ليس "الوحش تضخم عُد الى وطنك"، والمقصود إرحل عنا، إلا عنواناً طريفاً لكتيب للأطفال يدور حول موضوع اقتصادي جاد والأطرف أنه صاد $ِ البنك المركزي التركي وليس أي دار عادية للنشر. والهدف ليس فقط تثقيف طلاب المدارس الابتدائية بشأن الآفة المزمنة وإنما المساهمة في محاربتها مستقبلاً على حد قول حاكم البنك المركزي في مقدمته للكتيب. للوهلة الأولى يبدو الموضوع غريباً في محاولته الاقتراب من الأطفال وتنويرهم بقضية تهم عالم الكبار عادة ولكن إذا عُرف السبب بطل العجب. فلو كان التضخم الاقتصادي إنساناً لأصبح، بعد إقامته الطويلة في البلاد، مواطناً تركياً ومنذ زمن بعيد. فمنذ ثلاثة عقود وتركيا تعيش مع تضخم مرتفع جداً يضعها مع كل من البرازيل والمكسيك والأرجنتين في مقدم دول العالم في هذا المجال وبلغ التضخم على سبيل المثال نسبة 6،84 في المئة في عام 1998 و66 في المئة عام 1999 بالمقارنة مع نسبة 4،2 في المئة في الاتحاد الأوروبي. الوصول للأطفال جزء من جهد الحكومة التركية لإقناع المجتمع بجدوى خطتها لمحاربة التضخم وإمكان تحقيق ذلك ويجيء بعد حملة في الصحف والمساجد، فالمشكلة حادة وتبدو شبه مستعصية ما أدى برئيس الوزراء، بولند اجاويد، الى التصريح: "لا يمكن للحكومة وحدها محاربة التضخم". بدأت الحكومة منذ بداية العام الحالي تنفيذ برنامج للاستقرار الاقتصادي بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي وشروطه، هدفه الرئيسي محاربة التضخم وتخفيضه خلال ثلاث سنوات الى 25 في المئة هذا العام و12 في المئة عام 2001 و7 في المئة عام 2002. وفي منتصف العام أشارت الإحصاءات الرسمية الى انخفاض التضخم بنسبة 7 في المئة وازدياد الدخل الحكومي ما انعكس تفاؤلاً داخل أوساط الحكومة واستحق إشادة صندوق النقد الدولي وتأكيده أنها على بداية الطريق الصحيح. بالمقابل لم تشعر فئات اجتماعية واسعة بأي فارق ولم تتحسس إلا ضغط البرنامج على مداخيلها عدا عن عدم هبوط الأسعار بالنسبة للمستهلك. وجاءت إحصاءات شهر تموز يوليو الماضي مؤكدة ارتفاع الأسعار بنسبة 2،56 في المئة. عندها ارتفعت الأصوات المشككة بجدوى البرنامج والمطالبة بتعديله إلا أن الحكومة أجابت لا تعديل ولا بد من مرور وقت كاف لتظهر النتائج الإيجابية. وبعد مرور شهر أكدت الإحصاءات ثانية ارتفاع الأسعار وأبدى صندوق النقد الدولي رأيه بضرورة تعديل طفيف على البرنامج بقصد الحد من الطلب الداخلي على البضائع الذي دفع لرفع الأسعار. وفي استطلاع أخير للرأي جاء ترتيب التضخم في المرتبة الأولى، وقبل أي مسألة أخرى في جدول هموم المواطنين ومشكلات البلاد. فلدى معظم أوساط المجتمع التركي قناعة راسخة بأن التضخم استوطن ومد جذوره في البلاد وأن المواطن سيدفع الثمن لوحده وعلى حساب مستوى معيشته وحياة أطفاله مقابل حلم بعيد المنال. ويقول وزير المالية، سومر أورال، بهذا الصدد: "على مواطنينا التخلص من فكرة التضخم المقبولة كقدر حتى الآن". ويصور الكتيب التضخم كتنين صغير تجب مساعدته على العودة الى وطنه الحقيقي ولذا يطلب من الأطفال الإدخار وعدم شراء الحاجات الكمالية واستعمال الليرة التركية وليس العملات الأجنبية. توصيات صحيحة وضرورية إلا أن واقع الأمور وسياسات الكبار على النقيض تماماً. يشكل التضخم المرتفع في تركيا تنيناً كبيراً جداً سيلتهم بشراهة فائقة القدرة الشرائية للمواطنين ويدهور أوضاعهم المعيشية ويشعر بوطأته الصغار والكبار وبشكل مستمر من العامل والموظف الى البقال والفلاح ومن رغيف الخبز وحتى الدواء، ويتحول الى سباق محموم بين الأسعار والأجور والخاسر فيه دائماً الموظف والمزارع والعامل فمهما ارتفعت الرواتب لا يمكن أن تجاري نسبة التضخم. وبسبب الانحدار المستمر لسعر صرف الليرة التركية أمام العملات الأجنبية تُسعر بعض البضائع بالدولار أو المارك ومن المشاهد العادية في المدن محلات الصرافة حيث يصطف المواطنون لاستبدال ما يتوافر لديهم من ليرات بأي عملة أجنبية وخصوصاً الدولار للحفاظ على قيمتها ولفترة أطول من الزمن. ويُعتبر القلائل ممن يعملون مع شركات أجنبية، ودخلهم بالدولار أو الفرنك الفرنسي، محظوظين فالخسارة السنوية لا تتجاوز 10 في المئة من القدرة الشرائية للأجور. يطالب العمال والموظفون، الآن، بزيادة سنوية للرواتب تقرب من 65 في المئة بينما تصر الحكومة وأرباب العمل على حد أعلى 30 في المئة. وتشكو