ولد محمد بن محمد بن حامد بن ألُه، المعروف بعماد الدين الأصفهاني والعماد الكاتب سنة 519ه/ 1125م. عصر شهد فيه العالم الإسلامي تراجعاً كبيراً في نفوذ الدولة المركزية وتصاعداً للدولة الإقليمية التي يسيطر عليها قائد عسكري متغلّب، وشهدت ساحاته المختلفة صراعاً فكرياً وسياسياً وهجمة خارجية شرسة بالإضافة الى احباطات تساقط امارات الأندلس وجزر البحر الأبيض المتوسط تباعاً، وتداعياتها في استنهاض الغرب وكبوة الشرق. زمن لم يعد فيه للخلافة العباسية ببغداد سوى حضور رمزي روحي يضفي شرعية إسلامية على السلاطين المتغلبين. وخاض قادته العسكريون الطامعون في مجد تليد، صراعاً دموياً داخل الاقليم الواحد، وأحياناً داخل البيت الحاكم الواحد، للاستيلاء على كرسي الحكم، أو للحفاظ عليها. وشهد تبدلاً سريعاً في المواقف والولاءات تبعاً للمصالح الشخصية واقتناص الفرص. وشهد هجمة الفرنجة الطامعين ببلاد الشرق، والتي أطلق عليها أصحابها الحروب الصليبية، تغليفاً لدنياهم بستار رقيق من الدين تمثل في ادعائهم تحرير الأماكن المقدسة من سلطان المسلمين، وفي رسم شعار الصليب على ملابسهم وأدواتهم القتالية. وهي حرب سقط الساحل الشامي كله أمام ضرباتها المتلاحقة، وسط الانقسام السياسي الداخلي ما بين العباسيين والفاطميين. وكانت خسارة القدس الشريف أكثر الخسائر ايلاماً، كيف لا والقدس محطة الإسراء، ومنطلق المعراج، وقِبلة الصلاة الأولى، وثالث المساجد التي تشد اليها الرحال؟ وهو عصر خاض فيه العلماء والفقهاء جدلاً صاخباً حول عقائد وفقه الفرق والمذاهب الإسلامية، وحاول فيه الأشاعرة فرض أنفسهم في مواجهة التوسع الفاطمي الإسماعيلي. وفي زمن الاحباط والقلاقل يكثر الجدل والتلاوم، وتبرز التيارات المتنافسة في كل ميدان من ميادين الحياة. وهو أمر له من الإيجابيات بمقدار ما فيه من الثغرات. فالتحدي بخسارة البلاد والهوية يجمع الصف بعد فرقة، ويشد الأزر بعد التراخي. والطموح يفتح حياة الأفراد والجماعات على كل الاحتمالات، ويكسر طوق الجمود، ويشبه في حده الأدنى الحجر الذي يرمى به فيحرك وجه الماء الراكد. ولكنه في المقابل يعرض كلاً من الهرمين الاجتماعي والسياسي الى تطورات ومفاجآت غير متوقعة تؤثر على بنيتها الفكرية وأدائها الحضاري. ومن تداعيات الإحباط الذي أحاط بالأمة تفجُّر طاقات الأفراد وجماعات المجتمع المدني الإسلامي، فقد استعادات المؤسسة الدينية متمثلة بالعلماء والقضاة وطلاب العلم دورها الريادي وعملت على التعبئة الروحية والتأليف والتدريس والخطابة لبث روح الجهاد واحياء معاني الوحدة الإسلامية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما كان له أكبر الأثر في بروز القيادات الجماهيرية الشابة كنورالدين زنكي ثم صلاح الدين الأيوبي، وقد قامت دولتاهما على أكتاف عدد من القادة العلماء والكتّاب والقضاة الذين لم يكتفوا بنقد التفكك والضعف والزحف الغربي الصليبي وإنما بادروا بالعمل - كلُّ من جانبه وعلى الثغرة التي يقف عليها - في المواجهة الفكرية والجهادية على حد سواء. ولقد تعانق السيف والقلم في معركة المواجهة والتحدي والمصير. وعلى الرغم من صعوبات العصر التي ذكرنا جزءاً منها فقد كان عصراً حافظ فيه العالم الإسلامي على مركزية العلم، وشهد نشاطاً ملحوظاًَ في بناء المدارس والانفاق عليها. ويعود للوقف الخيري التعليمي فضل ذلك، إذ حررت الأحباس والأوقاف الخيرية، العملية التعليمية من الخضوع لظروف السلطة والمجتمع على حد سواء كما وفرت فرصة التحصيل لكل انسان بعدما أسقطت حاجز هم المعيشة من الحسبان، فالفقير كالغني، يمكنه التفرغ للتحصيل بعدما أمده الوقف باحتياجاته الأساسية من النفقة على نفسه وعلى أسرته. وكانت الرحلة في طلب العلم - وتعني انتقال الطالب من بلده الى حيث يقيم العلماء الأعلام ليتلقى عليهم العلوم المختلفة - من أهم روافد المعرفة، وآليات تفاعل أبناء الأمة مع قضاياها وهمومها وآمالها، إذ تفتحَ عقلَ الطالبِ وأفقه على عالم أرحب وأوسع من بيئته المحلية، وتمد مداركه على امتداد العالم الإسلامي ورحابته. وفي الاحتكاك بالمجتمعات والبيئات المختلفة اطلاع على تجارب غنية، وأنماط من الحياة متنوعة، لا بد أنها تؤدي الى تفاعل حقيقي بين قوى التأثير والتوجيه، وهي يومها العلماء والمؤسسات التعليمية. في هذه البيئة نشأ العماد الأصفهاني وترعرع. من أصفهان الى بغداد ولد العماد الأصفهاني وتلقى مبادىء العلوم بأصفهان، في كنف أبيه محمد صفي الدين الفارسي الأصل. في الثالثة عشرة أخذه والده وأخاه الأصغر حامد الى قاشان، وعهد بهما الى أحد أصدقائه ومضى هو مع السلطان داود الى الريّ. وفي قاشان تردد العماد وأخوه الى المدرسة المجدية، فقرأ القرآن الكريم وجمعه عن ظهر قلب، ثم عاد مع أبيه وأخيه الى أصفهان في أوائل 534ه/ 1139م لتقصد الأسرة كلها بغداد في العام نفسه وقد بلغ صاحبنا الخامسة عشرة، والتحق هناك بالمدرسة النظامية، أشهر مدارس العصر، حيث سمع الحديث وأتقن الخلاف والأدب وتفقه على مذهب الشافعي على يد علماء عصره من مدرّسي النظامية. كما درس خلال نفس الفترة في المدرسة الثقتية لمدة ثلاث سنوات. ثم زار الموصل بعد تسع سنوات 543ه/ 1148م ولقي هناك كل تكريم من وزير الزنكيين فيها جمال الدين الجواد، ولم تطل اقامته بها فقد عاد الى بغداد لمتابعة دراسته. وتعرف العماد على الخُجًنْدي أحد أشهر علماء عصره، ورافقه في رحلة العودة الى أصفهان في العام 543ه/ 1148م. وهناك أخذ عنه أشهر علماء أصفهان وأدبائها، وجمع مواد خريدة القصر ونصرة الفطرة ونظم بعض قصائده. وحج مع الخجندي سنة 548ه/ 1153م وعاد من الحج الى بهمذان، ثم الى أصفهان التي ما لبث أن خرج منها الى بغداد مع أبيه على نية توطنها سنة 551ه/ 1156م وانصرف هذه المرة انصرافاً تاماً الى الأدب، وبرع في الشعر، وتابع دراسته وجمع مواد بعض كتبه، وذلك في عهد المقتفي لأمر الله. والعماد ينتمي الى أسرة عمل رجالاتها في سلك الإدارة، واقتربوا بذلك من مواقع القرار، فقد كان عمه العزيز، أبو النصر، أحمد بن حامد، ت 526ه/ 1133م، متولياً مستوفياً خزانة السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه، وكان أخوه تاج الدين رسول الخليفة العباسي الناصر لدين الله الى صلاح الدين سنة 583ه/ 1187م بعد فتح القدس الشريف، جاءه وهو يحاصر صور وكانت تحت الاحتلال الصليبي. نار السلطة فتحت دراسة العماد الأصفهاني بالنظامية واتصاله بعلمائها المشهورين المقدمين، ونشاطه العلمي أبواب العلاقة بأهل السلطة، فاتصل بوزير الخليفة المقتفي العباسي، يحيى بن هبيرة ت 