تتعرض الفلسفة اليوم لهجوم صاعق لم تتعرض لمثله منذ القرن الخامس قبل المسيح على يد السفاسطة اليونانيين القدماء. والمحور الجغرافي لهذا الهجوم اليوم هو فرنسا وقادته عدد من الفلاسفة الذين سنأتي على ذكرهم في صلب هذه الدراسة يعرفون بدعاة ما بعد الحداثة Postmodernists. وبعد ذلك سنتطرق لاستخلاص بعض العبر التي يرتبط بها مستقبل الفكر الفلسفي العربي في عالم متغير. تجدر الاشارة، على سبيل التذكير، إلى أهم المآخذ التي أخذها أئمة السفاسطة القدماء على خصومهم من الفلاسفة إن في باب المعرفة أو في باب السياسة والخلقيات، لا سيما وأن بعض هذه المآخذ يشبه إلى حد كبير مآخذ المشككين والمفككين المعاصرين الذين سنتناولهم بالبحث والتعليق. يتصدر لائحة المآخذ التي توفر عليها بروتاغورس توفي حوالى 441 ق.م زعيم السفاسطة في زمانه في كتابه الموسوم "في الحقيقة": ان الحقيقة لا منال لها، لأن لكل قضية وجهين متضادين وان الخطيب أو المحامي الفذ يستطيع الدفاع عن صحة كل منهما، وأن الموضوعية أو اليقين مستحيلان، ما دام الإنسان، كما قال: "مقياس كل شيء: الموجود أنه موجود واللاموجود أنه لا موجود". وما المواقف أو الآراء السياسية، من جهة أخرى، إلا أعراف تتوقف صحتها أو سلامتها على قوة معتنقيها أو نفوذهم، كما قال سوفسطائي آخر هو تراسيماخوس الوارد ذكره في مطلع "جمهورية" افلاطون. ولعل أعظم الشكوكيين القدماء سفسطائي صقلي آخر هو غورجياس توفي حوالى 380 ق.م الذي ذهب في كتابه الموسوم "في الطبيعة أو اللاموجود" مذاهب ثلاثة: أولاً، لا يوجد شيء. ثانياً، حتى لو وُجد شيء، فلا سبيل لادراكه. ثالثاً، فإذا اتفق عرضاً أن أدركناه فلا يمكن الافصاح عنه. يتبين من ذلك ان أعنف هجمات السفاسطة القدماء كانت تدور إذن على مسألة المعرفة وصلتها بالوجود، وهذا بالفعل مدار التيارات الفلسفية المعاصرة، كما سيتبيّن من دراستنا هذه، وإن كان الوجه الآخر لهذه التيارات هو إبطال الفلسفة بصورة عامة، والاستعاضة عنها بصيغ جديدة من "الخطاب" اللغوي أو الفكري، شيمة التأويل عند ميشال فوكو وبول ريكور أو المحادثة والقَصص عند ريتشارد رورتي وجان فرنسوا ليوتار، أو التثقيف عند هانس جورج غادامار، أو علم الكتابة عند جاك دريدا. الحداثة وما بعد الحداثة تبدأ سيرة الصراع الفكري الدائر في أوروبا وإلى حد ما في أميركا اليوم بإعادة النظر في مفهوم المعرفة العلمية الثابتة الذي استحدثه ديكارت توفي 1650، وبنى عليه كانت توفي 1804 نظريته المعرفية التي اعتبرت طيلة ما ينيف على قرنين توفيقاً عقلياً مقبولاً بين العقلانية الأوروبية والتجريبية البريطانية من جهة، وحلاً لاشكالية المتافيزيقا وعلم الاخلاق من جهة ثانية، وتثبيتاً للمعرفة العلمية الايجابية في ميدان العلم الفيزيائي والرياضي خاصة، من جهة ثالثة. قاد الحملة على الذاتية الحديثة التي استخلصها ديكارت من الادراك الحدسي للكوجيتو الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر الذي قلب في كتابه المعروف "الوجود والزمان" 1927 الكوجينو على أعقابه، وذهب إلى أن وجود الذات زمنياً Dasein سابق لإدراك الذات الذي بنى عليه ديكارت الإدراك الحدسي للكوجينو. وكان هايدغر أول من بشرّ ب "نهاية الفلسفة" لا بالمعنى المطلق، بل بالمعنى