مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    أمير الشرقية يفتتح أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية في مركز "إثراء"    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    تهديدات قانونية تلاحق نتنياهو.. ومحاكمة في قضية الرشوة    لبنان: اشتداد قصف الجنوب.. وتسارع العملية البرية في الخيام    مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    الاتحاد يخطف صدارة «روشن»    دربي حائل يسرق الأضواء.. والفيصلي يقابل الصفا    انتفاضة جديدة في النصر    ارتفاع الصادرات السعودية غير البترولية 22.8 %    برعاية ولي العهد.. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    «التراث» تفتتح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    جامعة الملك عبدالعزيز تحقق المركز ال32 عالميًا    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «العقاري»: إيداع 1.19 مليار ريال لمستفيدي «سكني» في نوفمبر    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    «الأرصاد» ل«عكاظ»: أمطار غزيرة إلى متوسطة على مناطق عدة    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    السجل العقاري: بدء تسجيل 227,778 قطعة في الشرقية    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    تحت رعاية سمو ولي العهد .. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي.. تسخير التحول الرقمي والنمو المستدام بتوسيع فرص الاستثمار    محافظ جدة يطلع على خطط خدمة الاستثمار التعديني    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    نهاية الطفرة الصينية !    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاستشراق ومسألة المجتمع المدني في الإسلام . الاختلاف على تحديد الهوية ... وسلطة الاستشراق 1 من 2
نشر في الحياة يوم 05 - 11 - 2000

في السنوات الاخيرة، اصبحت العلوم الاجتماعية وبشكل متزايد اكثر حساسية تجاه بناء القوة السياسية، إضافة الى القضايا الفنية والفلسفية، التي تؤثر وبشكل عميق في تشكيل محتوى البحث العلمي الاجتماعي واتجاهه. فباختصار يعد وجود علاقات استعمارية استغلالية بين المجتمعات امراً في غاية الاهمية للتطور النظري في الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع. لقد كان للسياسات الامبريالية بالذات دور حاسم في تشكيل الصور الغربية عن الاسلام وفي تحليل "المجتمعات الشرقية" راجع دانيال 1960، سوذرن 1962.
يوجد في المنظور الليبرالي التقليدي افتراض مؤداه ليس فقط ان السلطة والمعرفة لا يلتقيان، وإنما افتراض أيضاً ان المعرفة الصادقة تتطلب كبت السلطة. وفي إطار التاريخ الليبرالي للافكار، يرتبط بروز العلم وظهوره من خلال ثنايا الايديولوجيا ومعتقدات الحس السليم، بنمو الحرية الفردية وانحدار القهر السياسي العشوائي. ان فكرة تعارض العقل والسلطة هذه تمّ تحديها حديثاً على يد ميشال فوكو الذي يرى ان نمو الضبط البيروقراطي على الشعوب بعد القرن الثامن عشر يتطلب اشكالاً معرفيةً اكثر انتظاماً، في علم الجريمة والعقاب والطب النفسي والطب عموماً. وهكذا فإن ممارسة السلطة في المجتمع تفترض صيغاً جديدة في الخطاب العلمي الذي عن طريقه تعرف وتضبط المجموعات المنحرفة والهامشية. وفي مقابل التقليد الليبرالي، نجبر على الاعتراف عبر تحليل للتقليد العقلاني الغربي، ان "السلطة والمعرفة تستدعي إحداهما الاخرى مباشرة، وانه لا توجد علاقة سلطة من دون التشكل الارتباطي لحقل معرفي، وكذلك لا توجد اي معرفة لا تفترض وتشكل في الوقت نفسه علاقات سلطة" فوكو 1977: 27.
وهكذا فإن نمو الخطاب العلمي لا يؤسس لفترة حريات فردية، وإنما يشكل بدلاً من ذلك، الأساس لأنساق شمولية لسلطة مؤسسة عن طريق تحالف السجن وعلم الجريمة، وتحالف المصحات العقلية وعلم الطب النفسي، وتحالف بين المستشفى وعلم الطب العيادي، وتحالف بين المدرسة وعلم التربية التعليم، فالخطاب يبدع فرقاً عن طريق التصنيف والجدولة والمقارنة، ويميز الأفراد لأسباب بيروقراطية. فتصنيفات "مجرم" و"مجنون" و"منحرف" هي تمظهرات خطاب علمي يمارس فيه العادي والعاقل قوة على أساس تقسيم منظم للتماثل والاختلاف. ومن ثم فإن ممارسة القوة على تابعين، لا يمكن أن ترد ببساطة الى مجرد سؤال عن مواقف أو دوافع من طرف الأفراد، ذلك أن القوة متجذرة في كل لغة، وفي كل المؤسسات التي عن طريقها نصف ونفهم ونسيطر بها على العالم. ولا يمكن القيام بمقارنات صحيحة بين المنحرفين والعاديين، ولا بمقارنات بين العقلاء والمجانين، ولا بين الأصحاء والمرضى، بمجرد إصلاح المواقف والدوافع، ذلك ان هذه الفروقات نفسها تفترض سلفاً وجود خطاب تكون فيه مفاهيم الاختلاف هي تعابير عن علاقات قوة.
ويقدم تحليل علاقة المعرفة/ السلطة أو القوة في أعمال فوكو الأساس لدراسة إدوارد سعيد المؤثرة عن الاستشراق 1978، إذ يدرسه بوصفه خطاب فروق يظهر فيه أن التقابل الذي يبدو كما لو كان محايداً غرب/ شرق إنما هو في الحقيقة تعبير عن علاقات قوة. فالاستشراق خطاب يقدم الشرق الغريب والجنسي والغرائبي كظاهرة قابلة للفهم والإدراك، ضمن شبكة من التصنيفات والجداول والمفاهيم، يتم عبرها وبشكل آني تعريفه والسيطرة عليه. وإذا ما عرف، أمكن جعله تابعاً. لذلك كان الخطاب الاستشراقي إطاراً رائعاً ودائماً في التحليل، سواءٌ أكان ذلك في علم اللاهوت أم الأدب أم الفلسفة أم علم الاجتماع، وهو خطاب لم يشكل فقط علاقة امبريالية، وإنما شكل أيضاً حقلاً أو مجالاً للقوة السياسية. لقد أبدع الاستشراق تصنيفاً للخصائص تم تنظيمها حول المقابلة بين الغربي العقلاني النشِط والشرقي الجامد الكسول. وكانت مهمة الاستشراق هي رد تعقيدات الشرق الواسع الى مجموعة معرفة من الأنواع والخصائص والدساتير. لذلك كانت المقاطع المختارة من نصوص شرقية، التي تقدم شرقاً غرائبياً في جدول منظم من معلومات يمكن التوصل إليها، نتاجاً ثقافياً نموذجياً لسيطرة الغربي.
ونجد في تحليل سعيد الاستشراق أن "الحقيقة" الحاسمة في الخطاب الاستشراقي هي أننا نعرف ونتحدث عن المستشرقين، بينما هم لا يفهمون أنفسهم ولا يتكلمون عنا. وفي لغة التمايزات هذه، لا يظهر أنه يوجد خطاب للاستغراب. فالمجتمع الذي تصدر عنه المقارنات، يملك مكاناً متميزاً لمجموعة من السمات الأساسية: العقلانية والتطور والمؤسسات الديموقراطية والتنمية الاقتصادية - وهي سمات تعاني عدم توافرها أو حتى تخلفها في مجتمعات أخرى. وتفسر هذه السمات الخصائص المميزة للمجتمع الغربي، وتشرح أوجه الخلل في التشكيلات الاجتماعية الأخرى. والاستشراق بوصفه نسق تفسير جردياً يتقدم لشرح السمات التطورية للغرب والركود الاجتماعي للشرق تيرنر، 1974. فأحد الأسئلة المشكلة لعلم الاجتماع الكلاسيكي - لماذا ظهرت الرأسمالية الصناعية أول ما ظهرت في الغرب؟ - هو بالتالي سمة أساسية لنسق فكري جردي يعتمد على مقابلة أساسية هي شرق/ غرب. وفي سياق هذه المقابلة العريضة للغربي/ شرقي" تم دائماً تقديم الإسلام بوصفه مشكلة سياسية وثقافية لأنساق الجرد والتصنيف الغربية.
