¿¿ نقلتني طريق عقبة الباحة إلى قرية ذي عين.. بمحافظة المخواة التهامية.. مكانها أسفل العقبة.. أشبه بموقع لحراسة حدود التقاء سهول تهامة مع قاعدة الجبال السراة الشاهقة.. شعرت بحرارة الجو.. قادم من قمّة الجبال بمناخ مختلف.. استرسلت في التفكير والتأمل.. كنتيجة تجاوزت مفرق القرية.. هل كان خطأي أم خطأ تصميم الطريق؟! ¿¿ رجعت أدراجي.. وصلت مفرق طريق القرية.. بعد خروجي من القرية لاحظت أن مفرق طريق القرية أكثر خطورة.. يقع بجانب ارتفاع.. يحجز الرؤية الواسعة على يمين وشمال الطريق الرئيسي إلى المخواة.. انحناء الطريق يزيد من الصعوبة. ¿¿ عبرت نحو القرية.. تعتلي رأس هضبة تجسد شموخ أهلها المؤسسين.. تشرف على بداية امتداد سهولة تهامة العظيمة نحو البحر الأحمر.. خلفها سفوح الجبال العاتية.. اختيار الموقع ينبئ بحس أمني.. تحقق في اختيار المكان. ¿¿ وصلت بوابة لا تسمح بالعبور إلى القرية.. ظهر لي شاب سعودي.. وضّح أن قيمة تذكرة دخولها (10) ريالات للفرد.. سألته: هل للسيارة تذكرة؟! تبسم الوجه الطري.. أكد مجانية دخولها.. دفعت.. واصلت السير.. وجدت مواقف حديثة تنتظر.. كانت مساحات لزراعة الحنطة السمراء.. أوقفت السيارة.. نزلت على أرض القرية.. استودعت الله سيارتي من القرود.. مشيت عبر طريق مرصوص بالحجر.. استقبلتنا جدران بنائها من الأحجار الحنطية السمراء.. كنت سألت بائع التذاكر.. هل البيوت مسكونة؟ أجاب بالنفي. ¿¿ مشيت عبر طريق مشاة أسفل القرية غير مظلل.. الوقت كان ظهرا.. الشمس تقدح بفوح حرارتها.. ماذا يمكن لي أن أشاهد وأواجه؟! تجرأت كجزء من سياحتي.. سألت رقيب العائلة الوحيدة التي قابلت.. هل أستمر في المشي أم أتراجع؟.. فهم الرسالة.. نصح بالاستمرار.. تعاطف معي.. تشجع.. أشار بالمشي حتى الوصول إلى شلال ماء.. لا بد أن كبير العائلة كان بشوق لحديث يقطع جدار الصمت يلف المكان. ¿¿ وصلت شلال الماء.. لوحة هادئة.. ماء يمشي ويسقط على استحياء.. تبدو عليه علامات فقر التغذية.. ماء ينساب في منحدر مكون من صخور متداخلة.. يحضنها جذور وجذع شجرة عملاقة.. تعطي ظلا مريحا للماء والمكان وللزائرين.. ينساب الماء في فلج ضيق العرض.. بدلالات علمية التقطت تفسيرها.. مصب الماء أشبه بشلال صنعته أيدي ماهرة.. في علو لا يزيد عن قامة رجل متوسط القامة.. لكن لخرير الماء فعله في عالم الجفاف والتصحر. ¿¿ ينساب الماء بصفاء وهدوء.. دون اكتراث لوجودي.. عبر فلج ترابي إلى نهاية لم أشاهدها.. لم يثر اهتمامي معرفة منبعه ومصبّه.. صوّرت المكان.. التقطت صورا مع الماء تكريما وعرفانا بفضله.. شهادة على أهميته.. سجلت صور الشجرة الكبيرة الواسعة بفروعها المتعافية التي تحضن الصخور والماء والتراب.. يروي عطشها الماء ثمنا لحراستها.. أيضا حمايته من البخر بظلالها الواسعة.. تبادل المنافع في البيئة جزء من توازن لا يخل به الا تدخل الانسان الغشيم والغاشم. ¿¿ عطيت نفسي مساحة من التفكير.. استدعيت علمي.. وملاحظاتي.. وتحليلاتي.. لاستنتاج سبب وجود عين الماء الجارية.. وصلت إلى نتيجة عبقرية.. اعتبرتها كشفا جديدا في تاريخ اهتمامي.. سأعلنها في حينه.. ثم أبحرت بعد رسم نظريتي بالخيال في رحلة عبر سنين مضت.. أتساءل.. من غرس هذه الشجرة وتلك؟! من رسم طريق فلج الماء؟! ¿¿ ذهبت يد الغارس.. بقي خياله رواية مستمرة.. هل كان يتخيل مستقبلها؟! أعتقد بذلك.. كل شيء يعزز الاعتقاد.. كبرت الأشجار.. أصبحت حارسة على الماء والمكان.. لا شيء حولها.. غير ظل فروعها.. وبعض الحجارة المنتصبة شاهدة على الجحود والنكران.. لكنها اغرتني بالجلوس.. نال منّي حديث الحجارة الصامت معي.. ترى تراكم السنين في جذوع الأشجار في المكان.. كأنها كتب تاريخ تبحث عن قرّاء.. لا تتسول العطف.. لكنها منتصبة بكبرياء فطري.. تطلب الطاقة من الشمس.. واستمرار الحياة من خالقها. ¿¿ يأتي اليك صوت خرير الماء بكل حزنه وكآبته.. يذكر بهدوء المكان في غياب أهله.. كأنه يحتج في صمت.. تستشعر لومه وشكواه.. هدوء وصمت انسيابه المقهور على الأرض يشكو واقع الحال.. كأنه ينشر عرائض الشكوى من الهجران مع كل قطراته.. يشكو الوحدة وقسوتها.. تركوه ومضوا.. أي غلظة يحمل الإنسان؟! ما الذي حمل إنسان القرية على المغادرة؟! أي قوة وظرف أجبرتهم على التخلي عن ارثهم وتاريخهم في هذه البقعة من الأرض؟! ¿¿ تضيع الأشياء وتاريخها وهويتها وأهميتها.. تأثيرها يتلاشى في رؤية المستقبل.. تفقد قيمتها وشأنها عندما تأتي أجيال.. تقيسها فقط بمعيار المال والمصالح الشخصية.. عندها تبدأ رحلة الضياع.