التاريخي، فعنده أن العلم الوضعي خلف الفلسفة المتافيزيقية وأن الشعر يجب أن يخلف العلم الوضعي، ومع ذلك تجب العودة إلى المتافيزيقا أو الانطولوجيا في حلة وجودية جديدة. وفي الحقبة ذاتها، أي العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، نادى ادموند هوسرل في كتابه "أزمة العلوم الأوروبية والفينومونولوجيا المتعالية" 1936 بوجود "أزمة" في صلب الفكر الأوروبي، ونعى على العقلانية المتحجرة اسقاطها للأسس العملية والأطر الثقافية للكشوف العملية، أي تجريديتها، مما لاقى استحساناً خاصاً في أوساط فلاسفة ما بعد الحداثة أمثال جان فرنسوا ليوتار وجيل دولوز وفليكس غوثاري وسواهم، فذهب ليوتار، وهو أحد زعماء حركة ما بعد الحداثة الذين اقتفوا خطى هايديغير وهوسرل إلى حد ما، إلى وجوب التخلي عن الفلسفة والعلم معاً واستبدالهما بالخطاب الروائي أو القصصي. فصحة قضية علمية ما، كما يقول ليوتار، مثل اكتشاف كوبرنيكوس لمدار الكواكب، لا تفصل عن الأعراف اللغوية والثقافية التي كانت سائدة في عصره، ولا سيما عن "شرعية" الحجج التي يقدمها العالم بصورة عامة، وقدرته على اقناع معاصريه بصورة خاصة، فكان الافصاح عن حقيقة علمية أو نشرها عبارة عن "لعبة لغوية" يشترك فيها المعلم والمتعلم ويحاول كل على طريقته اقناع الخصوم بصحة حججه. وهو ما دعاه ارسطو قديماً بالاسلوب الجدلي ديالكتيك تمييزاً له عن الأسلوب البرلماني والاسلوب الخطابي، وهي الأساليب أو الطرق المنطقية الثلاث التي ذكرها ابن رشد في "فصل المقال" واعتبرها متفاوتة من حيث قوتها الاقناعية، وبنى عليها نظريته في الطبقات الثلاث، أي الفلاسفة، فالمتكلمون فجمهور الناس الغالب، كما هو معروف. محك المعرفة العلمية بمعناها التقليدي ومدى صدقها أو اتفاقها مع واقع الأمر، إذا صح التعبير، والحجج القاطعة التي يمكن تقديمها في دعمها أو في إبطال حجج معارضيها. أما ليوتار، فيرى ان هذا المحك عبارة عن جملة من المقاييس اللغوية والاجتماعية والثقافية، أهمها: أ القدرة على الافصاح عنها في وسائل الاعلام بوضوح واقناع الجمهور بصحتها. ب اتفاقها مع قواعد بديهية انعقد عليها اجماع العلماء في ذلك الحقل، ولكنها ليست بالضرورة كلية أو مطلقة. ج مساهمتها في الدفع قدماً بالاكتشافات الجديدة ذات المنفعة العامة، كما حصل في القرن الثامن عشر لدى ظهور الرأسمالية. ويمكن دعوة هذا المحك الحصيلة الاقتصادية للاكتشاف العلمي المحدد. د طاقتها "الانجازية" Performativite التي تقرر أهمية الاكتشاف العلمي الجديد. فلا نسأل آنذاك: هل هو صحيح؟ كما ترى النظرة القديمة إلى العلم، بل ما الفائدة منه؟ ولا: "هل هو عدل؟ بل هل هو قابل للبيع والشراء وبأي ثمن؟ هنا تصبح "موسوعة الغد"، كما يقول ليوتار، مصرفاً أو خزانة للمعلومات تفوق طاقة المستهلك الواحد، ولكنها تعبر عن طبيعة انسان ما بعد الحداثة". لذا كان تفوق هذا الإنسان قائماً على مدى احاطته بالمزيد من المعلومات، فضلاً عن طاقته على انتاج المعلومات الجديدة أو الاضافة الكمية إليها. ومن هنا الدور الذي تلعبه وسائل الاعلام اليوم في نشر المعلومات وفي تكوين الرأي العام. ويرى ليوتار، في باب مقارنة ما يدعوه المعرفة العلمية والمعرفة اللاعلمية أي القصصية، ان سمة الضرورة أو