فعلى خلاف الهندوسية أو الكونفوشية، للإسلام روابط دينية أساسية باليهودية والمسيحية، ومن ثم فإن تصنيف الإسلام "كدين شرقي" يثير مشكلات رئيسية للخطاب الاستشراقي. بينما تثير قصة الفرادة الرسولية مشكلة عويصة، إلا أن هناك مقولات قوية ترى أن الإسلام يمكن، اضافة الى اليهودية والمسيحية، أن يعتبر وجهاً من أوجه العقيدة الإبراهيمية العامة هودجسون 1974. إضافة الى ذلك، فإن الإسلام كان قوة ثقافية رئيسية داخل أوروبا، وقدم ثقافة سائدة لعدد من مجتمعات البحر المتوسط. وفي حين أن الإسلام ليس شرقياً بشكل غامض فان المسيحية ليست بأي شكل بسيط ديناً غربياً. فالمسيحية كعقيدة سامية وإبراهيمية في أصلها يمكن اعتبارها "ديناً شرقياً"، والإسلام بوصفه بعداً أساسياً لثقافة إسبانيا وصقلية وشرق أوروبا يمكن اعتباره غربياً.
إن مشكلة تعريف الإسلام تمتلك دائماً نوعاً من الإلحاح في الخطاب الاستشراقي، لذلك فإنه في الدوائر المسيحية كان من الضروري تصنيف الإسلام إما بوصفه طفيلياً على الثقافة المسيحية أو بوصفه فرقةً خارجة على العقيدة المسيحية. والنقطة الجوهرية في تحليل فوكو للخطاب، هي الاقتراح أن القواعد التي تتحكم في توزيع الأحكام داخل خطاب ما قد تكون منتشرة في حقول علمية تبدو ظاهرياً كما لو كانت منفصلة تماماً فوكو 1972. فالإشكالية الاستشراقية ليست خاصة باللاهوت المسيحي، وإنما هي خطاب يحمل في طياته الاقتصاد والسياسية والاجتماع. وإذا كانت القضية الرئيسية خلف اللاهوت المسيحي هي فرادة الوحي المسيحي بالنسبة الى الإسلام، فإن السؤال المحوري خلف علم الاجتماع المقارن هو فرادة الغرب في علاقته بالجمود المزعوم للشرق.
اقترحت في كتابات سابقة أن علم الاجتماع حاول أن يسرد أو يقدم جرداً للغياب الظاهري للرأسمالية في المجتمعات الإسلامية، من خلال التنظير للإسلام على أساس أنه سلسلة من الفجوات الاجتماعية والتاريخية تيرنر 1978. ويرى علم الاجتماع الغربي وبشكل متميز، أن المجتمعات الإسلامية افتقدت وجود مؤسسات مستقلة لمجتمع برجوازي أهلي أدى في النهاية الى تحطيم تسلط الإقطاع على الغرب. وبحسب هذا الرأي، افتقد المجتمع المسلم وجود مدن مستقلة ووجود طبقة بورجوازية مستقلة وبيروقراطية رشيدة أو عقلانية واستقلالية قانونية وملكية خاصة ومجموعة الحقوق التي جسدت الثقافة والحقوق البرجوازية. ومن دون هذه المؤسسات والعناصر الثقافية لم يكن لدى الحضارة الإسلامية شيء يمكنها به أن تتحدى يد الموت لتقاليد ما قبل الرأسمالية. ويمكن تحديد وجهة النظر الاستشراقية عن المجتمع الآسيوي، في فكرة أن البناء الاجتماعي للعالم الشرقي تميز بغياب وجود مجتمع مدني، أي بغياب وجود شبكة من المؤسسات التي تتوسط بين الفرد والدولة. ولقد كان هذا الغياب الاجتماعي هو الذي أبدع أو هيأ الظروف للاستبداد الشرقي، الذي كان الفرد في ظله يجد نفسه وبشكل دائم معرضاً لحكم المستبد الطغياني أو الاعتباطي. ويشرح غياب وجود المجتمع المدني في الوقت نفسه، فشل التطور الاقتصادي الرأسمالي خارج أوروبا وكذلك غياب الديموقراطية السياسية.
