كم بدت مهزوزة صورة الإعلام اللبناني، المرئي والمسموع بخاصة، وهو يواكب الحملات الانتخابية النيابية. وكم أظهرت وسائله، بالتالي، قصوراً عن فهم معنى الحرية التي ميزت لبنان في هذه المنطقة، مذ كان، محوِّلة إياه فوضى مزعجة، إذ جعلت من أثيرها إما متاريس متقابلة وإما سوق ترويج لمرشح دون آخر، من دون ضابط أو حسيب أو رقيب. الذنب، والحقيقة تقال، ليس ذنب هذه الوسائل وحسب. هو أيضاً، وأولاً، ذنب التركيبة الحاكمة، منذ عشر سنوات، وقد اقترعت على ثوب الحرية فاقتسمت وسائل الإعلام، في ما بينها، في ما عرف بالمحاصصة. وهو ثانياً، ذنب الحكومة الحالية والمجلس النيابي الحالي المشارفة ولايته الانتهاء معاً، يتساويان في ارتكابه، من دون سبب تخفيفي لأي منهما، لأنهما لم يسعيا جدياً، عجزاً أو تواطؤاً، عن وضع قانون لضبط الإعلام والإعلان الانتخابيين. ولأن الطبيعة تكره الفراغ، ولأن الفراغ في لبنان، هذه الأيام، لا يبدأ فقط بالسياسة ولا ينتهي بها، استغلت وسائل الإعلام الظرف وعملت بما يناسب مالكيها أو المساهمين فيها أو القريبين منهم، وبينهم مرشحون إلى الانتخابات. الإعلام المسموع لم يكن، من حيث عكسه هذه الصورة المهزوزة، ذا أهمية، مقارنة بشقيقه المرئي، فتفاوتت تغطية النشاطات الانتخابية بين إذاعة وأخرى، من دون أن يشعر السامع أن ثمة تحيزاً مطلقاً لفريق دون آخر. فبين الإذاعات من استضاف الأضداد، ومنها من زكَّت مرشحاً على آخر، ومنها من استقبلت معارضين تجرأوا على خرق السقف السياسي والإعلامي المفروض. أما في مجال الإعلام المرئي، حيث تفعل الصورة فعل المغناطيس، فالأمر مختلف: "المؤسسة اللبنانية للإرسال"، وهي المحطة التلفزيونية الخاصة الأقدم بين قريناتها، بدت ميالة إلى السلطة ورموزها عموماً، وسوَّقت، تصريحاً أو تلميحاً، للوزير سليمان فرنجية والنائب عصام فارس والوزير السابق جورج أفرام والنائب طلال أرسلان، وهم مساهمون فيها... من دون أن تغفل تغطية نشاطات خصومهم، ولو بخجل، وإن أفسحت في المجال أمام وجهات نظر متنوعة، خصوصاً لصحافيين، للتعبير عن آرائهم. و"المستقبل" هللت وتهلل لمالكها الرئيسي، رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري وقائمته في بيروت ومرشحي "تياره" في مختلف المناطق، و سوَّقت لحلفائه، ولاسيما منهم النائب وليد جنبلاط، أو لخصوم خصومه. وخصصت حيزاً واسعاً من ساعات بثها الإخباري لمواجهة حملة الإعلام الرسمي على الحريري، قبل الهدنة التي تم التوصل إليها، وما زالت صامدة منذ مطلع الأسبوع الجاري... ولم تغب عن شاشتها وجوه أخرى، في حين يقول القيمون عليها إنها دعت إلى برامجها وزراء حاليين أو مقربين من السلطة... لكنهم اعتذروا أو رفضوا. و "أن. بي. أن." المحسوبة على رئيس المجلس النيابي نبيه بري، وهي متخصصة في الأخبار والبرامج السياسية والإخبارية، سلطت الضوء على اللوائح التي تضم مرشحين من "حركة أمل" أو مدعومين منها، علماً أنها ليست في حاجة إلى خوض معركة إعلامية لمصلحة بري في الجنوب والبقاع، ما دام تحالفه