تشهد الهند حركة نمو سريعة في قطاع النقل الجوي ينتظر أن تؤدي إلى تضاعف عدد المسافرين خلال الأعوام الخمسة المقبلة مرتين على الأقل، وبتجاوزهم عتبة السبعين مليون مسافر. ولا تستطيع المطارات الحالية التعامل مع تنامي السعة المقعدية المتاحة أو استقبال طرازات الطائرات العملاقة الجديدة التي سيجري بناؤها حالياً تمهيداً لوضعها في الخدمة، وهو أمر يثير استياء المسؤولين في الولايات ال26 التي تضمها البلاد والتي ترغب في تسهيل انتقال المستثمرين والسياح إليها. ولفتت الأنظار التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء الهندي آتال بهاري فاجبايه، خلال زيارته الأسبوع الماضي واشنطن، والتي أشار فيها إلى تصميم حكومته على تبني سياسة تضمن دخول الاستثمارات الأجنبية إلى قطاع تطوير المطارات الهندية وتشييدها وإدارتها. وقال فاجبايه في كلمة له أمام ممثلي كبرى الشركات الأميركية، إنه تم وضع حجر الأساس لتأمين قدوم استثمارات طويلة الأمد تسمح ببناء خمسة مطارات دولية رئيسية في الهند على يد القطاع الخاص. وكانت الهند شهدت تحولات لافتة منذ انفتاحها التدرجي على العالم الخارجي ابتداء من عام 1991. إلا أن النمو الاقتصادي الذي تبع هذا الانفتاح أدى إلى إبراز العجز الذي تعاني منه مرافق النقل الجوي الهندية وعدم قدرتها على الاستجابة بمرونة للنمو السريع والهائل الذي عرفته صناعة الطيران منذ السبعينات. وكان أبرز نقاط الضعف الواضحة التي ظهرت تخلف مستويات السلامة وتدني مستويات الخدمة، في وقت ازدادت الدعوات إلى تطوير المطارات وتوسيعها على أمل أن يسهم ذلك في ربط مناطق الاستثمار في الهند ونقاط الجذب السياحي التي يجري تطويرها في الأسواق الخارجية. ونصت الخطة الخمسية التاسعة 1997-2002 التي وضعتها الحكومة الهندية، على انفاق "هيئة مطارات الهند" 21.34 بليون روبية نحو 850 مليون دولار على تطوير المطارات والتجهيزات بما يكفل تلبية الطلب المستقبلي على النقل الجوي وخفض الازدحام وتطوير معدات التوجيه والملاحة. إلا أن ما انفق خلال السنوات الثلاث الأولى من الخطة الخمسية لم يتجاوز 22.10 بليون روبية أو أقل من 29 في المئة من اجمالي المبالغ المرصودة. وهذا يعني عملياً ضرورة تغطية العجز عبر زيادة حصة القطاع الخاص في عملية تطوير المرافق الجوية. النمو المتوقع وتتركز حركة النقل الجوي في الهند في مطارات عدة تخدم هذا البلد الآسيوي العملاق الذي تجاوز قبل شهرين عقبة البليون نسمة. وتشير الاحصاءات إلى أن عدد المسافرين جواً وصل خلال السنة المالية 1998-1999 المنتهية في شهر آذار مارس إلى 37 مليون مسافر، انتقل 70 في المئة منهم عبر خمسة مطارات رئيسة هي: مومباي ودلهي وتشيناي مدراس وكلكتا وثيروفاننشابورام ولاية كيرالا. أما حركة الشحن الجوي الداخلي والدولي في مختلف المطارات فبلغت 670 ألف طن متري خلال السنة 1998-1999 في تراجع طفيف عن المعدلات المسجلة عام 1997-1998 والتي بلغت 6.705 ألف طن متري. وتشير الاحصاءات والتقديرات الحكومية إلى أن معدل النمو في حركة النقل الداخلي سيبلغ 5.8 في المئة