مفهوم المجتمع المدني
توجد في الفلسفة السياسية الغربية مجموعة من التصنفيات الرئيسة، يمكن تتبعها الى أرسطو، للتفريق بين الحكومة على أساس ما إذا كانت ملكية أو ديموقراطية أو استبدادية. وعلى رغم أنه من الممكن أن ندرس هذه التصنيفات عددياً، أي من حيث حكومة الواحد أو القلة أو الكثرة إلا أن العنصر المحوري لمشكلة الحكومة يبقى في العلاقة بين الدولة والفرد. فمثلاً فكرة "الاستبداد" تشمل في العادة تشبيهاً مكانياً للنظام الاجتماعي الذي توجد فيه فجوة مؤسسية بين الفرد الخاص والجمهور/ الدولة. ففي ظل الاستبداد يكون الفرد معرضاً كلياً لنظر الحاكم المستبد لأنه لا توجد مؤسسة اجتماعية في الوسط، وبالذات الروابط الطوعية أو الاختيارية التي تقوم بين الحاكم والمحكوم. وبذلك يكون الفرد مكشوفاً كلياً أمام عواطف وأحقاد ورغبات المستبد ولا توجد أي مجموعات اجتماعية أو مؤسسات يمكن للمحكوم أن يختبئ خلفها. والمسافة بين المستبد والرعية قد تكون كبيرة، لكن المسافة الاجتماعية لا تُملأ تماماً بنمو غني من المجموعات الاجتماعية والمؤسسات التي يمكن أن تحيط بالفرد، ويمكن أن تتطور في داخلها مصالح منفصلة أو مختلفة الى معارضة ضد رغبة المستبد الموحدة.
وعلى شكل تعريف أولى، يمكننا أن نقول إن الاستبداد يفترض مسبقاً مجتمعاً يكون فيه المجتمع المدني غائباً أو غير متطور بعد. فتعريف المجتمع هو عبارة عن شبكة خصبة من المؤسسات - كالكنيسة والأسرة والنادي والنقابة الحرفية والرابطة والمجتمع المحلي - التي تقوم بين الدولة والفرد وتربط في الوقت ذاته الفرد بالسلطة وتحمي الفرد من السيطرة السياسية الكلية. إن فكرة المجتمع المدني ليست فقط أساسية لتعريف الحياة السياسية في المجتمعات الأوروبية، ولكنها أيضاً نقطة التقابل أو التضاد بين المجتمع الشرقي والمجتمع الغربي.
ففي التقليد الأنواري الاسكتلندي، كان ظهور المجتمع المدني مؤشراً رئيسياً للتطور الاجتماعي من حال الطبيعة الى حال الحضارة. وكانت نظرية المجتمع جزءاً من ثنائية رئيسه حول الطبيعة/ الحضارة، طالما انه داخل المجتمع المدني جزءاً من ثنائية رئيسة حول الطبيعة / الحضارة. وكانت نظرية المجتمع المدني كان الفرد يكتسب حقوقاً قانونية للملكية والممتلكات والأمن. ويتوسط المجتمع المدني في فلسفة هيغل الاجتماعية بين الأسرة والدولة، وهو يتشكل من خلال التبادل الاقتصادي بين الأفراد. والمفهوم الهيغلي "للمجتمع المدني" القائم على أساس علاقات اقتصادية كان هو مصدر معظم الارتباك بعد ذلك في التحليل الماركسي، إذ أصبح من الصعب تحديد موضع المجتمع المدني بشكل غير غامض في تشبيه أو استعارة القاعدة الاقتصادية والبنى الفوقية.