الالزام لا تصح على أي منهما، وأن دعوى امتياز المعرفة العلمية على المعرفة اللاعلمية دعوى ساقطة "فلا يجوز إذن مقارنة الاسلوب القصصي بالعلمي أو بين قيمتهما ولا العكس. فالمقاييس الخاصة بكل منهما مختلفة هنا وهناك. ويكفي آخر الأمر التعجب من ذلك التنوع في الاشكال الاستدلالية، كما نتعجب من تنوع الفصائل النباتية والحيوانية". أي أن كلا المحتوى المعرفي للعلم والقصص متساويان، فلا ميزة لأحدهما على الآخر. وما ادعاء تفوق العلم إلا مظهر آخر من مظاهر الامبريالية الثقافية الغربية. أما جان بودريار، وهو أحد زعماء حركة ما بعد الحداثة أيضاً، فهو يذهب إلى أن المجتمع المعاصر أخذ في التمرد على المقولات المعرفية القديمة، ولا سيما الادعاءات المتافيزيقية والقيم الاخلاقية المتعالية. فالحضارة الحديثة تخضع اليوم لمقاييس "تشكيلية" Simulacres جديدة لم يبق فيها للموجودات أو المعتقدات مصادر وأسس موضوعية ثابتة. وبعد انفصاله عن الماركسية، راح بودليار يدلل على أن النموذج الانتاجي الذي بنى عليه كارل ماركس فلسفته المعروفة بالمادية الجدلية لم يعد كافياً. فوجب الاستعاضة عنه بنموذج آخر هو النموذج "التشكيلي" الذي تصبح فيه السلعة الاستهلاكية أساساً للتعامل، ليس على الصعيد التجاري وحسب، بل وعلى الصعيد الاعلامي والثقافي أيضاً. فيكون بودريار قد أحل مفهوم الاستهلاك محل مفهوم الانتاج الذي كان ماركس قد اعتبره الأساس الحاسم للفصل بين الرأسمالية والشيوعية ومحور المادية الجدلية والنظرة الماركسية إلى الإنسان والمجتمع. في باب "الثورة الاعلامية" التي اتسم بها المجتمع المعاصر، يقول بودريار إنه كان يرى بناءً على بعض النظريات السائدة آنذاك ان وسائل الاعلام عبارة عن أداة للتحكم بالرأي العام والتلاعب به، لا سيما في ميدان الترويج للسلع الاستهلاكية أو القرارات السياسية، كما يجري مثلاً في استطلاعات الرأي العام. ولكنه تراجع عن هذا الموقغ عندما تبيّن له أن وسائل الاعلام هذه ليست مسؤولة عن الفوضى الفكرية التي أصابت الرأي العام أو الجمهور المستهلك، وان العلة لا تكمن في تحكم وسائل الاعلام تلك، بل في تردي المجتمع المعاصر في شكوكية تامة لم تعد تستند إلى معطيات ذات دلالات ثابتة، بل إلى رموز أو "تماثيل" شاملة. وهذه التماثيل التي يشبهها المؤلف أحياناً بالايقونات الدينية ليست ذات وجود موضوعي مستقل، بل أساليب للتخييل أو الخداع. ف "انعدام العلاقة بين الدلالات والرموز"، كما يقول، "يلقي بنا في خضم الفزع... ولو توخينا الموضوعية لقُلنا في خضم الشكوكية الطاغية بالنسبة لرغائبنا أو خياراتنا أو آرائنا أو ارادتنا. وهذه أبرز نتيجة للبيئة الاعلامية بكاملها، أي المعلومات التي تفرض علينا استجابات ملحة من كل جانب ولا تختلف فعلاً عن الابتزاز". ومن نتائج هذه الشكوكية الشاملة أنه لم يعد بوسعنا اليوم، في عرف بودريار، التمييز بين الواقع والعرض الرمزي أو الاحصائي للمعلومات التي تبثها وسائل الاعلام أو ادراك ماهيّة الطبيعة البشرية بصورة موضوعية. وآفة هذه الشكوكية الجديدة انها ليست قائمة على نقصان المعلومات او افراطها، بل على فساد المعلومات ذاتها نتيجة "التخييل" الاعلامي، فلم تعد قابلة للتصحيح او التعديل، خلافاً للشكوكية القديمة. مع ذلك