رسم الدكتور سليم الحص، رئيس الحكومة اللبنانية، في كلمته الى المشتركين في الاجتماع التمهيدي لمؤتمر الدول والمؤسسات المانحة لاعادة اعمار المناطق اللبنانية المحررة والمتاخمة لها ولإنماء لبنان، صورة الآثار التي خلفها الاحتلال والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي اللبنانية. قال الحص إنه بسبب الاحتلال "شلت الحياة عملياً في الأراضي المحتلة وشاع الدمار والخراب" وتم "تهجير معظم السكان في ظروف كئيبة وهدمت منازل لا تحصى"، و"فقدت عائلات كثيرة مورد رزقها". العدوان الإسرائيلي لم يؤثر في مناطق الاحتلال فحسب بل أثر "بداهة" في لبنان كله وألحق اضراراً فادحة باقتصاده عموماً. وتقدر المصادر الحكومية ان انماء الجنوب وبناء اقتصاد لبناني جديد يكلفان 3،6 بليون دولار، فمن أين له أن يأتي بالمبالغ الضرورية للقيام بهذه الأعباء؟ وكيف له أن يحصل عليها؟ هذه الأسئلة كانت مطروحة في الاجتماع التمهيدي الذي انعقد في بيروت، نهاية تموز يوليو الفائت. واستندت الدعوة الى مثل هذا الاجتماع الى تقدير ضمني مفاده ان لبنان ليس قادراً وحده على تحمل مثل هذه المبالغ والأعباء، وإذا كان عليه أن يتحمل جزءاً من هذه المسؤولية فإنه حري بالآخرين أيضاً أن يتحملوا قسماً منها. ولكن من هم هؤلاء وما هي مسؤوليتهم في هذا المجال؟ أشارت كلمات رسمية وجهت الى الاجتماع التمهيدي الى مسؤولية اسرائيل في ايصال جنوبلبنان الى أوضاعه الحالية البائسة. وانتقد الرئيس الحص في كلمته المجتمع الدولي وحمّله مسؤولية على هذا الصعيد لأنه لم يبذل جهوداً كافية لإلزام اسرائيل تنفيذ قرار مجلس الأمن الرقم 425 الداعي إلى الانسحاب الإسرائيلي غير المشروط من الأراضي اللبنانية لأن هذا التأخير "جعل لبنان بكامله يتحمل نتائج الاحتلال الوخيمة...". العدالة الدولية تقضي بأن يتحمّل المعتدي ثمن عدوانه، وأن يتحمل المقصر مسؤولية تقصيره، لا أن يتحمل المعتدى عليه والضحية تبعة العدوان والتقصير. وهكذا فإنه في أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية أجبرت المانيا على دفع تعويضات كبيرة الى كل الذين تضرروا من جراء المشاريع التوسعية الألمانية. وفي كلمات المسؤولين اللبنانيين اشارات الى هذه القاعدة السليمة في العلاقات الدولية والى ضرورة تطبيقها على اسرائيل، كما جاء في كلمة الرئيس الحص، عندما طالب بإلزام اسرائيل دفع تعويضات الى اللبنانيين بسبب ما عانوه من أضرار فادحة. بيد أن في هذه الإشارات في الموقف الرسمي اللبناني ما يتطلب تصويباً من ناحيتين: الناحية الأولى هي تلك المتعلقة بتحميل المجتمع الدولي بعض المسؤولية عما تعرض له لبنان واللبنانيون من أضرار على يد اسرائيل. والملاحظ هنا أن كلمة المجتمع الدولي هي تعبير فضفاض يشمل الدول من دون تمييز أو استثناء. وغياب الدقة هنا يكون على حساب الانصاف. فنحن هنا لا نستطيع أن نساوي بين تلك الدول التي كانت تدعم اسرائيل مادياً وعسكرياً وسياسياً عندما كانت تعتدي على لبنان، ودول أخرى كانت تقف الى جانب لبنان واللبنانيين وتحاول مساعدتهم على احتواء آثار العدوان. والتمييز هنا ليس شأناً أكاديمياً إذ له علاقة بقضية اعمار الجنوب وانهاض لبنان. فدول الغرب التي ساعدت اسرائيل على احتلال الجنوب وتدميره تتحمل مسؤولية معنوية أكبر بكثير من دول عدم الانحياز التي لم تساعدها على هذا الصعيد أو الدول العربية التي كانت تشد من أزر اللبنانيين وتعارض الاحتلال الإسرائيلي. تأسيساً على ذلك، من المفروض أن تقوم المجموعة الأولى من الدول بالدور الأكبر في مساعدة لبنان على تجاوز آثار الاحتلال والعدوان. نتائج الاجتماع التمهيدي تدل إلى المساهمة الدولية في اعادة اعمار الجنوب تسير في طريق آخر مخالف لروح العدالة الدولية. فعندما تقدمت الحكومة اللبنانية بطلب لتمويل بعض المشاريع العاجلة لم يتجاوب مع هذا الطلب إلا بعض الدول والمؤسسات العربية والإسلامية مثل دولتي الكويت وقطر والبنك الإسلامي للتنمية والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي. أما دول الغرب التي ساهمت في وقوع الاحتلال الإسرائيلي للبنان واستمراره، فإنها لم تبد حتى الآن استعداداً ملموساً لتمويل المشاريع التي عرضتها الحكومة اللبنانية. وإذا