انها حكاية "مفتاح انتخابي" بيروتي رواها ل"الحياة" التي لم تتدخل الا في اعادة توليفها وضبط بعض عناصرها. وما تركها بصيغة المتكلم الا من باب المحافظة على سيل الكلام وانسيابه في اتجاهات مختلفة. وربما كان في تجاور عناصر غير منسجمة في حكاية "خبير الانتخابات" هذا، دلالة عميقة الى ان للانتخابات في لبنان مضامين اجتماعية وتقليدية تعيق تلك التعريفات التقنية المعطاة لها. يتعرض اصحاب الخبرات الانتخابية المفاتيح في هذه المواسم لما لا يحصى من الاسئلة والتهكمات والحسد من ابناء احيائهم واصدقائهم. فهم دائماً في نشاطهم واثناء تنقلهم بين الاحياء والاتصال بالناس يكونون عرضة لأسئلة عن مقدار استفادتهم وتهنئاتٍ متهكمة الله يرزقكم او "الله طعمك كول وطعمي" كل وأطعم. لكن هؤلاء المتهكمين لا يدركون حجم الشح والتقشف الذي يعيشه مرشحو هذه الايام، قياساً بدورة العام 1996. ربما كان السبب ان الحكومة حددت سقف المصاريف الانتخابية وان الاجهزة تراقب مدى التزام المرشحين هذا السقف. سمعنا زميلاً لي يشكو من انه لم يتمكن حتى الآن من الدفع لأي ناخب خوفاً من ان يكون مراقباً. طبعاً هذا ليس السبب الوحيد لانخفاض سقف الانفاق الانتخابي، فالمرشحون ايضاً شدوا احزمة الانفاق كثيراً هذه الايام، وعندما يعطيك احدهم 300 دولار يعتقد انه اعطاك ثروة، طلب مني احد هؤلاء شاباً ليساعده في احد الاحياء، فعرفته الى احدهم الصق له صورة في الحي، ونظم له لقاءات فيه. وبعد نحو ثلاثة اسابيع اشتكى الشاب امامي من ضيق ذات اليد، فأخذته الى مرشحه الذي اعطاه 200 دولار في مقابل عمل الاسابيع الثلاثة معتقداً انه امن له مستقبله به. والأكيد حتى الآن ان صرف الاموال امر نادر جداً. ربما كان آب اغسطس موعداً لتدفق الاموال الانتخابية. هذا ما ينتظره خبراء الانتخابات، ولكن حتى هذا التاريخ لا شيء مهماً يصرف. على المفتاح الانتخابي ان يكون موضع ثقة ابناء حيه او منطقته اولاً، ويستطيع اذا احتاج الامر ان يطرق الابواب فتفتح له. واتصال المرشحين به يتم عبر قنوات عدة فمنهم من يعرفه من الدورات الانتخابية السابقة، ومنهم من سمع به من مرشحين زملاء او حلفاء. كثيراً ما يطلب المرشح العتيد موعداً من "المفتاح"، فيلتقيه. وفي الجلسة الاولى يتحدث الخبير الانتخابي عن متطلبات الترشح وتحديداً في المسألة المادية. في حين يركز المرشح عموماً حديثه على الوطن ومصلحته حتى لو كان غائباً تماماً عن كل معاني الشأن العام. فهو يستعرض امامك نضالاته ومواقفه في ميادين السياسة المختلفة. بعد اتفاق مادي مبدئي، على الخبير ان يبدأ بالترويج للمرشح، كما يروج لأي سلعة، فتبدأ بأن تدعوه الى لقاء في منزلك مع الاهل والجيرة من الذين يثقون بك، ومتفق معهم على الخيار، فيحاورونه في الخدمات التي يمكنه تقديمها الى حيهم. وبعد لقاءين او ثلاثة يكون هو في اثنائها اختبر مدى قدرتك على جمع الناس من حوله، وتبدأ الحملة بافتتاح مكتب للمرشح او للائحته في منطقتك. في السابق لم يكن الطابع المادي هو الذي يطغى على علاقة المرشح بالمفتاح الانتخابي، كانت الى جواره التزامات معنوية وادبية. اما الآن فالطبقة السياسية المرشحة لا تملك هذا النوع من العلاقات. الطابع المادي هو السائد. ربما كان السبب غياب الولاءات التقليدية وانعدام العمل الحزبي. في العام 1996 تطوعت للعمل في ماكينة النائب نجاح واكيم