فبالنسبة لماركس: "يتضمن المجتمع المدني التبادلات المادية كافة بين الأفراد ضمن مرحلة معينة من تطور القوى المنتجة. وهو يشمل جوانب الحياة التجارية والصناعية كافة في مرحلة ما، طالما أنه يتسامى على الدولة والأمة، على أنه في المقابل أيضاً، يجب أن يؤكد نفسه في إطار العلاقات الخارجية بوصفها قومية، وداخلياً يجب أن ينظم نفسه كدولة". ماركس وانجلز 1953: 76. وحيث إن "ماركس مهتم بشكل أساسي بالتحليل النظري لأسلوب الإنتاج الرأسمالي، لذلك كان من الصعب على الماركسيين أن يقرروا العلاقة المحددة أو الدقيقة بين المجتمع المدني/ الدولة من ناحية وأن يحللوا مفاهيم اجتماعية كالأسرة أو الكنيسة أو المجتمع المحلي أو القبيلة من ناحية أخرى. وأحد الحلول، بطبيعة الحال، هو أن نعامل هذه المساحة من الحياة الاجتماعية على أساس أنها قابلة للشرح في ضوء مفاهيم اقتصادية بحتة. إن التقسيمات الرئيسية داخل المجتمع هي تلك التي بين الطبقات، وتفسر بالتالي بأسلوب الإنتاج". بولنتزاس 1973.
وتظهر الصعوبات في تحديد موقع المجتمع المدني بالنسبة الى الاقتصاد والدولة من خلال بعض الجدل الحديث حول تحليل أنطونيو غرامشي للمفهوم اندرسون 1974. ففي فقرة مشهورة، علق غرامشي موضحاً أن "المجتمع المدني يقف بين البناء الاقتصادي والدولة بقوانينها وجبروتها" غرامشي 1971. وفي كتابات غرامشي، المجتمع المدني هو المجال الذي ضمنه تتم هندسة الهيمنة الإيديولوجية والقبول السياسي، وعليه فإنه المجتمع المدني يقابل الدولة التي هي مجال القوة والإكراه السياسي.
إن مثل هذا المفهوم يعقد بشكل إضافي الثنائية الماركسية المتعارف عليها: القاعدة/ البنية الفوقية، لكن هناك اختلاف كبير حول مغزى تأكيدات غرامشي النظرية ومراميها الدقيقة اندرسون 1977. وبينما يوجد اختلاف كبير على مدى هيمنة القبول في الرأسمالية الحديثة، من المفيد أن نلاحظ أن مفهوم غرامشي، حول المجتمع المدني، كان لافتاً لوجهة نظره القائلة إن الاستراتيجيات السياسية كانت مهمة لمدى الإكراه والقبول في المجتمع. فلقد حدّد غرامشي تفريقاً سياسياً بين الغرب الذي به إجماع واسع اعتمد على المجتمع المدني، وبين الشرق حيث تسيطر الدولة على المجتمع وحيث الإكراه أو الإرغام أكثر أهمية من الإجماع. يقول غرامشي مثلاً عن روسيا:
"كانت الدولة فيها كل شيء، وكان المجتمع المحلي عتيقاً وهلامياً. أما في الغرب، فقد قامت علاقة ملائمة بين الدولة والمجتمع المدني، وحينما تهتز الدولة فإن بنية المجتمع المدني القوية تظهر في الحال. لقد كانت الدولة في الغرب مجرد خندق خارجي، يقف خلفه نسق قوي من القلاع والمتاريس" غرامشي 1971: 238. وحيثما يكون المجتمع المدني أقل تطوراً نسبياً بالنسبة الى الدولة، يكون الإكراه السياسي للأفراد هو أساس حكم الطبقة بدلاً من التوافق الإيديولوجي المميز للمؤسسات في الرأسمالية الغربية.
