Jacques Lagache. La Societe Civile. المجتمع المدني. La Tour, Paris. 2000. 184 Pages. المجتمع المدني واحد من أكثر مفاهيم الحداثة السياسية حداثة. كما انه من اكثرها التباساً. ولعل هذا الالتباس بالذات هو ما يجعل منه مفهوماً مفتوحاً وقابلاً للتحميل بدلالات متباينة، بل متناقضة. ومن هنا فإن أي محاولة لتعريف المجتمع المدني لا بد ان تبدأ بالتأريخ للظهور اللغوي للمفهوم. فكلمة "المجتمع" نفسها لم تظهر في اللغات الأوروبية، بالاشتقاق من اللغة اللاتينية، الا ابتداء من القرن الثالث عشر. وكان لا بد من انتظار القرن السابع عشر حتى تتراكب معها صفة "المدني". ويبدو ان أول من صاغ المفهوم باللغة الانكليزية هو توماس هوبز 1588 - 1679 الذي قال في فاتحة كتابه "في المواطن" ان موضوع القسم الثالث والأخير منه سيكون "المجتمع المدني وواجبات الاعضاء الذين يؤلفونه". وفي فرنسا كان أول من أذاع المفهوم بوسويه 1627 - 1704 الذي عرف في كتابه "السياسة منتزعةً من كلام الكتاب المقدس"، المجتمع المدني بأنه "المجتمع المؤلف من أفراد متحدين في ظل حكومة واحدة وشرائع واحدة". وقد ظهر المفهوم، من لحظة صياغته في منتصف القرن السابع عشر، متقارناً - ومتمايزاً في آن معاً - مع مفهومين آخرين: "الدولة" و"الحالة الطبيعية". فالمجتمع المدني هو، بعكس المجتمع الطبيعي، مجتمع "اصطناعي" يشكله الأفراد بإرادتهم لكي ينعتقوا من "حالة الطبيعة" التي تسودها شريعة الغاب حيث "كل انسان ذئب للانسان" وحيث "الجميع في حالة حرب مع الجميع". والمجتمع المدني هو ايضاً مجتمع سياسي لأنه يحيل الى دولة بعينها تضمن لأفراده الأمن والسلام. فهو اذن مجتمع مواطنين بالمقابلة مع مجتمع المؤمنين الذي تشكله الكنيسة. وقد أضاف توماس لوك 1632 - 1704، فيلسوف الحداثة السياسية بلا منازع، بعداً جديداً الى مفهوم المجتمع المدني هو البعد الاقتصادي. فالغاية الأولى للمجتمع المدني ليست فقط تأمين الأمن، بل كذلك حماية الملكية الخاصة. فالمواطن هو مواطن بما يملكه. ومن هذا المنظور يمكن اعتبار لوك رائداً أول للتصور "البورجوازي" للمجتمع المدني. ولكن لوك لم يكتف بهذا البعد الاقتصادي للمفهوم، بل اضاف اليه ايضاً بعداً قانونياً. فعنده ان المجتمع المدني ليس، كما عند هوبز، محض نفي للمجتمع الطبيعي. ذلك ان للأفراد، بحكم تحدرهم من حالة الطبيعة، حقوقاً اساسية لا يجوز المساس بها. فالمواطن هو مواطن بفطرته التي فطر عليها. والدولة ما وجدت لتصادر حقوق الافراد الطبيعية، بل لتنظم لهم ممارستها بصورة عقلانية وحضارية. ومن هذا المنظور يمكن ان يعد لوك أبا الليبرالية ايضاً. فعلى العكس من هوبز الذي مال الى الدمج بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، جنح لوك الى التمييز بينهما. فالدولة مؤسسة سياسية، أما المجتمع المدني فهيئة اقتصادية في المقام الأول. وما دامت غائية الدولة - ومبرر وجودها معاً - محصورة بالحفاظ على أمن الأفراد وسلامة ممتلكاتهم وضمان حرية نشاطهم الاقتصادي، فإن سلطتها لا ينبغي ان تكون مطلقة. ولئن يكن هوبز قد صرف كل اهتمامه الى تبرير سلطة الدولة لأنها ضمانة ارتقاء البشر من حالتهم الطبيعية الغابية الى المجتمع المدني المتحضر، فإن لوك قد جعل همه على العكس الحد من سلطة الدولة. فالمجتمع المدني هو مبرر وجود الدولة، وليست هي مبرر وجوده. فهي تالية له وليست سابقة عليه. وليس لسلطتها ان تكون مطلقة، وإلا تحولت من وسيلة بين المجتمع الى غاية مفارقة له ومتعالية عليه. وانما مثل هذا الاستقلال الغائي للوسيلة بنفسها هو مصدر الاستبداد السياسي الذي ليس أقل شراً من شر الفوضى الطبيعية التي ما وجدت الدولة إلا لتضع حداً لها. وممن ألح على الوظيفة الاقتصادية والانتاجية للمجتمع المدني كاتب انكليزي منسي اليوم، ولكنه مشهور في حينه، هو برنارد منديل، الذي دافع في "حكاية النحل" المنشورة