انطلاقاً من اقتناع سياسي، فاكتشفت لاحقاً ان علاقات هذا الرجل ومواقفه مرتبطة بالعداء لرجل بعينه، وتحول من معترض على الاوضاع الى متواطئ فيها. فقطعت علاقتي به. الرئىس سليم الحص رجل آدمي ومحترم لكن اداء الحكومة اضر به كثيراً. عندما تجري اتفاقاً مع المرشح، سواء التقيت معه فكرياً او مادياً احياناً يضطر اصحاب الخبرات الانتخابية الى العمل مع مرشحين يسقطون على الاحياء بالمظلات، فيقبلون بالخيار المادي نظراً الى الظروف المادية المتردية تبدأ عمليات الصاق الصور ثم المسيرات السيارة، واللقاءات الشعبية التي قد تصل الى اثنين او ثلاثة في الاسبوع. وفي هذه الاثناء على المرشح ان يكون امن "طلة" تلفزيونية ومقابلة في احدى الصحف، يدعو المفتاح الناخبين الى مشاهدتها او قراءتها، فيمكنك الايحاء من خلال ظهوره عبر التلفزيون ان مرشحك قوي وواصل. يجب ان يبقى المفتاح الانتخابي على اتصال يومي بالمرشح للبحث معه في ما آلت اليه الحملة الانتخابية في الحي وفي الاحياء الاخرى، اذ كثيراً ما يكون خبراء الانتخابات على علاقة بخبراء في الاحياء الاخرى، وتقوم بينهم علاقات تبادلية على المرشح ان يستفيد منها. في المكتب الانتخابي يعقد الخبير اجتماعات دورية مع اهالي الحي من الذين يمون عليهم لتعليمهم طريقة الانتخاب والتقسيم الاداري لبيروت، ثم يبدأ باعداد المندوبين والسيارات والبطاقات الانتخابية. ويسبق هذه العملية تشكيل فرق من السيدات لزيارة المنازل، واقتصار اعضاء هذه الفرق على السيدات سببه الطبيعة المحافظة لأهالي بيروت. فعندما تقرع سيدة باب المنزل يفتح لها فوراً وتدخل بسهولة اكثر. تبدأ السيدة فور دخولها المنزل بالتشديد على ضرورة الانتخاب وعلى اهميته من دون ان تلمح، في بادئ الامر الى مرشحها. فإذا وجدت ان سكان المنزل موضوع قابل للاقناع، تفاتحهم بمرشحها وبمواصفاته. يمتلئ نهار المفتاح الانتخابي بوقائع واحداث لا سياق لها ولا ناظم. فإذا كان يعمل لمرشح معارض يكون عرضة لهمسات المخبرين ونصائحهم، وكثيراً ما يكون هؤلاء من ابناء الحي ومن اصدقائه، وهو عليه لكي يحفظ رأسه ويبقى اميناً لمرشحه ان يوازن بين امور كثيرة يعرفها. ثم عليه ان يواجه الاشاعات التي تستهدف مرشحه، وموسم الانتخابات هو موسم اشاعات صغيرة وموضعية واحياناً كبيرة وعامة، والمفتاح واحد من مطلقيها ومروجيها ثم انه في حالات اخرى واحد من مواجهيها وخامديها. والاشاعة اسلوب ضغط تستعمل ضد المرشحين المغضوب عليهم، وكثيراً ما يكون للسلطة قدرة اكبر على استعمال هذه التقنية، في حين تستعمل المعارضة الاشاعة المضادة وهي اقل فاعلية. هذه الانواع من الاشاعات قد تطاول سمعة المرشح وتصيب صدقيته كالفساد والرشوة او لقائه الاسرائيليين ذات يوم في احد الفنادق العالمية، لكن هناك اشاعات اخرى تقتصر دوائر انتشارها على الماكينات الانتخابية، وهدفها هز ثقة الماكينة بأفرادها وزعزعة تماسكها. ففي الايام القليلة الفائتة انتشرت اخبار تؤكد ان مدير احدى الحملات الانتخابية لمتمولٍ ترشح حديثاً، كان يعمل في ماكينة منافسه في الدورة السابقة، ويقال انه ما زال على علاقة بالماكينة المنافسة ويسرب اليها معلومات عن حملته. وفي المقابل جرت اشاعة ان مدير حملة احدى اللوائح في الدائرة الثانية، مهدد بالاقصاء لأسباب مالية. هناك حياة كاملة وسيناريو يعمل ويتحرك طول النهار، من العاشرة