56ه/ 1165م وكان عالماً بالفقه والأدب، يحب العلماء ويكرمهم. فولاه نيابة واسط سنة 554ه/ 1159م، والبصرة سنة 557ه/ 1161م. ولكن الحياة لا تصفو لأحد، والارتباط بالسلطان قلما يخلو من خطورة، فما أن توفي الوزير ابن هبيرة حتى أمر الخليفة العباسي الجديد المستنجد بالله باعتقال جماعة من أصحابه، وكان العماد في جملتهم، واستشفع الخليفة فأمر بإطلاقه. وبهذا يكون العماد قد ذاق النعمة والنقمة، وزادت تجربته، واختبر البشر، وعرف معنى السعادة والسلطة، كما عرف معنى الشقاوة والظلم. نجم يتألق دفعت التجربة المريرة مع السلطة، العماد، الى الانقطاع الى مجالس العلم والفقه، وقدح ذهنه ولسانه وقلمه بالمناظرة والكتابة. وتاقت نفسه الى دمشق بعدما سمع وصفها وحسن رياضها، وما يذكر عن جهاد سلطانها نورالدين زنكي وعدله، وشجعه على ذلك حالته النفسية والاجتماعية بعدما حل به، والناس هم الناس، يقتربون من المرتقي في درجات المال والسلطة ويتجنبون الذي جارت عليه الأيام وفقد قوته وسلطانه. وشدّ العماد رحاله الى دمشق في شعبان 562ه/ 1166م. وهناك اتصل بالقاضي كمال الدين" محمد بن الشهرزوري الذي أنزله في المدرسة النورية، وتوثقت الصلة بينهما، فكان القاضي يحضر مجالسه ويذاكره في المسائل الفقهية وخلاف الفقهاء في الفروع. ولا نشك في أن هذه العلاقة بين العماد والقاضي كمال الدين أعادت له الثقة بنفسه بعدما فت في عضده ما حدث له من الحبس في سجن الخليفة المستنجد بعد توليه نيابة البصرة وواسط للوزير ابن هبيرة. ومثل هذه العلاقة الجديدة كانت كفيلة بتشجيعه للعودة الى سلك الإدارة والعمل في الدواوين وهو الذي تبرم من التفويض بالإشراف على الديوان فقال "فتضجرت في نفسي، وعدمت أنسي. وقلت: ما أصعب هذه الخدمة، وما أصعب هذه الغمة". ومن الملاحظ ان نورالدين كان يقرب العلماء منه ويعتمد عليهم في أعمال دولته، والعماد كان أحد هؤلاء الذين اجتهدوا على أنفسهم في التلقي والتلقين، والمناظرة والتأليف، فلم لا يأخذ حظه الى جانب رجالات الشام، وحاجة الأمة ملحة لأهل الكفاءة، ويكون الرجل المناسب في المكان المناسب؟ وفي دمشق الشام التقى بنجم الدين أيوب، والد صلاح الدين، فتجددت بينهما أواصر الود، ولنجم الدين معرفة سابقة بالعزيز عم العماد منذ أيام قلعة تكريت، فبكر الى الضيف نزيل دمشق وبجلّه وأحسن اليه، وميزه عن سواه من أهل العلم. وبذلك تمهدت له الطريق الى الناصر صلاح الدين إذ خصه بقصيدة من الشعر يمدح فيه جهاده ودفاعه عن الإسلام في وجه الفرنجة، وكانت الأبيات فاتحة علاقة توثقت في ما بعد إذ أقره الناصر في ديوان الإنشاء بتزكية من القاضي الفاضل صاحب الحظوة لديه. ولما استعفى أبو اليسر كاتب انشاء نورالدين، ولم يكن ولداه على ما يرضي السلطان، حانت الفرصة للعماد، إذ عمل لنورالدين أوائل سنة 563ه/ 1167م. ويصف العماد تردده خوفاً من التقصير فيقول: "وكنت أظن أن صناعة الكتابة" لا سيما الإنشاء" صعب، حتى قرأت كتب الأمصار والمراسلات الواصلة من سائر الأقطار فوجدتها في غاية من الركة، ويا ليتها كانت بعبارات معسولة. فتجرأت على الكتابة، وغيرت تلك الأوضاع الوضيعة، واخترعت أسلوباً ما عرفوه، وألفت مصنوعاً مطبوعاً ما ألِفوه، ووفيت بالبلاغتين، ونفيت الغش عن الصياغتين. وكتبت الى الأعاجم"، الى