مع "حزب الله" فيهما ثابت، وهذا لا يعني أنها أغلقت بابها في وجه سياسيين آخرين، وظلت في منأى عن الحملات الإعلامية. و"المنار" التابعة ل"حزب الله"، لم يكن غريباً أن تخصص مرشحي الحزب بالحيز الأوسع من الاهتمام، رافدة حملتهم بالخطب التي ما زالت نارية لأمينه العام السيد حسن نصرالله، ولمسؤوليه الآخرين، وبالوهج المتبقي من الهالة التي احيط بها، انطلاقاً من "تحرير الجنوب". و"آي. سي. إن." التي أدت المحاصصة الإعلامية إلى إغلاقها قبل سنوات، ثم نالت، واثنتين غيرها، ترخيصاً قبل أشهر، لم تترجم هذا الحق، ولو في بث تجريبي، إلا قبل أيام قليلة على الجولة الأولى من الانتخابات... للترويج للائحة في كسروان - جبيل، ترأسها مالكها المهندس هنري صفير، وبدا أنها مؤيدة للعهد وإعلامه الرسمي، بدليل بثها نشرات أخبار تلفزيون لبنان. أما تلفزيون لبنان الرسمي... فبدا، وسط هذه الأجواء، غير ما يجب أن يكون. بدا طرفاً وشن حملات على خصوم السلطة ومعارضيها، بأسلوب إعلامي غير معهود وغير مسبوق، وحجته في "تحيزه" المكشوف هذا، أن السلطة مستهدفة من المعارضة، ولا تملك سواه وسيلة للدفاع عن نفسها. ولكن ربما نسي أصحاب هذه الحجة أن الدولة، بمفهومها الصحيح، هي لجميع أبنائها من دون استثناء، وأن هؤلاء الأبناء جميعاً، غير منتقص منهم واحد، هم هم الذين يمولون مؤسساتها، من عائدات الضرائب والرسوم المفروضة عليهم... والتلفزيون الرسمي إحدى هذه المؤسسات، أليس كذلك؟ تبقى محطة واحدة، "أم. تي. في."، أو "تلفزيون المر"، التي على رغم ارتباطها، بالاسم فقط، بأحد أبرز رموز السلطة "دولة نائب رئيس الحكومة وزير الداخلية والشؤون البلدية نائب المتن الشمالي المهندس ميشال المر" الخ... ليست محسوبة عليه أو على غيره، ولا مؤيدة له أو لغيره، وإن كان أبرز المساهمين فيها شقيقه المهندس غبريال ونجلاه ميشال وجهاد. وقد أظهرت المحطة، على رغم تخصيصها برامج كثيرة للانتخابات مع ما يوحيه هذا النوع من البرامج من غاية إعلانية استقلالاً وموضوعية في التعاطي مع الحملات الانتخابية، وفي مواكبة نشاطات المرشحين، وفي تغطية الجولة الأولى من الانتخابات، بدءاً من فتح صناديق الاقتراع وانتهاء بإعلان النتائج تباعاً حتى ساعات الصباح الأولى، استناداً إلى مصادر ماكينات المرشحين التي تعمل في موازاة لجان الفرز الرسمية. وأفسحت شاشتها لكل رأي، معتمدة لغة هادئة، ومبتعدة عن الترويج والإثارة. وثمة من يقول إنها أسهمت في نجاح مرشحين، كان فوزهم أشبه بالحلم، لأنها عرفت الناس بهم، الأمر الذي ما كان متاحاً لهم في محطات أخرى... وقد أكسبها كل ذلك ثقة المشاهدين، ولا سيما منهم الذين طالما صنفوها في خانة الفرانكوفونية، وعزز موقعها بين المحطات الإعلامية. وهي فقهت هذا الأمر، وبدأت، من الآن، تعمل على تثمير هذه الثقة، في قفزة نوعية قد ترى النور بعد الانتخابات. ولم يكن مخطئاً من استوقفته فيها، دائماً، خلفية معظم برامجها المركزة على اللون الأزرق... ليعدها انعكاساً للمدى الواسع المتسع صدره للجميع.