صباحاً الى الثالثة فجراً. فتجد هذا المكتب الانتخابي واضعاً صورة لمرشح معين هذا اليوم، ثم يبدلها في اليوم الثاني. بصورة لمنافسه، بعد ان يكون اجرى اتفاقاً جديداً مع هذا المنافس. انه سيناريو نابض يتجدد كل يوم من مقهى "بيروت كافيه" في الروشة الذي يرتاده اعضاء في ماكينة المرشح فؤاد المخزومي الى "لامب هاوس" حيث يتجمع مؤيدو الرئىس رفيق الحريري الى الاشرفية والرميل، الى الديوانيات الجديدة والتقليدية. والديوانيات تطوير للمقاهي الانتخابية التي كانت تعمر ما قبل الحرب اللبنانية، تماماً كما طورت وظيفة اخرى لهذه المقاهي، وهي الخيم الرمضانية... في بيروت الآن اكثر من خمسة منها، معظمها اقيم بدعم من ماكينة الحريري الانتخابية. والديوانية مكان فسيح غالباً ما يكون موقف سيارات، يسقفها منشئوها بقماش واختيار موقعها لا يكون عن عبث، غالباً، فعليها ان تكون في مكان وسط في حي شعبي. وتقدم فيها "الاراكيل" والقهوة والمرطبات مجاناً، حيناً على حساب المرشح وحيناً آخر على حساب صاحب الديوانية هناك مثلاً ديوانية زكور الحلبي في حي المللا. وعلى رغم ان الحلبي معروف بقربه من الحريري، يستقبل مرشحين من خارج لائحة الاخير. استقبل أخيراً المرشح على لائحة الحص، احمد طبارة والمرشح عن المعقد الشيعي حسن صبرا. يأتي المرشح بعد ان يكون اخذ موعداً، ويدعو منشط الديوانية الناس ويبلغهم بجدول زيارات المرشحين، فيبدأ هؤلاء بالتقاطر من السادسة مساء، ويبقون "يؤركلون" ويشربون القهوة والمرطبات حتى ساعات الفجر الاولى. وهدف الحلبي من اقامة ديوانيته، اضافة الى دعمه الحريري، اقامة علاقات ووجاهات خصوصاً انه صاحب اعمال تجارية مزدهرة. وثمة ديوانية ثانية في شارع فردان اقامتها ماكينة الحريري، وثالثة لهذه الماكينة في ساحة ساقية الجنزير. وهناك ايضاً مقهى المصيطبة لسليمان قمح وهو الآن، رجل في حقل الحريري واخرى في حقل تمام بك سلام، وتنوي "جمعية المشاريع الخيرية الاسلامية" الأحباش اقامة ديوانية في منطقة زقاق البلاط. اما في منطقة الطريق الجديدة فما هو سائد حتى الآن المقاهي الانتخابية كمقهى دوغان، يجتمع فيه مناصرون للمرشح محيي الدين دوغان الذي تسري اشاعات هناك انه مدعوم من جهات عليا، ومقهى البرجاوي لصاحبه شاكر البرجاوي، وهو الآن احد اركان ماكينة الحريري الانتخابية. والمفتاح الانتخابي حمال اثقال واحزان، وصاحب صدر واسع وبال طويل، عليه نسيان نفسه وعواطفه وميوله الخاصة والاندماج بالأوضاع المعقدة والمتداخلة للحملة الانتخابية التي يخوض غمارها. هناك الكثير من المحاذير تسقط خلال المواسم الانتخابية، عليك التعامل مع ادنى الناس وارقاهم في وقت واحد. قد تشعر ان شخصاً يمكنه خدمتك في الانتخابات، عليك حينئذ اسقاط كل ملاحظاتك عليه. وقد يكون صاحب مقمرة صالة للعب القمار أو سبقجياً مراهن في سبق الخيل، لكنك مضطر الى التعامل معه. المفتاح الانتخابي الذي لا يملك خلفية فكرية يبقى الامر سهلاً عليه، اما من يملكها او كان في السابق حزبياً وابن "الحركة الوطنية"، فهناك تعاملات يقوم بها مكرهاً لخدمة المرشح الذي تعهد خدمته. انا مثلاً اعمل في ماكينة اللائحة الرئىسية في بيروت. وهناك اشخاص يعملون في الماكينة وتجمعني بهم لقاءاتها الدورية. اكره نفسي حين اجلس بقربهم. واضطر الى الابتسام لهم. احياناً تلزمك ظروفك ان تكون قاسياً على نفسك.