النقابات من تدخل الحكومة وضغوطها لفرض حجم ارتفاع الرواتب بما يتلاءم مع نتائج خطتها لمحاربة التضخم وليس على أساس الواقع الفعلي. منذ منتصف هذا العام تصاعدت وتيرة الإضرابات والتظاهرات المنددة ببرنامج الحكومة التقشفي وبصندوق النقد الدولي ونزل الى الشوارع الأطباء والعمال والممرضات والمزارعين وأضرب عمال البلدية في كل من أزمير واسطنبول. ورداً على ارتفاع الأسعار أثناء الصيف اتهمت الحكومة قسماً من التجار ورجال الأعمال بكونهم وراء ذلك ورد هؤلاء على لسان جمعية الصناعيين ورجال الأعمال توسياد باتهام القطاع العام. وفي بدايات الشهر الجاري تكررت الاتهامات بين الحكومة ورجال الأعمال حول المسبب الحقيقي لارتفاع الأسعار. وقال رئيس الغرفة الصناعية لمدينة اسطنبول: زيادة الإنفاق الحكومي هو السبب. العجز في موازنة الدولة هو العامل الرئيسي وراء التضخم. ولزمن طويل كان عنوان السياسة الرسمية النمو مع التضخم. الإنفاق الحكومي يتجاوز الدخل الفعلي مما يدفع للاقتراض محلياً وعالمياً، ويبلغ حجم الدين الداخلي اكثر من 100 بليون دولار أما الدين الخارجي فيتجاوز 60 بليوناً. ويشبه كاتب تركي القطاع العام بوحش في حاجة دائماً لمزيد من الأموال ويتغذى بالاقتراض والتضخم. تفاقمت الأمور الى حد ما عاد ممكناً الاستمرار على النهج ذاته ووصفت جريدة "الفايننشال تايمز" الحال قائلة: "كانت تركيا تقترب من حافة الهاوية وليس أمامها إلا دواء صندوق النقد الدولي". من جانب آخر وعدا عن الأضرار الاجتماعية والاقتصادية فديون الدولة وارتفاع نسبة الفائدة مضافاً إليها التقلبات السياسية تحد من حجم الاستثمارات الخارجية وإمكان الحصول على قروض من البنوك العالمية وذلك على رغم فتح الأسواق التركية وضمان تحويل الأرباح كاملاً للخارج. وتقدر دراسة أميركية حجم الاستثمارات الأجنبية التي يمكن للاقتصاد التركي جذبها سنوياً ب25 بليون دولار لو توافرت البيئة المناسبة، بينما لم تتجاوز تلك الاستثمارات العام الماضي مبلغ 700 مليون دولار. لم يخرج الحل أو الدواء عن وصفة صندوق النقد الدولي المعروفة لمعظم الدول النامية والمتمثل بإعادة الهيكلة والتخصيص وتحديد الإنفاق الحكومي والدين العام إضافة الى التحكم المسبق بسعر صرف الليرة التركية وبنسبة شهرية محددة وتحرير أسعار السلع الزراعية. توصف الحكومة التركية الحالية بكونها مع اقتصاد السوق فلقد تخلت عن سياسة تدخل الدولة بالاقتصاد. ومضت ببرنامج التخصيص وسنت قوانين جديدة لتنظيم أوضاع البنوك وأقرت تشريعات لتشجيع الاستثمار الخارجي وطمأنته على حقوقه بإمكان اللجوء الى التحكم الدولي في حال حصول خلافات. على مستوى المناطق هناك فجوة عميقة بين غرب البلاد المتقدم حيث يبلغ متوسط دخل الفرد ما يقرب 700 دولار سنوياً وبين المناطق الجنوبية الشرقية، بغالبيتها الكردية، التي لا يتجاوز دخل الفرد فيها 900 دولار سنوياً عدا عن أن نسبة التضخم اعلى من المناطق الغنية. سيؤدي تنفيذ برنامج الاستقرار الاقتصادي الى توسيع الفجوة المذكورة وسينعكس على الفئات الأكثر فقراً ويزيد من التوترات الاجتماعية، وكما يقول بعض الخبراء. ويبدو ذلك في مؤشرات تصاعد النقمة الشعبية ضد الحكومة وصندوق النقد الدولي، وحتى بين رجال الأعمال والتجار. ولا يتردد رئيس غرفة تجارة اسطنبول عن وصف البرنامج بالخيالي وبأنه ينفذ بإشراف مندوب الصندوق لتركيا، كارلو بوتيلي، "الذي لا يعرف شيئاً عن تركيا" ويضيف أن بيروقراطيي الحكومة يزودون التضخم بالوقود اللازم. تطالب الحكومة بمساعدة القطاعات الاجتماعية لتنفيذ برنامجها للتخلص من براثن التضخم وتعد بمحاربة الفقر والبطالة، ولا يثق المواطنون بذلك. وفي حين تسألهم الادخار والتوفير فالمطلوب منها تحديد انفاقها أولاً وقبل أي شيء آخر. يقول كتيب الأطفال لا يمكن التخلص من التضخم فوراً لكن "عليك التصرف على اساس أن الأسعار لن تزداد بالسرعة نفسها كما في الماضي"، و"المهم ان تكسب دخلاً اعلى من مستوى التضخم". نصائح بديهية ويبقى سؤال الآباء والأطفال: كيف يمكن إنجاز ذلك؟ هل ستنجح الحكومة بإقناع المواطن التركي بأهمية ما تفعله؟ المسؤولون متفائلون بظهور النتائج الإيجابية في العام المقبل. وإذا لم يقتنع الأطفال بالمنطق والسياسة الرسمية فالكتيب يُعدهم للمستقبل فلعلهم يقضون على سرطان مخيف فشل الكبار في معالجته حتى الآن. * كاتب فلسطيني مقيم في أنقرة.