سنوياً حتى عام 2005 مقابل معدل نمو في حركة النقل الدولي يبلغ ستة في المئة. إلا أن هناك تقديرات أكثر تفاؤلاً تأخذ في الاعتبار معدلات النمو المرتفعة التي يشهدها الاقتصاد الهندي والنمو الكبير في حجم الطبقة المتوسطة التي باتت تبلغ عشرات الملايين. جدية متأخرة وتعود أول سياسة جدية وضعتها الحكومة الهندية بهذا الخصوص إلى كانون الأول ديسمبر 1997 حينما صدر قانون يحدد سياسة شاملة لتطوير المرافق الأساسية للطائرات. واعترفت الحكومة عامذاك بوجود حاجة ماسة إلى مساهمة الشركات الخاصة والأجنبية في بناء المطارات وإدارتها. وتقرر أن يُعهد، في حال مشاريع بناء المطارات الدولية الكبيرة، إلى هيئة متخصصة في العمل ضمن صيغة متكاملة لبناء مطارات "تسليم مفتاح". ونصت الاجراءات المعلنة على السماح للحصة الأجنبية في هذه المشاريع بأن تصل تلقائياً إلى نسبة 74 في المئة من المشروع، على أن يحتاج رفع هذه النسبة إلى 100 في المئة إلى اذن خاص. وتضمن مشروع القانون أيضاً انشاء هيئة عامة مستقلة للاشراف على المطارات تتولى تحديد الأسعار ومنح حصص الهبوط والطيران والمساحات المستخدمة في المطارات. حسابات خاسرة وكانت قضية وضع سياسة عامة للطيران التجاري وقطاع النقل الجوي اثيرت قبل أربعة أعوام مع جهود بذلت داخل البرلمان لاخراج "طيران الخليج" و"الخطوط الكويتية" من ملكية شركة طيران "جت ارويز". وكانت الناقلتان العربيتان ساهمتا في تأسيس "جت ارويز" قبل أن يثير نجاح المشروع طمع بعض الأطراف الهندية التي تكاتفت معاً وقررت اصدار قانون عبر البرلمان الرئيسي في نيودلهي يحرم الشركتين العربيتين من قطف ثمار استثماراتهما وتوظيفاتهما في أنجح شركة للنقل الجوي عرفتها الهند حتى اليوم. وجرت عملية اخراج مدبرة أتاحت استئثار الشريك الهندي بالشركة في مقابل بعض التعويضات المالية المحدودة ومنح السلطات الهندية الناقلتين الخليجيتين حقوق نقل إضافية إلى بعض المطارات في الهند. إلا أن قانون الاستثمار الخاص الذي أصدره البرلمان لتمرير هذه اللعبة في نيسان ابريل 1997، بدعوى حماية المصالح الوطنية، تحول إلى عائق أساسي أمام نمو صناعة النقل الجوي في الهند، إذ نص القانون على منع شركات الطيران الأجنبية من المشاركة في رأس مال الشركات الجوية الهندية، وأتاح فقط مشاركة أجنبية لا علاقة لها بشبكات الطيران ولا تتعدى 40 في المئة من اجمالي رأس مال شركات النقل الجوي التي تعمل على الرحلات الداخلية. وتتصدر شركة "جت ارويز" وشركة "صحارى" قائمة الشركات الجوية الهندية الخاصة التي تعمل على الرحلات الداخلية، وهما الوحيدتان اللتان تسيران رحلات منتظمة في حين تؤمن 41 شركة خاصة تسيير رحلات غير مجدولة إلى مختلف أنحاء الهند. وتتولى شركة "انديان ارلاينز" الحكومية تسيير رحلات مجدولة بدورها، إلا أنها تبقى بعيدة عن مجاراة "جت ارويز" و"صحارى" في مستوى خدماتهما. وتستحوذ خدمات النقل الجوي الداخلي التي يؤمنها القطاع الخاص على 4.41 في المئة من قطاع الرحلات الداخلية في الهند، وهو يعادل خمسة ملايين مسافر يومياً، في حين تستأثر "انديان