لا نختلف مع استاذنا الدكتور محمد جابر الأنصاري انظر "الحياة" الخميس 7 /9 /2000 في التقرير بأن الاسلام دين ودولة ولكن تبقى هناك مساحة من التشاؤم في إمكان تحقيق مثل هذا الانجاز يسمح بها كل من يستقرئ تاريخنا العربي والاسلامي وذلك منبعه أيضاً كما يقرر الاستاذ الأنصاري عدم تحقق ذلك منذ توقف نزول الوحي حتى يومنا هذا حيث الاختراقات المتكررة بين الجانبين السياسي والديني مستمرة عبر أودية تاريخنا منذ وفاة رسولنا العظيم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. فالخلاف منذ السقيفة سياسي الطابع وهو ما يقرره استاذنا كذلك. ولا شك في أن أثره كان سيئاً على العقائد أيضاً حيث شاع التكفير والاتهام بالزندقة والمروق على الدين الى غير ذلك. ولا نستطيع أن نقول ان أولئك النفر الأوائل على غير دراية بالتمييز بين ما هو ديني وما هو سياسي لقربهم من فترة الوحي والنبوة ومعايشة الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام. وعلى رغم ذلك كان الصراع دموياً ومأسوياً الى أبعد الحدود مما يؤكد طابعه - أي "الخلاف" - البشري. ويقدم لنا الأستاذ الأنصاري مثالاً معاصراً للتصادم الديني مع السياسي عندما يحجم الولي الفقيه في ايران سلطة مجلس الشورى المنتخب باعتبار عدم أحقيته في التشريع. ولكن لا يقدم لنا أمثلة حول الفرق بين التمييز والفصل. فنحن نميز بين اللون الأبيض والأسود ونميز بين الخبيث والطيب فلا يمكن أن يتداخل الخبيث مع الطيب أو اللون الأبيض مع اللون الأسود وتبقى الأمور على حالها. ولا أدري أين يقع من ينادي بفهم معاصر أو مستجد للإسلام بحكم أنه دين خاتم وشامل قرباً أو بعداً من هذا التمييز الذي يدعو اليه استاذنا، وأتساءل اذا كان استاذنا يسمح باستعمال كلمة الفصل بين ما هو ديني وما هو اجتماعي حيث علق بالإسلام الكثير من العوالق الاجتماعية والعادات والطقوس خلال جريانه عبر نهر الحياة المتدفق أم نكتفي بالتمييز بين الجانبين فقط اذا كان هناك فرق واضح بين كلمة تمييز وكلمة فصل. ثم إذا سلمنا بأن الاسلام أقام دولة في بداية عصر النبوة فإن دولنا العربية والاسلامية المعاصرة قامت سياسياً وباعتراف مؤسسات سياسية دولية، وإن كانت مجتمعاتها اسلامية الطابع إلا أنها لا يمكن أن تحيد عن قوانين هذه المنظمات والمؤسسات الدولية لكي تبقى ضمن إطار المجتمع العالمي. وإذا ما تحدثنا عما يجتاح العالم اليوم من اقتصاد للسوق سندخل ضمن دائرة المجتمع الكوني الذي لا يعرف حدوداً سياسية ولا دولاً وإنما تكتلات وأقاليم اقتصادية عملاقة. وفي عالمنا العربي والاسلامي اليوم الكثير من القوانين والتشريعات القائمة والتي أفرزها العقل البشري لتنظيم حياته لا دخل للاسلام فيها بشكل مباشر كقانون المرور وقانون الطيران وغيرهما وإن كان عليها أن تراعي أخلاقيات المجتمع ودينه. لذلك يصبح من الضرورة بمكان تحديد مجال الصراع بين ما هو ديني وما هو سياسي في عالمنا الاسلامي. وأعتقد ومن منظور تاريخي انه يمكن الاشارة وباطمئنان نسبي الى مجال "السلطة"، وهو ما أقره استاذنا الأنصاري، كما أقر أيضاً أنه صراع سياسي منذ عهد السقيفة. فاصطلاح التمييز الذي أشار اليه يمكن أن نستخدمه هنا لتمييز هذا الصراع في ذلك المجال بأنه صراع سياسي وطالما اتفقنا على ذلك فلا حاجة لنا إذاً الى التوقف طويلاً أمام ذلك التراث المثقل اذا كانت النيات سليمة وترنو الى التقدم واللحاق بالعصر. كما ان البدائل متاحة وميسرة لدينا كبشر ذوي عقول، سواء اقتبسنا من هنا أو من هناك فنحن نستورد تفاهات الشرق والغرب. وقد استطاعت الجارة المسلمة ايران ان تقيم انتخابات شهد لها العالم بالنزاهة. وان ظلت رقابة الولي الفقيه فوق كل شيء إلا أن الصراع لم يحسم بعد وفي اعتقادي ان الاصلاحيين ولا أدري أين أضعهم: في خانة من استطاعوا التمييز بين ما هو ديني وما هو سياسي أو في خانة أولئك الذين يحملون فهماً معاصراً لدين الله وهو تيار تموج به ساحتنا العربية والاسلامية، أقول ان الاصلاحيين في طريقهم للدفع بالجمهورية الايرانية نحو مزيد من التطور في الاتجاه الصحيح إذا لم تحدث انتكاسات لأن هذه التجربة تنضج يوماً بعد آخر على ما يبدو. ما أود التركيز عليه هو أن اقامة مجتمع مسلم أمر ضروري وحاسم ويمنع تضارب الديني بالسياسي حيث لا يمكن لأي مجلس منتخب في أي مجتمع مسلم أن يشرع ضد ثوابت الاسلام. وإن حدث ذلك فالأمر لم يستتب بعد للاسلام في ذلك المجتمع. أما الدولة فهي إطار عام وإناء بما فيه ينضح. وإشكاليتنا ليست بين ما هو ديني وسياسي فقط، وإنما هناك الديني - السياسي الطائفي والسياسي الجمهوري والسياسي القبلي والكل لديه أدواته، الأمر الذي يؤكد بشرية هذا المجال وإمكان إعمال العقل البشري فيه. أما اقامة المجتمع المسلم فهي مسؤولية جماعية وليست فرض كفاية. لقد آن الأوان لكي نخرج الى الدنيا بمظهر مختلف يليق بتاريخنا وبديننا الذي مزقناه حتى أصبح من ينتمي اليه صغيراً ووضيعاً أمام الدنيا والحضارات الأخرى.