يُشبّه محمد برادة ذاكرته بصيف لن يتكرّر. وحين يعرض له أن تغدو هي ذاتها مادة استذكاره يجدها "أبعد ما تكون عن الأحادية لأنها متعددة الأوطان والفضاءات". وهو تعدّد يقف المرء - الكاتب - ازاءه عاجزاً عن متابعة منطقها في قفزاتها، "وينتهي به الأمر الى الاستسلام لنزواتها استجابة لرغبة الكتابة التي سرعان ما تستولي على المواد الخام وتعجنها وتحوّلها وتكاد تلغي ما عداها، ومع ذلك تحمل أصداء وترجيعات لا تخلو من رؤية شعرية لماضٍ لم يتلاشَ نبضه الحار". وما من معادلة - على الأرجح - في غمرة السرد: نزوة الذاكرة ورغبة الكتابة. و"النصوص" التي تضمّها "رواية" - على حد زعم الغلاف - "مثل صيف لن يتكرر"* أشبه بوثبات كاتب يعيش بين نارين "أوتوبيا التذكّر وأوتوبيا الرغبة. كلما تذكّر تسلّلت الرغبة لتلوّن ذاكرته، وكلّما استسلم للرغبة جعلها تمتح من ذاكرة طوبوية". فأمّا النواة التي تحاولانها - الذاكرة في استحضارها، والرغبة في كتابتها - فهي الأيام "التي تطفو مثل رغوة على صفحة النيل" والتي يُمكن أن تختصرها بكل دلالاتها وصبواتها ومخزونها الثقافي شهور صيف عام 1956 في مصر "المحروسة". وكان برادة - مقترباً من سنّ السابعة عشرة - فتى مغربيّاً مُترعة خواطره بصور المشاهد السينمائية المتدفقة من القاهرة، ومُختزنة بانطباعات جائشة من أثر مطالعات حرة لما طاولته اليد من مؤلّفات حسين والحكيم والمنفلوطي والسيد وغيرهم كثر، فبات مسكوناً بشوق جارف الى "هبة النيل"، متطلّعاً إلى أن يُكمل بها تعليمه بالعربية حيث ان السلطات الفرنسية في المغرب كانت آنذاك تضيّق على تعليم لغة الضاد بعد عتبة البكالوريا. هكذا يستعيد برّادة صورة الفتى الذي كانه متحدثاً عن "حمّاد" كأنّه ليبقيه في ذاكرته على ما كان عليه من دون عبور الزمن، وليقيم الدليل أيضاً على المدى النوستالجي الذي يمثّله والذي سيكون له الأثر البعيد في تكوين المثقف الكبير لاحقاً. حمّاد، حاملاً الحقيبة، خارجاً من محطة القطار في القاهرة ومتقدّماً في ميدان باب الحديد - مستذكراً فيلم يوسف شاهين بالعنوان نفسه - تحت شمس أغسطس منتصف النهار بلهيبها اللافح، والجاً عتبة مرحلة تكوينية في رحلة الثقافة والفكر ومتطلّعاً الى الآتي بعيون تسكنها الأحلام. كان ذاك عام 1955، وكانت مصر باتجاه الصعود الى ذروة الانتشاء القومي قبل شهور من ذلك الصيف العاصف الذي يُشبه الذاكرة، على عتبة مرحلة دراسة جامعية رسّخت في قلب برّادة وأفكاره "الهوى المصري" وهو الآن يحاول التقاطه "مسربلاً بالخيالات متداخلاً في الزمان والأمكنة... يراودني بقوّة ملحاً على أن يسكن الورق حتى لا يبهت داخل مسالك الذاكرة". يُستحضر حمّاد في غمار أيامه القاهرية الأولى، قاصداً نادي طلبة المغرب، فملتحقاً بمدرسة الحسينية لإعداد شهادة التوجيهية قبل ولوج الجامعة، ذريعة ليروي برادة لقاءه الحميم ببلاد "كانت تشكّل لي أفقاً لمتخيّل قوامه الحلم والافتتان بصورة مصر كما تلقيناها في الطفولة من خلال الأفلام والأغاني والروايات والاشعار"... ويتأجج الشغف حين يعايش نشوة تأميم قناة السويس، متطوعاً في صفوف المندفعين على إيقاع "والله زمان يا سلاحي"، ممارساً مهام الحراسة ومنفعلاً بلحظة وصال مع الحلم الكبير. كان المغرب قد نال استقلاله حديثاً، وحمّاد تخطّى المرحلة الثانوية بنجاح هاجساً بدراسة الأدب "ليصبح كاتباً يلملم المشاعر واللحظات والأفكار". وهي الأيام المصرية تتفاعل في روحه الى حد "الانفجار الكبير ليستشعر ان كيانه قد انفصل عن مداراته السابقة مرتاداً بداية ثانية لحياته.. موغلاً في فضاءات مغايرة وداخل متاهات اسئلة قلقة تلامس هموم الانتماء والكينونة ورغائب الجسد". يتيح لنا هذا الاستحضار نافذة نطلّ منها على أجواء الجامعة المصرية وما جاورها، عبر الملاحظات المقتضبة، لكن الدقيقة والمكثفة، التي يرويها برّادة انطباعات راسخة من مخزونه الثقافي الذي راكمه فكر متيقظ وعين ثاقبة وروح "هزها الطرب" وفق إيقاع بلدي جيّاش. وحمّاد استمع الى إملاء شوقي ضيف كما العادة عند كثير من اساتذة الجامعة، وتنبّه الى منحى آخر عند قلّة ينزعون الى التفسير كالقلماوي التي "كانت حافزاً على ارتياد مجال النقد بمعناه الدقيق" ويونس الذي "عرّفنا على أسئلة الابداع وعلائقه بالنفس والحواس" وعيّاد وحمودة... واستمع الى عبد الصبور شاعراً يلقي قصيدة مستوحاة من العدوان الثلاثي، كما الى حجازي والنقّاش. واستمتع بمحاضرات يوسف خليف "وهو ينفث الحياة في الشعر الجاهلي أو وهو يكشف جمالية الشعر العباسي"، وأحاديث طه حسين "بالقائه المموسق الأخّاذ، وعباراته الفصيحة المنتقاة...". وفيما جاور الجامعة توطدت علاقته بالسينما والاسماء الكبيرة المطلّة بوجوهها الساحرة من على الشاشة، وشهد السماع مذهولاً "بفرحة الجمهور وبطقوسية الاستماع والتذوّق والآهات الصادرة عن الحناجر" حين كانت السيدة أم كلثوم تؤدّي "أروح لمين". واكتشف مقهى التوفيقية المخصص لعشّاق صوتها حيث تتمايل الرؤوس وتُنفث الآهات وتدور السجائر محشّوة بما يضمن الكيف. وقصد العقّاد في مجلسه وكان "جالساً ببيجامته وطاقيته البيضاء متحدّثاً وهو يتنقل ببساطة من الأدب والتاريخ الى مسائل تتعلّق بالزراعة والطبّ والفيزياء محللاً ومستشهداً بعناوين انجليزية..." سنوات عزيزة "كان حمّاد فيها أشبه بالفراشة المنجذبة الى مصباح قوي يغشي العينين وهي تحوم وتندفع لاختراق دائرة الضوء وما يحيط بها...". وبرّادة في "مثل صيف لن يتكرر" لا يكتب السيرة الذاتية عامداً متعمداً، ولا هو بالحريّ يكتب رواية، ونصّه هنا لا هذه ولا تلك، إنما هو استسلام "بالمزاج" لنزوة الذاكرة نفسها، حيث ان السياق لا يأخذ المنحى الصارم وإنما يثب توثّباً في الزمان والمكان والأفكار. وكثيراً ما ينتقل برّادة الى رحلات لاحقة تفصل بينها السنوات البعيدة ليثير انطباعات كامنة ويستثير هوى دفيناً ويعقد المقارنة بين ما رسخ في القلب وما استجدّ في الفكر بعد أن تابع دراسته في السوربون وقد اختار تحليل كتابات محمد مندور النقدية موضوعاً لأطروحته، متسائلاً عن امكان اعادة النظر في صوغ اشكالية النقد العربي المعاصر على ضوء ما يطرأ في مجال نظرية النقد والأدب. وحتى في هذه فهو لا يستنفد موضوعه، مقتصراً على العرض العام المقتضب، مكتفياً بإشارات ثاقبة ينتقيها من جعبة "المثقف العضوي" والناقد الكبير الذي آل اليه من دون أن يترك عنان السرد لهذا الأخير وإنما يتمسّك بحمّاد الذي "خنقته العبارات وهو يستعيد نوستالجيا القاهرة في أيامها المجيدة المفقودة" على حد تعبير ادوار الخراط. وهي نوستالجيا تذهب بنا أيضاً الى مشاعر الانذهال أمام الإرث الفرعوني القديم بما يحتويه من صروح وأمكنة ونصوص وفنّ كأنه يقول