمات. ففي إمكان المثقف اليساري الفرد أن يتناسى أصوله الفكرية ومرجعيته غير الديموقراطية. أما الأحزاب والمنظمات فهي تقوم بتنشئة أعضائها وفق هذه المرجعية وتلك الأصول التي إذا لم تتم مراجعتها ستظل تحولات الخطاب السياسي والبرنامجي هشة ومتناقضة كما يتضح من البرنامج الإنتخابي الجديد لحزب التجمع المصري. ولا يقتصر ذلك على التعارض الذي لم يحله البرنامج بين ما تقتضيه التنمية المستقلة بمفهومها الماركسي من تقييد لاستقلال المجتمع وبين ما تفرضه الحرية السياسية من توسيع لهذا الاستقلال. فالبرنامج، إلى ذلك، لا يخلو من مراوحة في نصوصه بين التخطيط المركزي واقتصاد السوق. ولم تفلح الإشارة إلى المزاوجة بين نظامين اقتصاديين مختلفين في إخفاء ما يشوب هذه المراوحة من اختلالات. كما لم يكف لإخفاء ذلك النص على ضبط السوق ومعالجة تصورها، لأن أكثر الليبراليين إيماناً بالحرية الاقتصادية يعتبرون ضبط السوق مسألة لا غنى عنها، بل تعتبر من بديهيات الاقتصاد الحر، لأن السوق لا تعمل من تلقاء نفسها وإنما وفق قوانين وقواعد وضوابط يضعها النظام السياسي. ومثلما ظل الحزب الشيوعي الفرنسي أسير "المنجل والمطرقة" إلى وقت قريب، يبدو برنامج التجمع أبعد ما يكون عن مفهوم الاقتصاد الجديد اقتصاد الاتصالات والمعلومات الذي لا يمكن تحقيق تنمية حقيقية من دونه. فهو ما زال يقف عند المفهوم السوفياتي للتنمية بنصه القائل: "تعبئة الموارد المحلية وتوجيهها إلى قطاعي الزراعة والصناعة بالأساس والقطاعات التي تتكامل معها مثل الطاقة والبنية التحتية والخدمات الإنتاجية" وكذلك "إعطاء الأولوية للصناعة في عملية التطوير الاقتصادي" وإن كان استبعد فقط النص على "الصناعة الثقيلة". ولذلك يبدو البرنامج متخلفاً بكثير عما تسعى إليه الحكومة المصرية من بناء قاعدة للنهضة التكنولوجية مع اهتمام خاص بتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات. ولكنه يبدو في مواضع أخرى مطالباً بما تنتهجه السياسات الحكومية فعلاً، مثل الحد من الاعتماد على القروض الخارجية، وعدم بيع البنوك العامة وشركات التأمين والمجتمعات الصناعية الكبرى والنقل الجوي وقناة السويس. ولذلك تكون مطالبه هذه لا معنى لها. ويقع البرنامج في تناقض آخر عندما يطالب بوقف بيع القطاع العام، وتنفيذ برنامج متكامل لاستيعاب الخريجين من خلال تشغيل الطاقات العاطلة في هذا القطاع ص6، ثم يدعو في الفقرة التالية مباشرة بداية ص7 الى صرف إعانة بطالة. فهذه الإعانة هي طريقة يلجأ إليها اقتصاد السوق للحد من مشكلة البطالة التي لا يمكن حلها بإجراءات قسرية تفاقم الخلل الاقتصادي وتخلق بطالة مقنَّعة أشد خطراً من البطالة الصريحة. ومع ذلك يطالب بها البرنامج في الوقت الذي يدعو الى تشغيل المتعطلين في القطاع العام بعد توسيع نطاقه مرة أخرى، أي يدعو - ضمنياً - الى سياسة تأميم ومصادرة القطاع الخاص أو جزء منه. فكيف يمكن الجمع بين العودة إلى التشغيل الكامل والبطالة المقنَّعة، وبين اعتماد أسلوب إعانة البطالة، بل والمطالبة بإنشاء صندوق للبطالة. وهذا مطلب من بين مطالب كثيرة يحفل بها البرنامج من دون أن يوضح كيفية تمويلها وتوفير موارد لها. ولكنه في هذا المطلب يدعو الى فرض رسم إضافي على الايرادات كافة التي لا يحددها وبالتالي لم يجر حساباً لعائدات مثل هذا الرسم. فليس هناك أسهل من تعداد المطالب التي يمكن أن تكون بلا نهاية، بل وغير معقولة مثل منح الزوج الأجنبي لسيدة مصرية حق الحصول على جنسية مصر من دون مراعاة المخاطر الأمنية التي يمكن أن تترتب على إطلاق هذا الحق، كأن يكون هذا الزوج إسرائيلياً مثلاً أو ساعياً إلى استغلال حق المواطنة للقيام بأعمال غير مشروعة أو ضارة اقتصادياً أو سياسياً. ومن المطالب غير المعقولة أيضاً الدعوة الى تحقيق تنمية شاملة ومطردة على المستوى العربي. فهل هذه وظيفة حزب سياسي في مصر؟ وهل أدت الأحزاب المصرية مهماتها في بلدها كي تمد جهودها إلى بلاد عربية أخرى؟ غير أن مثل هذه الاختلالات البرنامجية يسهل علاجها اذا توفر مقدار أكبر من المسؤولية في طرح المطالب. ولكن ما يصعب إصلاحه هو عدم الانسجام بين الخطاب السياسي والأصول الفكرية بانعكاساته السلبية على كيفية التعامل مع قضايا أساسية تتعلق بالتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فما زال عدم الانسجام هذا هو جوهر أزمة اليسار العربي التي يؤكدها مجدداً البرنامج الانتخابي لحزب التجمع المصري. * كاتب مصري. مساعد مدير مركز "الأهرام" للدراسات السياسية.