كان من الخطأ استعجال النتائج، ومن الأفضل الانتظار حتى موعد انعقاد المؤتمر في تشرين الأول أكتوبر المقبل، فإن الإشارات الأولى التي صدرت عن الاجتماع التمهيدي والتي أسفرت عنها اتصالات الحكومة اللبنانية مع "الحكومات المانحة" تدل إلى أن معظم المساعدات سيأتي من الدول العربية ومن دول لم تكن لها يد في سياسة اسرائيل التوسعية تجاه العرب مثل اليابان. أما الدول التي لعبت الدور الأكبر على هذا الصعيد، مثل الولاياتالمتحدة، فليس من مؤشر، حتى الآن، إلى استعدادها للمساهمة الجادة في تمويل مشاريع اعادة اعمار الجنوب. الناحية الثانية التي تتطلب تطويراً في الموقف اللبناني هي تلك المتعلقة بمسؤولية اسرائيل في أوضاع لبنان الحالية وفي طلب التعويضات منها. فعلى الصعيد الرسمي أشار الحص، كما قلنا أعلاه، الى أن اللبنانيين يعتبرون أن من حقهم أن يطالبوا اسرائيل بدفع التعويضات. إلا أن الإشارة العابرة والمبتسرة شيء، ومطالبة اسرائيل رسمياً بدفع التعويضات الى اللبنانيين شيء آخر. فمجال مطالبة اسرائيل بدفع التعويض هو أساساً في هيئة الأممالمتحدة في نيويورك ومن بعدها في مؤتمر الدول المانحة في بيروت. وقبل اللجوء الى هيئة الأممالمتحدة من أجل مطالبة اسرائيل بدفع التعويضات، من الضروري وضع دراسات احصائية بالأضرار المباشرة وغير المباشرة التي تسبب فيها الإسرائيليون عبر احتلالهم أراضي لبنان وشن الاعتداءات عليه. ووضع هذه الدراسات يقتضي تنظيم حملة واسعة بقصد تشجيع الأهلين الذين تعرضوا للأضرار على الادلاء بما يملكونه من معلومات على هذا الصعيد الى الدوائر اللبنانية المعنية. تفيد المصادر الحكومية اللبنانية أن الدوائر الرسمية المعنية تعكف على اعداد الملفات الضرورية للبدء بمطالبة اسرائيل بدفع التعويضات الى لبنان. وتضيف تلك المصادر ان الدراسات الأولى التي أجرتها تدل إلى أن كلفة الأضرار التي ألحقها العدوان الإسرائيلي على لبنان طوال العقود الثلاثة الماضية تصل الى ما لا يقل عن ثلاثين بليون دولار. إلا أنه حتى الآن لا توجد معلومات رسمية عن هذه المسألة. والكلمات العابرة التي جاءت في كلمة رئيس الحكومة اللبنانية الى الاجتماع التمهيدي لمؤتمر الدول المانحة لا تكفي لإعطاء انطباع أن لبنان بصدد اثارة هذا الموضوع رسمياً في الأوساط الدولية المعنية. كما أن الإشارات العابرة التي جاءت على لسان عدد قليل من النواب إلى مسألة التعويضات في جلسة مجلس النواب اللبناني يوم الخامس والعشرين من شهر تموز يوليو الفائت لا تدل إلى أن هذه المسألة مطروحة جدياً سواء في الدوائر الحكومية أو النيابية. الإمساك الحكومي والنيابي عن تحويل الحق في مطالبة اسرائيل بالتعويضات الى حملة منظمة على هذا الصعيد يقابله اهمال من قبل الهيئات الأهلية اللبنانية في اثارة هذه المسألة. ان بعض هذه الهيئات يعمل في جنوبلبنان، وقسم منها يعتبر نفسه معنياً خصوصاً بقضايا هذه المنطقة من لبنان وأنه ساهم مساهمة ملموسة في تحرير الأراضي اللبنانية من الاحتلال. هذا الفريق من الهيئات يتحمل مسؤولية كبرى في تحريك حملة مطالبة اسرائيل بالتعويضات. ولعل الطريق الأسلم لمباشرة لهذه الحملة يبدأ بالتحضير لمؤتمر المتضررين من الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان يسبق انعقاد مؤتمر الدول المانحة لاعادة اعمار الجنوب. ان لبنان الرسمي ليس قادراً، بسبب الأوضاع العربية والدولية الحالية، على اجبار الإسرائيليين على التعويض على الجرائم التي ارتكبوها بحق اللبنانيين. إلا أنه يمكن الديبلوماسية الشعبية أن تبقي قضية التعويضات حية في الأذهان لبنانياً وعربياً ودولياً الى أن يأتي الوقت المناسب لتسجيل مكاسب على هذا الصعيد. التحرك الأهلي هنا لا يعفي المؤسسات الرسمية من متابعة قضية التعويضاتولكنه يشكل حافزاً لمثل هذه المتابعة وعاملاً في تجددها. وإذا كان هناك من لا ينظر بعين الجد الى دور الديبلوماسية الشعبية والمنظمات الأهلية في وصول لبنان الى حقوقه الوطنية، فعليه أن يذكر ان لبنان الشعبي لا الرسمي هو الذي اضطلع بالدور الأكبر في تحرير الأراضي اللبنانية من الاحتلال، وان لبنان الشعبي لا يزال على رغم الصعوبات والضغوط ينبض بالحيوية والحياة. * كاتب وباحث لبناني.