عام 1714، عن اطروحة جريئة مؤداها ان الرذائل الخاصة تولد خيراً عاماً. ففي نظره ان نشدان كل فرد لمصلحته الخاصة، من شأنه ان يتأدى الى سعادة الجميع. فقبل منديل كان العديد من المفكرين، ومنهم روسو بوجه خاص، قد نحوا الى ان يعطوا للمجتمع المدني مدلولاً مثالياً بوصفه مجتمع الأفراد الاخيار والمواطنين الصالحين الذين يقدمون المصلحة العامة على مصالحهم الخاصة الانانية. ولكن منديل، المادي النزعة، جعل على العكس من المجتمع المدني محل المصالح والحاجات الواقعية، وبالتالي الانتاج والتجارة وتداول البضائع والتسابق على الربح والمزاحمة. هذه الطبيعة الاقتصادية والتجارية للمجتمع المدني هي التي سيتولى التنظير لها آدم سميث عام 1776 في كتابه الشهير: "أبحاث في طبيعة غنى الامم وأسبابه". ونلاحظ في هذا العنوان بالذات بروز مفهومين: الأمة بدل الدولة، والغنى بدل السياسة. وعوضاً عن تصور ارادوي للمجتمع المدني فإن آدم سميث، اذ يجعل منه مجتمعاً للمبادلات التجارية، يعزو اليه آلية عفوية تتناغم بموجبها المصالح الخاصة للأفراد لتتراكب في مصلحة عامة من دون ارادة متعمدة من قبل أحد. وعلى هذا النحو، يكون المجتمع المدني حاملاً في ذاته لمبدأ نظامه: فالعمليات الانتاجية في الورشات والمعامل والمبادلات التجارية تتمخض من تلقاء نفسها، وبصورة تدرجية، عن "حكومة نظامية" تضمن للأفراد حريتهم وأمنهم ومصالحهم من دون تدخل الدولة وقوانينها. وهذا معناه ان المجتمع المدني، من حيث هو مجتمع صناعة وانتاج وتجارة، يكفي نفسه بنفسه بحيث لا يعود من دور للدولة الا في المجال الخارجي لتأمين أمن الحدود، فضلاً عن القيام بالمشاريع الكبرى والاشغال العامة التي تعجز عنها المبادرة الخاصة. وهكذا يكون آدم سميث هو أول من دشن القطيعة بين الدولة والمجتمع المدني الذي سيدخل مذّاك فصاعداً في صور سن الرشد دونما حاجة الى حضانة الدولة. هذا الإحضار للمجتمع المدني من جانب المدرسة الانكليزية قابله من الجانب الفرنسي، لا سيما في عهد ثورة 1789، احضار للدولة، ولكن بطبعتها الجمهورية. فروسبيير وسان جوست وغيرهما من قادة الثورة الفرنسية ومفكريها رأوا في المجتمع واقعة طبيعية "عمياء" ولم يعترفوا الا للجمهورية بصفة "المؤسسة" المجسّدة للإرادة العامة "الواعية". فالجمهورية هي المجتمع الحقيقي للمواطنين، وهؤلاء لا يرتقون الى مرتبة المواطن الا بقدر ما يتجردون عن مصالحهم الخاصة، لا بقدر ما يتجذرون فيها على نحو ما افترضته المدرسة الانكليزية الاختبارية. ولكن هذا التغييب للمجتمع المدني بناسه الواقعيين على حساب احضار المجتمع السياسي بمواطنيه المجردين والمثاليين لم يدم طويلاً في تاريخ الفكر الغربي. أولاً بسبب الارهاب البشع الذي تمخضت عنه السيرورة الثورية: فعندما "يتجرد" الانسان ويكف عن ان يكون كائناً من لحم ودم يسهل إرساله الى المقصلة. وثانياً لأن مدرسة جديدة للفكر الفلسفي السياسي فرضت هيبتها على الساحة الأوروبية هي المدرسة الالمانية العملاقة المتمثلة بقطبيها: كانط وهيغل. فكانط من جهة أولى رد الاعتبار الى دينامية المجتمع المدني، مؤكداً على انه ليس فقط محل الفاعلية الاقتصادية، بل كذلك محل الفاعلية القانونية. فالمجتمع المدني هو بالتعريف، وتماماً كما يقتضي المدلول الاشتقاقي، مجتمع "متمدن". والحال ان المجتمع لا يتمدن الا بالقانون، والمدنية لا تعني شيئاً آخر سوى غلبة القانون وأولويته على القوة الغابية، والمجتمع المدني متى ما انتظم في قوانينه المدنية، الخاصة والعامة، استغنى عن التدخل العسفي للدولة. فهو، وليس الدولة، المجال الأول لتظاهر الاستعدادات الطبيعية لدى البشر. وهيغل، من الجهة الثانية، هو الذي نبه الى مدلول اشتقاقي آخر لمفهوم المجتمع المدني، فما دامت هذه الصفة مشتقة من "المدينة" لا من "المدنية" فالمجتمع المدني هو بالتعريف الاشتقاقي مجتمع "بورجوازي". ذلك