والنظرية السياسية الليبرالية، في حين أنها تختلف بشكل واضح وأساسي في تصورها وفي نتائجها، إلا أنها درست ثنائيات الشرق/ الغرب، والإكراه/ القبول مستخدمة تقريباً المصطلحات نفسها، وبالذات مصطلحات اعتمدت على فكرة المراقبة والتوازنات الدستورية. فيميز مونتيسكيو في كتابه "روح القوانين" مونتيسكيو 1949، الذي كتبه عام 1748، بين الجمهوريات والملكيات والاستبداديات على أساس المبادئ الموجهة التي هي بالترتيب: الفضيلة والشرف والخوف مونتيسكيو 1949. فالاختلافات الأساسية بين الملكية والاستبداد هي أنه: 1 بينما تعتمد الملكية على اللامساواة بين الطبقات الاجتماعية، فإنه في الاستبداد توجد مساواة في الخضوع، إذ يخضع جمهور السكان لرغبات الحاكم الاعتباطية، 2 وفي الملكية، يتبع الحاكم التقاليد والقوانين، بينما يسيطر المستبد بحسب نزعاته الفردية، 3 وفي الاستبداد، لا توجد مؤسسات اجتماعية بينية تربط الأفراد بالدولة.
اهتم مونتيسكيو في كتاب سابق بعنوان "ملاحظات حول أسباب عظمة الرومان وتدهورهم" بشكل خاص بمشكلات مركزية الامبراطورية الرومانية، واهتم كذلك بتحول الجمهورية الى ملكيات مونتيسكيو 1965. وأرى مونتسكيو وهو من تأثر بشكل عميق بآراء لوك وبالتاريخ الدستوري الإنكليزي، أن توازن القوى والمراقبة الدستورية على السلطة المركزية ضمان رئيسي للحقوق السياسية. وسمحت له "رسائله الفارسية" مونتيسكيو 1923 أن يكتب مراجعة نقدية للمجتمع الفرنسي من خلال عيون مراقب شرقي، وبالتالي لم يعد واضحاً ما إذا كانت تعريضات مونتيسكيو واعتراضاته على استبداد الشرق، موجهةً في الحقيقة ضد السياسة الفرنسية وضد الملكية المطلقة بالذات، أم لا التوسير 1972.
وكان إميل دوركايم - الذي كانت أطروحته باللاتينية عن مونتيسكيو وروسو ونشرت عام 1892 - يرى أن مشكلة الحياة السياسية الحديثة ليست في تأثيرات تقسيم العمل على المشاعر العامة، وإنما في غياب مؤسسات منظمة بين الفرد والدولة. فلقد أدى تدهور الكنيسة وضعف الأسرة وافتقاد أو ضياع الروابط الاجتماعية وعدم تطور الروابط المهنية والاحترافية الى ذوبان تلك العلاقات الاجتماعية المهمة التي حمت الفرد من الدولة. وعلى غير غرار هربرت سبنسر، لم يكن دوركايم، مع ذلك، يؤمن بأن توسع وظائف الدولة في المجتمع المعاصر أدى بالضرورة الى الطغيان السياسي.
عرّف دوركايم في كتابه "قانونان لتطور العقاب" الشمولية بالشكل الآتي:
"إن ما يجعل القوة المركزية قوة مطلقة بشكل أكبر أو أقل أو بشكل أكثر راديكالية أو أقل راديكاية إنما هو غياب أي قوى موازية، تنظم بشكل منتظم وعلى أساس أنها تعمل على تلطيفها. وعليه بإمكاننا التنبؤ أن ما يولد قوة من هذا النوع إنما هو التركز الكامل لدرجة ما لوظائف المجتمع الضبطية كافة بطريقة أو أخرى" دوركايم 1978.
وبينما لا يستخدم دوركايم المصطلح بشكل محدد، في ضوء إشارته للقوى الموازية المهمة، إلا أنه ليس من غير الشرعي ولا المناسب الاقتراح أن مقولة دوركايم تقول إن ضعف المجتمع المدني، القائم بين الفرد والدولة، هو الشرط العام للتوتاليتارية السياسية.
* عميد كلية الآداب وأستاذ علم الاجتماع في جامع ديكن، استراليا. وترجم المقال لمجلة "الاجتهاد" أبو بكر أحمد باقادر أستاذ علم الاجتماع في جامع الملك عبدالعزيز، جدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.