إذا كان من المفهوم أن تتمسّك الشعوب والأقوام المغلوبة والمنهوبة بأفكار الخصوصية وأن ترتاب بأفكار الكونية، بصرف النظر عمّا إذا كان ذلك مبرَّراً أم لا، فإنّه يبقى غريباً بعض الشيء ما ينمّ عنه الفكر الغربي مُمَثَّلاً بتيار ما بعد الحداثة من تعزيز لفكر الخصوصية والمحلية، وذلك في اطار نقده لكونية عصر الأنوار. تمثّلت أطروحة الأنوار في أنّ الإنسان جدير بالحرية والسعادة والعدالة وغيرها لأنه انسان بكلّ بساطة. وهذا يعني أن طبيعتنا البشرية المشتركة تقتضي أن تكون لنا مطالب أخلاقية وسياسية بعضنا تجاه بعض، فمثل هذه المسائل أهم وأخطر بكثير من أن تُتْرَك لرحمة ما هو محلي أو ثقافي محض، أو لرحمة العرف والعادة والتقليد ونزوات الأسياد والطغاة وأهوائهم أو للسنن المتّبعة في جماعة أو مجتمع معينين. فالاحترام والحقوق التي تُمْنَح على نحوٍ عارض يمكن أن تُسْحَب على نحوٍ عارض أيضاً، الأمر الذي يشكّل أساساً أوهى بكثير من أن يقوم عليه نوع من الأخلاق. ولذا كان ضرورياً، بحسب الأنوار، أن تكون العدالة بعيدة من التحيّز والاختلاف. صحيحٌ ان هذا المذهب قد أُطْلِقَ من موقع خاص ومحدَّد هو موقع البورجوازية الغربية البيضاء الذكورية، غير أن كلَّ مذهب ينطلق من موقع خاص ومحدَّد سواء كان كوني النزعة أم لم يكن. وصحيحٌ ان الاحترام المتساوي لم يُمْنَح عملياً للجميع كالنساء، مثلاً، أو غير الأوروبيين، أو الفلاحين الفقراء، غير ان حرية الجميع صارت مهمة في النظرية. وكان هذا تقدماً ضخماً بالقياس الى ما كان قبله. وعلى الأقل صار بمقدور أولئك الذين قمعهم مجتمع الطبقة الوسطى أن يواجهوا هذا المجتمع شاهرين في وجهه منطقه الخاص وقد أمسكوا به في حال من التناقض بين ما يقول وما يفعل. وهذا شكل من النقد أمضى على الدوام بالمقارنة مع ذلك الشكل الذي يعمل على تقويم النظام الاجتماعي ونقده قبالة قيم لا يُعْتَرَف بصحتها أو شرعيتها. وبعبارة أخرى فإن هذا المذهب الكوني إذا ما كان قد انتهكه أصحابه في الممارسة أيما انتهاك إلا أنه يبقى سلاحاً فكرياً ماضياً في مواجهة الاستغلال الأوروبي والأميركي للعالم إِذْ يمسك بهذا الأخير وهو ينتهك في الممارسة ما يدّعيه في النظرية. وفي المقابل، فإن ما بعد الحداثة الغربية تبدي حساسية بالغة حيال أي انتهاك لما هو خصوصي. وترى في مفهوم الكونية تجريداً عنيفاً يدوس على ما هو خصوصيّ ويسحقه بكل قسوة، متناسية أنّ هذا المفهوم قد كان من أعظم المفاهيم التحررية في تاريخ البشرية، وأنه إذا ما كان مشتملاً على نقاط عمياء فإنَّ من غير السليم ومن غير البديهي أن نقتصر في تحديده على هذه النقاط العمياء وحدها. وبعبارة أخرى، فإنّ ما بعد الحداثة التي تعلي، محقّةً، من شأن الخصوصية والمحلية في وجه كونية معينة تحاول التهام التنوع والتعدد وتحاول توحيد العالم محولة اياه الى مكان موحش بدل أن تعمل على تعميق ما فيه من تميز في اطار كونيته، انما تمضي بعيداً في هذا المجال فتصل الى درجة تجعل فيها من الخصوصية التي