يتحسّر بودريّار على ضياع الجمهور في خضمّ المعلومات والرموز المتضاربة وبذهب الى ان ذلك قدر الانسان المعاصر. فلما كانت المعلومات او الاحصائيات تحاصرنا من كل جانب، فقد فقدنا حرية الاختيار وفقدنا "حسّ الآخر" اي الموضوع، كما فقدنا الحس السياسي والاجتماعي في رأيه. "فأصبج كل فرد على كره منذ مجبراً على الوقوع في دوّامة تماسك الاحصائيات الموحدة. وفي ذلك استغراق ايجابي في شفافية الحاسبات الالكترونية، وهو أسوأ من الاغتراب Alienation". ومن النتائج المأسوية الاخرى للضياع الناجم عن سطوة الاعلام ان الجماهير قد آلت الى نوع من التخلي طوعاً عن حقها الطبيعي في الاختيار وتسليمه للاعلام، وهكذا تنازلت عن تحمل اي مسؤولية او اختيار. "فالجماهير لا تعرف شيئاً وتعرف انها لا تعرف، كما تعرف انها عاجزة عن فعل اي شيء، وهي لا تريد ان تفعل شيئاً". امام عجز الجماهير عن مواجهة وسائل الاعلام واستطلاعات الرأي لا يرى بودريار مع ذل مخرجاً او نصيحة يسديها سوى الصمت او الاستسلام. وتلك النتيجة المنطقية لتخلّيه، على غرار زملائه دعاة ما بعد الحداثة، عن حاجة الانسان المعاصر الى الالمام بأي حقائق او قيم موضوعية يمكن اقتناصها عن طريق الحس السليم او الاختيار او المنطق. فليس بدعاً ان يختم كتابه "التماثيل والتخييل" 1981 بالتصريح: "أنا عدمي. اشاهد وأقبل وأواجه عملية تدمير التماثيل المرعبة وفتنة التماثيل ايضا في خدمة المعنى والتخييل والتاريخ والنقد الخ... ان ثورة القرن التاسع عشر الحقيقية، اي الحداثة، كانت عبارة عن تدمير المظاهر الحاسم وعدم الافتتان بالعالم وتسليمه لعنف التأويل والتاريخ. ثم اشاهد وأقبل وأفترض وأحلل الثورة الثانية، ثورة القرن العشرين، اي ما بعد الحداثة، وهي عملية تدمير المدلولات الضخمة التي تشبه التدمير السابق للمظاهر. فمن يضرب بالمدلول يقتله المدلول". ولا يكتفي بودريّار بالمناداة بالعدمية امام قوى الاعلام والتسلط الطاغية، بل "بالارهاب النظري الذي يتصدى للاحداث المرعبة والمآسي الأليمة في العالم دون امل بالانتصار". "فنحن نعيش في عصر لا شأن له ونظريات لا نتائج لها"، كما يقول: "لأنه لا امل بالعثور على معنى لهذه الاحداث. وذلك دون شك حسن، لأن المعنى فانٍ"، وعلى هذه النغمة السلبية من اليأس يختم كتابه دون ان يتقدم بأي نصيحة للخروج من مأزق الانسان المعاصر الذي يواجه يومياًَ اشكال "التخييل" التي تحاصره بها وسائل الاعلام او السلطة الحاكمة التي تتذرع بتلك الوسائل. العقل كأداة معرفية مشبوهة ولعل اهم خصائص حركة ما بعد الحداثة هو الهجوم الذي يشنّه دعاتها على العقل كأداة صالحة للكشف عن ماهية العالم، ان في شكله الطبيعي او البشري. يبدأ هذا الهجوم بنقض مفهوم الماهية بكليته واتهام قدماء الفلاسفة الميتافيزيقيين خاصة، لا سيما افلاطون وأرسطو ومن نحا نحوهما شيمة هيغل وديكارت، بالأخذ بنظرية باطلة يدعوها البعض بالتماهي. لذا دارت ابحاث عدد من دعاة ما بعد الحداثة على مسألة المعرفة والتصدي لدعوة الفلاسفة المحدثين، لا سيما ديكارت وكانت، كما مرّ، ان العقل، سواء عنينا به الحدس عند ديكارت ام الحسّ المقيد بقيود ذهنية سابقية Priori عند كانت، قادر على الكشف عن حقيقة العالم الخارجي او الذات ومدّنا بمعارف صادقة. وقد