قال تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السمع البصير" الإسراء: 1. في هذه الآية الكريمة يشير الله سبحانه الى اسراء رسوله محمد ص خاتم الانبياء والمرسلين من المسجد الحرام الكعبة المكرمة الى المسجد الأقصى بيت المقدس في طريقه الى العروج للسماء، كما يحدثنا كتاب الله العظيم، الذي لا يأتيه الباطل ولا يتسرب الى واقعه الشك. وحديثنا هنا يعتمد بالدرجة الأولى المنهج الغيبي الروائي وليس المنهج المعرفي المادي لأن حديثنا لا يتعلق بتناول الآثار في مدينة القدس، والمجتمع المقدسي وتطوراته، والمدونات التاريخية... انما يدور على قدسية المدينة في الديانات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والاسلامية. وفي هذا الصدد لا بد من التعاطي مع النصوص والروايات التي اعتمدها اصحاب الديانات الثلاث، وآمنوا بها، فكانت هي العامل المولد لقدسية المدينة عندهم. وقد يختلط التاريخ في الحدث الغيبي فيشكل في ذهن الانسان المتدين صورة يصعب فك رموزها المقدسة عن آفاقها التاريخية. وقدسية بيت المقدس عند المسلمين تنبع: أ- من أحداث تاريخية من قبيل اتخاذ هذه المدينة قبلة للمسلمين في مطلع الدعوة الاسلامية. ب- اضافة الى كونها موئلاً وموطناً لأنبياء وصالحين جاء الاسلام لتعزيز دعوتهم السماوية والرسالية. ج- كما ان قدسيتها ترتبط ببعد غيبي بحت يؤمن به من آمن برسالة النبي محمد ص، ووضع المسلم بهذا اللحاظ لا يختلف كثيراً من حيث المنهجية المعرفية عن وضع اليهودي أو النصراني، اذ ان الآخرين يرجعان قدسية المدينة الى مرويات ونصوص يعتقدان بها ولا يوجد دليل عليها حسب المنهجية المعرفية المذكورة أعلاه. ومن هنا فقدسية المدينة عند اليهود أو النصارى لا تستند على دليل أقوى من الدليل الذي يستند اليه المسلم عند قوله بقدسية المدينة، بحيث يترتب الأثر العملي عليها ان لم يزد عليها بحكم جدة الدين الاسلامي النسبية قياساً على قدم الديانتين السابقتين، مما يعني وقوع الحدث الاسلامي والمواقف المتفرعة عنه في دائرة البحث التاريخي العلمي اكثر من نظيره في الديانتين السابقتين. وفي ضوء ما تقدم نعود الى الآية الكريمة التي أشرنا اليها في بداية البحث، ومنطوقها يؤكد ان النبي محمد ص أُسري به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى، ثم عُرج به الى السماء، وتصديق هذا قائم على الايمان ب"المعجزة". إذاً، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا، لماذا لم يُعرج بالنبي من الكعبة المشرفة، علماً بأنها أول بيت لله سبحانه - وان آدم بناه وعفى أثره من بعده، وان الله أمر خليله ابراهيم برفع قواعد هذا البيت، وإعادة بنائه؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد لنا من: 1- بيان العلاقة بين الدين الاسلامي والديانات السماوية التي سبقته. 2- وكذلك علاقة النبي محمد ص بالانبياء الذين سبقوه. وحسب المنظور الاسلامي، فإن الاسلام هو خاتم الديانات، وهو الدين المكمل للأديان السابقة، فهو الدين الكامل الذي أراد الله ان يختم به الأديان كلها، نظراً إلى بقائه وديمومته الى آخر الزمان. وكذلك نبي الإسلام فرسوله محمد بن عبدالله ص هو سيد الانبياء والمرسلين، وقائدهم وسليلهم، وطبيعي ان يكون أكملهم منزلة، وأعظمهم مكانة، لأنه مكمل النبوات والرسل. وتأسيساً على ما تقدم فإن الله سبحانه أراد من إسراء النبي الخاتم للانبياء محمد عليه وعليهم صلوات الله، الى المسجد الأقصى ان يؤكد على الحقائق الآتية: أولاً- ان يصلي محمد ص في هذا المسجد الذي صلى فيه رسل الله: نوح وابراهيم وموسى وعيسى - وهم أصحاب الرسالات السماوية - من قبله، وهو تأكيد أن هذا المكان المقدس لعموم رسله الخمس، أصحاب الرسالات الخمس، ومحمد ص صاحب الرسالة الخامسة والأخيرة في حلقة الرسالات الأساسية في الدنيا، وليس لأحد منهم حق الاختصاص فيه دون غيره، ان لم يكن للوارث الأخير الحق والاختصاص. ثانياً - ان الرحلة من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى - رحلة مختارة من اللطيف الخبير - لتربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن نوح وابراهيم واسماعيل عليهم السلام الى محمد خاتم الرسل ص، وان اساس هذه الرسالات السماوية كلها كونها تدعو الى التوحيد. ثالثاً - اعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل الذين تحملوا المسؤولية الرسالية من قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات، وارتباط رسالته بها جميعاً. "ولهذا فإن رحلة رسول الله محمد ص الى المسجد الأقصى ترمز الى أبعد من حدود الزمان والمكان، وتشمل آماداً وآفاقاً أوسع