ارلاينز" بحقوق نقل احتكارية وتسهيلات حكومية رفعت نسبتها من اجمالي حركة النقل الداخلي إلى 9.58 في المئة. وترتبط عملية الانفتاح في قطاع النقل الجوي برؤية أشمل تندرج في إطارها عملية تطوير المطارات في الهند. وأقرت الحكومة الهندية في صورة مبدئية إقامة مطارات جديدة في كل من بنغالور وحيدر آباد ومدينة غوّوا بمشاركة القطاع الخاص. كما قررت، لحفز مساهمة الرساميل الخاصة، تأجير العمليات في المطارات القائمة في كل من دلهي ومومباي وكلكتا وتشيناي. وكانت هيئة المطارات الهندية اعتمدت في كانون الأول يناير الماضي شركة "كي. بي. إم. جي" كمستشار لعملية استدراج عروض تأجير المطارات والتي ستسبقها قبلاً مناقصات دولية أشار إليها رئيس وزراء الهند خلال رحلته إلى واشنطن الأسبوع الماضي. وكان أول مطار بناه القطاع الخاص هو مطار كوشين الدولي في ندوم باساري، في ولاية كيرالا الجنوبية، التي تتميز بتصدير عمالة ماهرة متخصصة في الإدارة والتي يأتي منها أكثر من 60 في المئة من العمال الهنود المهاجرين إلى دول الخليج. وبلغت كلفة المطار الدولي الذي افتتح في أيار مايو الماضي 3.2 بليون روبية نحو 540 مليون دولار سددت منها حكومة كيرالا 26 في المئة، وتولى الهنود المهاجرون تمويل الجزء الأكبر المتبقي. وكانت ولاية كارناتاكا دعت أيضاً قبل أكثر من عام، الشركات المهتمة إلى التقدم بعروضها لبناء مطار دولي في دفنهالي، على بعد 30 كيلومتراً من مدينة بنغالور على أن تكون حصة الشريك الأجنبي 74 في المئة من المشروع مقابل 26 في المئة للولاية و"هيئة الطيران الهندي" معاً. وتم استبقاء سبعة عروض رئيسة في المناقصة شملت شركات هندية وهيئة مطارات امستردام و"سيمنز" ومطار ميونيخ وشركة "إيه. بي. بي لتقنيات المطارات" السويدية ومطار برلين وشركة "بكتل" الأميركية ومطار "هوشلين" وهيئة المطارات البريطانية. وكما حظي مشروع بنغالور باهتمام دولي متعدد، كذلك حظي مشروع بناء مطار دولي عملاق في منطقة شمس آباد، القريب من مدينة حيدر آباد، باهتمام دولي مماثل، إذ تقدمت 18 شركة بعروضها ليتم استبقاء ست منها في النهاية، ثم ارتفع العدد إلى سبعة عروض مع توجيه الدعوة إلى "طيران الإمارات" للدخول في المناقصات عبر ذراعها "دناتا" في ظل الرغبة الواضحة لمسؤولي ولاية آندرا براديش في الاعتماد على "طيران الإمارات" لربط الولاية بإمارة دبي ومنطقة الخليج، والاستفادة من العلاقة مع المجموعة الإماراتية التي باتت تملك خبرة دولية في إدارة المطارات وعمليات الشحن الجوي تمتد من وسط آسيا إلى الشرق الأوسط وجنوب آسيا. وكانت الحكومة الهندية أقرت في نيسان ابريل الماضي توصيات قدمتها لجنة المرافق الأساسية لتطوير المعايير الدولية في مطارات حيدر آباد وأحمد آباد وغوّوا وكوشي وغواتي وأمريستار. ومن المنتظر كذلك أن يُبت قريباً في موضع المطار الدولي الجديد الذي سيجري بناؤه في مومباي، إذ اقترحت الشركات الخاصة بناءه في منطقة رواس أو منطقة مدوا، إلى الجنوب من مومباي، بينما ترغب حكومة الولاية في بنائه في موضع آخر يكون في منطقة نافي مومباي أو بن بانفيل.