كان عليّ أن أقيس زمن مللي ويأسي بمسافات مقطوعة تحجزها جدران شقتي عن الاسترسال. كأن تجوالي البيتي يمثل طقساً فريداً منسياً لديانة لم أعرف متنها الأصلي، لكنني لا أستطيع للطقس دفعاً. خطوات محسوسة حثيثة تذرع البلاط والباركيه والسجاجيد مئات المرات، لتحصد في النهاية خيالاً سميناً معلوفاً بتبن الجنون، تخيلتُ لو أن المسافات المتقطعة المكبوتة بصد الجدران، قدر لها ومدت على استقامتها عبر طريق طويل، لكان شعوري بالاطمئنان أفضل مما هو عليه الآن. كان الطريق في حلم يقظتي الأبدي يأتي اليه ممدوداً في صباح شتوي باكر، تزينه من الجانبين أشجار سامقة، مستقيمة الجذوع، وثمة ضباب خفيف يُنعِّم الرؤية. أرض الطريق الترابية المدكوكة، ندية ومقوسة قليلاً الى الداخل، لتحتمل شخصاً واحداً في بطن القوس يمشي بارتياح. لم أكن هذا الشخص، إلا أن دوري سيأتي بعد وقت غير معلوم. وما عليّ الآن سوى الانتظار. كان الانتظار لا يزعجني، فهو يتيح لي التفكير في كيفية السير. التمهل أم السرعة؟ ان حقي أن أصبغ سيري بصبغة الأداء والأسلوب؟ كأن ألمس بأطراف أصابعي جذوع الأشجار؟ أم أكتفي بالسير المنزه عن الأداء والأسلوب؟ فلا شك أن سير الطريق كاف لنبذ كل الأساليب. كنتُ بعد لحظات من تخيل نفسي أسير في الطريق، من دون أن إعلم هل طالت تلك اللحظات أم قصرت، وكيف تم الانتقال، أجد نفسي في وضع من يتأمل طريقاً شاغراً مقفراً من مكان مرتفع. الغريب أن التأمل غير مرهون بسير أو انتظار هذه المرة. المكان المرتفع أشبه بكافيتريا تبث بحياء أصواتاً رقيقة تتفتح أحاديثها وتشتد مع القهوة الصباحية والمخبوزات الخفيفة. كانت أدنى محاولة مني للفت نظر الزبائن المشغولين بفطورهم وقهوتهم، كافية لضياع الطريق. أنا في الحقيقة لم أكن مهتماً برؤيتهم له، وان كنت مهتماً بالحديث اليهم عند بعد زواله، لهذا كتمتُ فرحتي بجماله، على أن أعيد هذا الجمال مرة أخرى. أخذتُ أفكر في أشكال الاعادة اللانهائية، وعرفت ليس دونما خيبة أمل، وانطفاء فاتر في الهمة، ان تحديدات الخيال بعد نقطة الانطلاق البسيطة، تكتسب شيئاً فشيئاً صلابة التحديات الواقعية، وقد تفوقها تعقيداً، بل تتنكر تحديات الخيال عندما يشتد عودها، من نقطة انطلاقها اليسيرة. ها هو حلم اليقظة بطريق واحد، يتفرع الى طريقين يفضي أحدهما الى الآخر. بدهشة وجدتُ نفسي أفضلُ الطريق الشاعر المقفر، وأفضّل الحديث عنه من أعلى الكافيتريا. * كاتب مصري.