ان البورجوازي هو بالتعريف الاشتقاقي ايضاً "ساكن المدينة" اي "البورج" باللغة الالمانية كما الفرنسية والانكليزية. فالبورجوازية اذن عند هيغل ليست مقولة طبقية، بل هي صفة دائرة الانتاج وتقسيم العمل في المدينة. ففي الريف يكون الانسان ولا يزال تابعاً للأسرة. ولكنه في المدينة فحسب ينعتق من إسار الأسرة، ويغدو "بورجوازياً"، أي قادراً على تأمين شروط وجوده بنفسه بعمله المستقل. وعليه فإن الانتقال من الأسرة الى المجتمع المدني هو العلامة الفارقة للأزمنة الحديثة. ولكن في الوقت الذي يحرص هيغل فيه على تمييز البورجوازي عن الانسان العائلي الذي هو الفلاح، فإنه يحرص ايضاً على تمييزه عن المواطن. فالبورجوازي لا يلاحق شيئاً آخر غير مصلحته الخاصة. اما المواطن فهو ذاك الذي يهتدي بهادي المصلحة العامة. ومن هنا فإن المجتمع المدني ليس غاية التطور التاريخي. بل هو مرحلة اقتصادية - قانونية تمهد لظهور الدولة. فالدولة هي الشكل الأعلى لتحقق ما كان هيغل يسميه ب"الفكرة" أو "المثال". ولكن الدولة، اذ تتجاوز المجتمع المدني، لا تلغيه. فكما ان البورجوازي يبقى عضواً في اسرة، كذلك فإن المواطن يبقى بورجوازياً. فالجدل الهيغلي يقوم على الاحتواء والتجاوز معاً، ولكن ليس على الإلغاء. ولهذا فإن الدولة الهيغلية ليست دول توتاليتارية لأنها ليست محض دولة مواطنين مجردين. فالمواطن، الذي يستقطب الشأن العام اهتمامه كله، يباطنه بالضرورة بورجوازي متجه باهتمامه نحو المجال الخاص. وصحيح ان التضارب بين المصالح الخاصة يجعل من الدولة، التي هي مجال تظاهر المصلحة العامة، مرحلة تاريخية أعلى من المجتمع المدني، ولكنها لا توجد من دونه، كما لا يوجد هو من دونها. فالدولة هي، في خاتمة المطاف "حقيقة" المجتمع المدني وليست نفيه. ومهما قيل عن عبادة هيغل للدولة، فإن النظرية الهيغلية ما كانت تتضمن بذرة النازية، ولا البلشفية، كما تراءى لبعض المفسرين. فهاتان التجربتان التوتاليتاريتان الكبيرتان للنصف الأول من القرن العشرين، مثلتا قطيعة - لا استمرارية - لا مع الهيغلية فحسب، بل مع كل نظرية المجتمع المدني كما تتابعت حلقاتها منذ مطلع القرن السابع الى مطلع القرن العشرين. فهاتان التجربتان جسدتا، على الصعيد التاريخي، ابتلاعاً حقيقياً للمجتمع المدني من قبل الدولة الاخطبوطية. ولا يتسع المجال هنا للدخول في أية تفاصيل تاريخية. ولكن حسبنا التوقف عند المفارقة التالية: فالإغراق العملي لمفهوم المجتمع المدني في ظل التوتاليتاريتين النازية والبلشفية قد استتبع، من قبل الفكر الفلسفي السياسي الناقد لهما، تعويماً نظرياً مضاداً للمفهوم عينه. ففي الوقت الذي "تأبلست" فيه فكرة الدولة من جراء الفظائع التي اقترفت في العهدين الهتلري والستاليني، فقد "تأمثلت" فكرة المجتمع المدني. فكل التجدد الذي شهده الفكر الليبرالي في النصف الثاني من القرن العشرين قام على اعتبار المجتمع المدني ترياقاً لسم الدولة التوتاليتارية. ولئن تكن هذه النيوليبرالية، المعادية للنزعة الدولانية، قد بقيت محصورة بدول الغرب الديموقراطية، فإن التجارب الدكتاتورية التي عمت العالم الثالث بأسره في الحقبة الاستقلالية قد أدت هنا ايضاً، على سبيل رد الفعل، الى تطور نزعة شعبوية تعارض "رجس" الدولة ب"طهر" المجتمع المدني. وفي الحالتين - الليبرالية المشتطة والشعبوية المشتطة - كف المجتمع المدني عن ان يكون مفهوماً ليصير اسطورة: فهو الدواء الشافي لكل أدواء سرطان الدولة. وسذاجة هذا التصور لا تكمن فقط في ثنائيته المانوية العضال، ولا في كونه يتجاهل أن المجتمع المدني حامل بذاته لأدوائه، بل كذلك في قطعه علاقة الوجود بالوجود التي تربط ما بين المجتمع المدني والدولة. فصحيح ان المجتمع المدني هو شيء آخر غير الدولة، ولكنه لا يمكن ان يوجد من دون الدولة. فما بينهما علاقة تتام وتكامل، لا علاقة تضاد وتنافٍ.