دعا ريتشارد رورتي احد دعاة هذه الحركة في اميركا هذه النظرة المعرفة التمثيل وشبّهها بالمرآة. وعنده ان خطأ الفلاسفة المحدثين، كديكارت وكانت، والقدماء كأرسطو طاليس وديمقريطس، يكمن في تعيين هدف خاطئ للمعرفة هو التقابل او التكافؤ بين مجموعة القضايا أو الاحكام التي يصدرها الفيلسوف او العالم وبين مقابلاتها في العالم الخارجي، وذلك هدف مستعصٍ، كما تدل على ذلك المناقضات المستمرة بين الفلاسفة منذ اقدم العصور. فوجب الاستعاضة عن ذلك الهدف بهدف آخر هو "اعتبار المعرفة ضرباً من المحادثة او القصص ومن الممارسة الاجتماعية، لا انعكاساً في المرآة. وعندها لن نواجه على الارجح ممارسة فائقة من شأنها ان تؤلف نقداً لجميع اشكال الممارسة الاجتماعية الممكنة"، كما يقول، بل يصبح مفهوم الفلسفة كمحاولة للكشف عن صورة العالم، بناء على اسس او قواعد ثابتة يمكن تحديدها، محاولة فاشلة. فصحة دعوى او موضوع ما غير مستقلة عن القضايا او الاحكام التي تعبّر عنهما، فوجب تسديد النظر والحالة هذه الى الترابط اللغوي والى الاشكال الثقافية والاجتماعية التي تحيق بها وتأويلها على شتى الوجوه، والتخلي عن مطلب التكافؤ الآنف الذكر وما يؤول اليه من موضوعية مزعومة لأن هدف الفلسفة ليس البحث عن اليقين بل المقارنة بين الحجج التي يمكن ان تساق في دعم قضية فلسفية او علمية ما او نقيضها، اي "شرعية" ادعاء العالم او الفيلسوف بصحة قضية ما يختار طرحها، كما يقول ليوتار. فالفلسفة اذن عبارة عن احد شيئين: محادثة او قصص. ومقاضاة او محاجّة. ويرى روري ان الروائي "يستعيض عن التمييز الفلسفي بين الظواهر والواقع باستعراض وجهات النظر المتنوعة وتعدد وجوه الكلام الممكنة على حادثة معينة". وفي باب التأويل يستشهد رورتي بقول غاداهار في كتابه "الحقيقة والطريقة"، بأن التأويل ليس طريقة لبلوغ الحقيقة، على الطريقة الفلسفية القديمة، "لأن ظاهرة التأويل ليست اساساً مسألة اسلوب وحسب... وليست منهجية للعلوم الانسانية، بل محاولة لفهم حقيقة العلوم الانسانية وصلتها بمجموعة تجاربنا للعالم". ويضيف هنا الى اسم غادامار اسماء عدد كبير من الفلاسفة "الثوار" الذين خرجوا على التقليد القديم، امثال نيتشه ووليم جيمس وهايدغر وسارتر وفيدكشتاين، الذي انكروا، كما يقول، مفهوم الماهية واليقين بالكلية، واكتفوا بالنظر الى الفلسفة كجهد مستمر للتعبير عن تجاربهم الفلسفية والعلمية على شكل آخر، في اطار زمني وحضاري معيّن. فهؤلاء الفلاسفة، كما يقول "يتفاعلون مع الآراء والمفاهيم السائدة في زمانهم ولا يستحدثون شيئاً". فهدف الفلسفة بحسب هذه النظرة التأويلية المعاصرة التثقيف او التأديب، كما يقول غادامار او "مواصلة الحديث" كما يقول روري، لاكتشاف الحقيقة القاطعة لأن فكرة الحقيقة القاطعة عندهم فكرة متناقضة. ومعنى "مواصلة الحديث" عند رورتي، هو القدرة على النظر الى البشر كمنتجين لأوصاف جديدة، لا ككائنات يمكن وصفها بدقة... والسؤال دوماً هو واحد، اي تأدية دور اجتماعي، دعاه ديوي كسر طوق العرف ومنع الانسان من خداع نفسه او الذهاب الى انه يعرف نفسه او اي شيء آخر خارج اطار اوصاف او احوال مختارة، اي بصورة محدودة ونسبية وبناء على مقولاته ومقاييسه هو. * مفكر وجامعي لبناني مقيم في واشنطن.