لنا: "ما البشر سوى شخصيات في حلم من أحلام الله". فإلى عرض لأجواء المرحلة الحديثة عبر تناوله بالتحليل لروايات "الشحاذ" و"أفراح القبّة" و"اللص والكلاب" لنجيب محفوظ الذي "بقدر ما يمتح من المتخيّل الجماعي بقدر ما يجترح انفتاحات على متخيّل ذاكرته الفردية الراصدة للرومانيسك المتناسل بوفرة في حارات القاهرة والاسكندرية وعبر أحاديث الناس الحكّائين بالطبيعة". ثم يختار التعليق على نص "اللعبة" ليوسف ادريس و"سمادير" لجابر عصفور "لنجاحهما في تشخيص وضعية المثقف المصري والعربي ايضاً وعلاقته بالمؤسسات الشمولية وأواليات السلطة... وهي وضعية تشبه كثيراً محنة سيزيف، بل تفوقها لأن مثقفنا يدفع صخرة فوق أرضية منبسطة لا متناهية ولا يكاد يلمح قمة أو نقطة للوصول". وفي اندفاعة برّادة هذه صوب كنينه الحميم نراه يكشف اسرار لعبته الابداعية التي كانت في أساس كتابة روايته الأولى "لعبة النسيان". وتنعقد هذه الأسرار حول مفهوم أولاه برّادة خالص الاهتمام "مغموراً بتجارب القاهرة الخصبة في العقل والوجدان معاً" هو مفهوم "الرومانيسك". ويعرّفه برادة في مقابلة معه على هذا النحو: "إنه العناصر التي تؤلّف قصصاً وحكايات وعلاقات يمكن أن تنتج نصوصاً إبداعية". في كل حال يكاد يكون هذا ترجمة حرفية لمصطلح الرومانيسك بالفرنسية. وبرّادة الهاجس بالأدب أول من نبّه الى أدبية الأدب أولاً وأساساً عندنا وفق الخراط اكتشف الآفاق الواسعة التي تتيحها البيئة المصرية لالتقاط تلك العناصر، وكان في حال "افتتان بالمسرحية التلقائية للحياة ولقدرة الناس على الكلام والتعبير... الناس البسطاء الذين يملك كل منهم معجماً لغوياً كافياً للتعبير بدقة عن المشاعر والأفكار"... والفصل الذي يفرده برادة ل"أم فتحيّة" الشغّالة أشبه ما يكون بدرس تطبيقي للرومانيسك المصري. "فتلقائية أم فتحية في الأوج، وكلامها سكّر بلكنته الخفيفة المعهودة عند النوبيين المتمصرين..." ويتذكّرها برادة بعد عقود ليجدها في ذاكرته "تعلو حتى لتغدو وكأنّها جزء من جوهر الذات العميقة..." هو أثرٌ عميق أم فتحية نقطة من بحره دفع برّادة من خلاله الى استعادة العلاقة بالرومانيسك المغربي. وهو يقول في مثل اعتراف: "لم أسترجع "كلامي" إلا عبر وساطة كلام الرومانيسك المصري وذلك بعد سنوات حيث بدأت أتنبّه الى ذلك العالَم الآخر، الموازي، الذي ينسجه ذلك الكلام ويستوحيه القاصّون والروائيون ليشيِّدوا عوالم فتّانة جذابة. وبدأت أتساءل عما اذا كان الرومانيسك في المغرب أبكم... وبدأت الغشاوة تنجلي عن عينيّ...". اكتشف برادة بعدها بيئة طفولته في فاس ليجدها "بيئة كلام وطقوس وشعائر بامتياز"، ومن هذه الارهاصات تولّدت روايته "لعبة النسيان" "وهي رواية نتجت من الذاكرة التحتية العميقة لمدينة فاس المغربية البديعة، وتتبّعت تحوّلات أنماط الوجود والسلوك والعلاقات فيها على مدّ فترة عصيبة من فترات التحوُّل في التاريخ المغربي المعاصر" د. حافظ. يمكننا القول إذاً ان برادة مدين لذاكرته المصرية واستئناسه بها، وهو هنا يحاول تدوين علاماتها بعد أن تيقّن أنها "تنتمي، بكل المقاييس، الى مملكة العدم"، فكأنّه - بعيداً من سياق السيرة وبناء الرواية - يكتبها بالتلقائية المشحونة بالرومانيسك كما عهدها في "الحارة" الجامعية زمن العمر الغضّ في مصر. * آفاق الكتابة، القاهرة، 1999.