ريتشارد رورتي فيلسوف أمريكي معاصر؛ اشتهر بكتابه «الفلسفة ومرآة الطبيعة»، وله أيضا كتاب مهم هو: «المشروطية، السخرية، والتضامن الاجتماعي». والكتاب الأخير هو المصدر الرئيس لمفهوم السخرية والساخر عنده. فما هي السخرية ومن هو الناقد الساخر؟. رورتي يعد فيلسوفا ما بعد حداثيا، كما أنه أيضا يحمل الإرث البراغماتي الذي ورثه من جون ديوي ووليم جيمس. ويبدو أن لجوءه إلى البراغماتية جاء كحل لبعض المشكلات التي استعصت على فلسفة ما بعد الحداثة. فإذا كانت هذه الأخيرة تنكر وجود معايير ثابتة ترتكز عليها اختياراتنا فإن رورتي سيضطر إلى أن يجعل من المنفعة السبيل الوحيد للتخلص من الشك الطاغي لدى ما بعد الحداثة. يتفق رورتي مع ما بعد الحداثة في كون المعرفة البشرية نسبية وتاريخية وغير مطلقة. فالحقائق التي نؤمن بها موقوتة بوقتها ومقتصرة على زمانها وهي من إبداع المجتمع نفسه وليس هناك حقائق خارج عن إطار الثقافة البشرية. ويعتبر نيتشه زعيم هذا المذهب في الحقيقة؛ فله القولة المشهورة: ليس هناك حقائق بل تفسيرات، أي ليس هناك حقيقة ثابتة للشيء بل حقيقة متغيرة ناجمة عن تفسيراتنا له. يسمي رورتي النسبية بالمشروطية، وهي أن إبداع المعارف والأفكار والحقائق مشروط بسياق معين، وأنها لا تعني شيئا خارج هذا السياق. مع ملاحظة أن هذا السياق عبارة عن ضرب من الاتفاق الضمني أو «التعاقد المضمر» بين مجموعة من العلماء أو الفاعلين في مجال من مجالات النشاط البشري. في مثل هذا السياق المشروط يظهر الناقد الساخر. أو لنقل: الناقد الساخر هو من يعي مشروطية المعرفة والحقيقة و«يسخر» من الادعاءات الكبرى أو السرديات الكبرى كما يسميها ليوتار والتي تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة الموضوعية. فليس هناك، حسب رورتي، حقيقة موضوعية خارج نطاق الحراك الثقافي والحضاري للبشرية.. أي ليس هناك حقيقة مستقلة عن عقولنا ولا يلزمنا فقط سوى السعي إليها، إذ الصواب هو أننا نخلق الحقائق لا نكتشفها ومن ثم نسعى إليها. تلك الادعاءات الكبرى يسميها رورتي ب«الكلمة النهائية» والكلمة النهائية أو الكلمات النهائية هي تقريبا الأفكار الجوهرية التي تبرر كل فكرة ثانوية أو كل تصرف يقوم به الإنسان. هنا يأتي دور الساخر لكي يوضح لهذا الإنسان أن «الكلمات النهائية» التي تسيطر عليه في وقت ما هي نسبية ومشروطة بظرفها وأنه من الأسلم التخلي عنها متى ما استنفدت أغراضها. واستفاد الغرض العملي هو السبب الذي يجعل العقول البشرية تبحث عن حقائق أخرى أكثر منفعة. الناقد الساخر لا يفضل فكرة على فكرة إلا لمنفعتها وليس لأنها أقرب للحقيقة الموضوعية، إذ ليس هناك شيء كهذا. لذلك فالناقد الساخر مثلا لا يرى أن فيزياء نيوتن أقرب للحقيقة من فيزياء أرسطو بل يقول: فيزياء نيوتن أكثر منفعة في سياق تاريخي محدد من فيزياء أرسطو. وقل مثل ذلك على فيزياء إنشتاين مقارنة من نيوتن.. مما يلاحظ فإن هناك فرقا كما ألمحنا له في البداية بين الناقد الساخر والناقد التفكيكي مثلا.. فالأخير لا يثق في شيء ويبالغ في الريبة، بخلاف الساخر الذي يجعل من المنفعة العائدة على المجتمع دليلا هاديا له بعد رحلة الشك المعرفي.