تدافع عنها وجه العملة الآخر الفاسد لكونيةٍ أو عالمية فاسدة. فالارتياب الذي تبديه ما بعد الحداثة حيال الكونية هو ارتياب يرى من منطق ثقافوي أن القيم الأخلاقية لا تتجسد إلا في تقاليد محلية محددة، وأن لا قوة لهذه القيم تتعدى هذه القوة. ومن الأمثلة الفاضحة على هذا الاعتقاد ما نجده لدى الفيلسوف الأميركي ريتشارد رورتي الذي يُعتبر اليوم واحداً من أهمّ فلاسفة ما بعد الحداثة ومفكّريها. ولد رورتي عام 1931 في نيويورك ودرس في جامعتي شيكاغو وييل قبل أن يصبح أستاذاً في جامعة برينستون بين 1961 و1982، وهو يشغل منذ 1982 منصب رئيس قسم العلوم الإنسانية في جامعة فيرجينيا فضلاً عن كونه أستاذاً زائراً وزميلاً في الكثير من الجامعات في الولاياتالمتحدة وبريطانيا والمانيا وايطاليا واستراليا. وكانت بداية رورتي في مجال فلسفة اللغة حيث رأى أنّ التحليل المنطقي الدقيق للّغة يمكن أن يقدّم اجابات عن معظم الأسئلة الفلسفية. وقد وضع في 1967 نوعاً من الأنطولوجيا لعبت دوراً رئيسياً في تقديم فلسفة اللغة لجيل كامل. لكن المفارقة أنّ رورتي تحول بعد ذلك الى واحد من أشدّ نقّاد هذا الاتجاه. ففي كتابه "الفلسفة ومرآة الطبيعة" 1979، وجّه رورتي نقداً قاسياً للنظرة التي ترى الى العقل بوصفه تمثيلاً أو مرآة للواقع الخارجي الطبيعة، كما تخلّى عندئذ عن البحث عن أسس للتفسير ثابتة ونهائية، وهو البحث الذي وسم الفلسفة الحديثة منذ ديكارت فصاعداً. وقد استبدل رورتي بذلك مفهوماً براغماتياً للحقيقة، مما يمكن للقارىء أن يجد تفاصيله في كتابه "عواقب البراغماتية" 1982. أما بعد ذلك فبدأ رورتي نوعاً من اعادة التفكير بمفاهيم الذات والذاتية والثقافة. ففي كتابيه "المصادفة والمفارقة الساخرة والتضامن" 1989 و"الذاتية والنسبية والحقيقة" 1991، رأى رورتي ان احساس الفرد بأناه هو نتاج لعملية خلق ذاتي في المقام الأول، كما لفت الانتباه الى أهمية حرية الفرد، وبدلاً من أن يقيم الواجب الأخلاقي على أساس ما متعالٍ، لجأ الى فكرة "الإحساس بالتضامن" القائمة على ردّة فعل مشتركة تجاه المعاناة والألم. ويرى رورتي بصدد "التضامن" ان من ساعدوا اليهود في الحرب العالمية الثانية إنما فعلوا ذلك بسبب انتمائهم الى المدينة ذاتها أو المهنة ذاتها أو الى أي تجمّع اجتماعي آخر، وليس لأنهم وجدوا فيهم بشراً من بني جلدتهم. ويتساءل رورتي بعد ذلك عمّا يوجب على الليبراليين الأميركيين أن يساعدوا الزنوج الأميركيين المضطَهدين: "أنقول إن ما يوجب مساعدة هؤلاء هو أنهم كائنات بشرية مثلنا؟ ربما، غير ان من المقنع أكثر، أخلاقياً وكذلك سياسياً، أن نصفهم بأنهم أميركيون مثلنا" أن نلحّ على أن من الشائن والمعيب أن يعيش أميركي بلا أمل". وباختصار، فإن الأخلاق لم تَعدْ أكثر من ضَرْبٍ من الوطنية. لعل رورتي يرمي هنا الى التخلص من التجريدات الكونية التي لا طائل من ورائها، مثل "الإنسانية الكونية"، كيما يتيح لنا أن نكون أشدّ فاعلية أخلاقياً وسياسياً. لعلّه لا يعارض هذه التجريدات لأنها زائفة أو لأنه لا يستسيغ أن يطلقها بقدر ما يعارضها لأنها تلهي عن المهمات الحقيقية الملموسة والموضوعة قيد التنفيذ. غير أنه يظل بحاجة، على رغم ذلك، لأن يجد أسساً تفرّق بينه وبين ذلك النوع من المناهضين للكونية ممن يعتقدون أن القتل والاعتقال واضرابهما هي أفعال خاطئة بالنسبة الى الجميع ما عدا الديكتاتوريات التي هي فوق القانون، وتلك الشعوب الهمجية التي لا تعرف ما هو أفضل من ذلك، وأولئك الذين صادف أن أجازت تقاليدهم العريقة مثل هذه الأفعال. ولأن رورتي لا يجد مثل هذه الأسس، فإنه يدفع موقفه، بصرف النظر عن النوايا، الى حدّ يتحول فيه الى خدمة ما يريد أن يعارضه. وربما كان مفيداً وممتعاً بهذا الصدد أن نورد السخرية التي سلّطها على رورتي الناقد الإنكليزي الشهير تيري ايغلتون في كتابه "أوهام ما بعد الحداثة" حيث يقول بصدد موقف رورتي من التضامن القائم على الوطنية الأميركية ونفوره من فكرة الكونية: "ان مثال رورتي يستوقفني بوصفه موقفاً لا يزال كونياً الى حدّ بعيد. فثمة، في النهاية، قَدْر كبير من الأميركيين، من مختلف الأشكال والأحجام، ولا شكّ أن ثمة شيئاً من التجريد في أن يقيم المرء تعاطفه على أسسٍ عامة بهذا القدر... والسؤال، إذاً، أما كان من الأفضل لناقد مفوَّه للكونية مثل رورتي أن يقيم شعوره تجاه أشباهه على أساس من المحلية الحقّة، كصف البيوت الموجودة في شارع مثلاً؟ مع أننا لو تأملنا هذا القول الأخير عن كثب، فإننا سنجد أنه لا يزال يقف في الطرف الذي يضفي التماثل والتجانس وشيئاً من الكونية والعمومية. ذلك أن صفّ البيوت الذي يعيش فيه المرء يشتمل على نثار كبير من ضروب البشر المختلفين" إلا ان من المؤكد أنه يشكّل أساساً للعدالة الاجتماعية أسلس قياداً بالقياس الى بعض التجريدات الكونية مثل أميركا. حيث يمكن للمرء أن يبدي التعاطف مع أولئك الذين في الشقّة المجاورة في حين يحبسه عن أولئك الذين في آخر الشارع. أما أنا شخصياً، فلن أبدي التعاطف حيال أحد سوى دفعتي في جامعة "كمبريدج". والحال انه إذا كانت فكرة الكونية جزءاً من مشروع البورجوازية الغربية البيضاء الذكورية التي زعمت ان مفهومها الخاص عن الإنسانية ينبغي أن يطبّق على كل أحد آخر، وإذا ما كانت هذه واحدة ن الطرائق التي تُوْجِر فيها بفكرة الكونية، مما كان الاعتراض ما بعد الحداثي عليه محقاً تماماً، إلا أنه ليس من التعددية في شيء أن يتصور ما بعد الحداثيين الذين لا ينفكّون ينادون بالتعددية ان هذا هو كل ما يمكن للكونية أن تعنيه. فليس الأمر أمر الكونية أم عدمها بل هو أمر صراع بين مفاهيم مختلفة للكونية ذاتها. وإذا ما كان هنالك نوع رديء من الكونية، فإن هنالك نوعاً رديئاً من الخصوصية أيضاً. وإذا ما كانت كونية التنوير اقضائيةً في الممارسة، فإن الخصوصية الإثنية يمكن أن تكون اقصائية في كل من الممارسة والنظرية. ولذا فإن الأمر هنا أيضاً ليس أمر الخصوصية أم عدمها بقدر ما هو أمر صراع بين مفاهيم مختلفة للخصوصية ذاتها.