من الزمان والمكان، وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى". إن المسجد الأقصى مسجد الانبياء الأقدمين، وبيت الرسل المذكورين في العهدين القديم والجديد، وهو أرض الله المقدسة، والمكان المكرم عند المسلمين - كما هو شأن غير المسلمين - لذلك شاء الله ان يجعل انطلاق رحلة نبي الاسلام المعجزة الى السماء منه. وبكلمة أخرى، إنها عملية ربط لمحطات المسيرة المقدسة التي تتألف من المسجد الحرام في مكة، الى المسجد الأقصى في القدس، ثم سدرة المنتهى في السموات العلى، واذا كان المطلوب من مسيرة الرسول الأعظم محمد ص التكامل، فلا بد من ان تمر بهذه المحطات الثلاث المقدسة. ومن خلال هذا التوجه فليس لاسرائيل اختصاص في القدس، والمطالبة بتهويدها عمل يرفضه الواقع الديني لكل الشرائع السماوية، ومحاولة الدولة العبرية السيطرة على بيت المقدس دون غيرها تخصيص من غير مخصص، ولا مبرر له بحال من الاحوال. فكما لليهود حائط المبكى، فكذلك للمسيحيين موضع ولادة عيسى، وللمسلمين منطلق محمد وعروجه الى السماء، فأي حق لليهود في الاختصاص به دون غيره من الديانات، ولا منافاة ان يكون اليهود قد سكنوا في تلك الديار في سابق ايامهم برهة من الزمن، فكما سكنت اليهود في زمان، فإن عرباً نصارى ومسلمين سكنوا ايضاً، كما سكنها عرب قبل سيدنا ابراهيم، وهم قبيلة "يبوس" وان صريح الكلام في التوراة كتاب التكوين يشير الى دور ملكي صادق في القدس، والاحترام المتبادل بين الديني التوحيدي، والمدني العمراني، وبين أبينا ابراهيم عليه السلام، كما تشير النصوص التاريخية الى ذلك. لقد دأبت السياسات الغربية في غرس دولة الصهاينة في أرض فلسطين العربية المسلمة لتنفيذ مآربها الاستعمارية الخبيثة، وجاء وعد "بلفور" بخلق دولة الصهاينة في قلب البلاد العربية ليكون وجودها الشاخص في المنطقة على امتداد الحقبة السوداء. أكثر من خمسين عاماً مرت على العرب والمسلمين وهم يعانون من هذه الدولة المسنودة من الغرب، حتى بلغ بها الحال ان تكون الحاكمة المتنفذة في المنطقة، وحتى بدأت تنتكب لمن اسسها، ووضع اللبنة الأولى لدولتها، لم يكن هذا نتيجة قوتها البشرية، ولا اهتمامها بمحاولة امتدادها الجغرافي في المنطقة جاءت نتيجة امكاناتها العسكرية، لا هذا ولا ذاك، انما هي عملية سطو دولية غربية شاركت فيها حكومات الغرب من أجل مصالحها الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط. وفي عام 1933 انعقد مؤتمر اسلامي في القدس للبحث في هذه الكارثة الخطيرة شارك فيه علماء وزعماء عرب ومسلمون، ومنهم المرحوم الامام المصلح الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء أحد علماء النجف الأشرف البارزين، وقدم إلى المؤتمرين اقتراحين: الأول - ان تكون المطالبة بفلسطينوالقدس بمشاركة عربية واسلامية، ولا تقتصر على جهة واحدة حتى لا تستفرد بها الدول الفارضة الدولة الصيهيونية على العرب، وهي مالكة ناصية غالبية حكامهم ومتنفذيهم. الثاني - ان يفتي علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم واجتهاداتهم بتجميد "الحج" الى مكة "موقتاً" وبتوجه المسلمين لأداء "الزيارة" الى بيت المقدس تعبيراً عن الاحتجاج والرفض، وسد الطريق على تحقيق الهدف الصهيوني واجتثاث مشروعه الخبيث. ورفض المؤتمر المقترحين، وأصر على ان الدفاع عن الوطن حق فلسطيني، وان القضية عربية بحتة. كما ان الفتوى بتجميد الحج والتوجه للزيارة الى القدس لم تحظ بالقبول. وتناسى المؤتمرون ان القدس أولى القبلتين، وصلى اليها المسلمون قبل الكعبة، وان دفع الخطر عن بيوت الله ومشاعره واجب شرعي على كل انسان يؤمن بشرائع الله المقدسة. واليوم لم يبق للعرب في الدفاع عن القدس الا بذل الغالي والنفيس في سبيل دفع أعداء الله عن الأرض المقدسة، وعلى المسلمين في كل أنحاء الدنيا ممارسة حقهم في الدفاع عن القدس، وهو يكفله الواجب الشرعي في الدفاع عن المسجد المقدس، مثوى الانبياء، ومهبط الرسل. وحذار حذار من التهاون في هذا الأمر، وغمط الحق، فأهله الشرعيون هم المسلمون، لأن نبينا خاتم الانبياء، ووارث الرسالات السماوية، وهو صاحب الحق الأصيل، والوارث السليل لهذا المكان المقدس، والبقعة الطاهرة. تكفي هذه السنوات السود المليئة بالعار والهزيمة والهوان، والالتواء أمام الغاصبين الحاقدين، وقد قيل: ما أخذ بالقوة لا يعاد إلا بالقوة. ولنا في أبطال الحجارة ما يصنع التاريخ الجديد، ويسجل بالشرف والفخر في ملحمة العز والكرامة. سدد الله خطى المجاهدين المقاتلين من أجل تحرير الوطن الفلسطيني، والقدس الشريف، والفاتحة لكل شهدائنا الأبرار. * كاتب وسياسي عراقي معارض