أن يقول "حتى جرى بسكوني وسكوتي قلمي، وعلا بمنار علمي علمي، ورجعوا إليّ واجتمعوا عليّ". إذاً لم تذهب سنوات التفرغ للدراسة سدى، ولم تذهب سنوات القهر بعد مرحلة وزارة ابن هبيرة هباءً، وكانت للدراسة والمناظرة وصياغة الشعر، والترحل والانتقال، فائدة كبيرة في تطوير استعدادته في استخدام الكلمة ونجاحه في صياغة المراسلات الرسمية. ومن الواضح ان الثقة بين السلطان نورالدين وكاتب الإنشاء العماد الأصفهاني قد توثقت، فكان سفيره الى ملك أرمينيا سنة 565ه/ 1169م، وحامل رسالته الى بغداد سنة 566ه/ 1170، ثم عهد اليه ادارة المدرسة النورية سنة 567ه/ 1171م بعد وفاة شيخها ابن عبيد الدمشقي، ثم فوض اليه في سنة 568ه/ 1172 م ديوانه بالإضافة الى ديوان الإنشاء ليصبح بحق مشرفاً على الدولة الزنكية والحافظ لأسرار سلطانها. ووصف العماد سياسته في الاعتماد على نفسه للقيام بالمهمة الثقيلة التي أوكلت اليه فيقول: "فجمعت بين المنصبين، وقسمت زماني على النصيبين، فمرة للكتب والمناشير، وتارة للإثبات في الدساتير. ولم أثق بنايب، وباشرت العمل بنفسي" الى أن يقول "فما زلت أرد طباعهم، وأصد أطماعهم حتى قويت على العمل، ورويت من عله النهل". وفي نفس السنة 567ه/ 1172م كلّف السلطان الزنكي العماد أن ينوب عن ابن القيسراني، في رئاسة ديوان الاستيفاء. وبذلك يكون العماد بعدما اكتهل وشارف على الخمسين قد جمع في وقت واحد بين ثلاث مهمات خطيرة الشأن: الإنشاء والإشراف والاستيفاء. وفي ذلك قال: "فجمعت بين الإنشاء والإشراف والاستيفاء. ووجدت الخدم الثلاث بكفالتي الوفاء". فأية مسؤولية هذه وأية أمانة يحملها على عاتقه، لولا كفاءته الشخصية وإخلاصه في خدمة السلطان؟ في خدمة صلاح الدين دارت الأيام دورتها وتوفي نورالدين في شوال 569ه/ 1173م، وبويع لولده اسماعيل بدمشق وهو ابن احدى عشرة سنة. فقام بأمور دولته الأمير شمس الدين" محمد بن عبدالملك" المشهور بابن المقدم. وترصد ابن العجمي الذي ارتفع نجمه، وكان يحقد على العماد رتبته ومكانته وما وصل اليه، وصار يكيد له حتى جرّده من صلاحياته واستعدى مَنْ تحت يده عليه، ولم يعد للعماد سوى تنفيذ ما يطلب منه بعدما كان مطلق اليد نافذ الكلمة في زمن نورالدين، وهو ابتلاء لا يعرف ثقله سوى الذي ذاقه. ويظهر ان حراجة الموقف السياسي والأمني، والخوف على البلاد من العدو الخارجي الصليبي، وتجربة العمل الغنية في الديوان ومعرفة معادن الرجال ودوران الأيام، والأمل السائد بوصول صلاح الدين، دفعا العماد الى المسايرة، والعمل بمقتضى الحال، من دون اثارة شبهة التمرد أو العصيان حتى أنه انتقل مع انتقال الديوان من دمشق الى حلب، وأقام في دار محيي الدين الشهرزوري صاحبه الذي أكرم وفادته يوم وصوله الى دمشق. وحدثته نفسه بالعودة الى بغداد، بعيداً عن جو الاضطرابات والمؤامرات والتنازلات العسكرية والسياسية التي فرضها وضع الصالح اسماعيل والمحيطين به تجاه الغزو الصليبي، غير ان الأخبار القادمة عن قرب حضور صلاح الدين الأيوبي من مصر الى الشام جعلته يتجه مرة أخرى الى دمشق التي عرف فيها أيام رخاء ونفوذ في عهد الراحل نورالدين زنكي. وهكذا كان. فقد استولى الإفرنج على قلعة بانياس، وكانت من أعمال دمشق، فصالحهم الأمير شمس الدين وزير الملك الصالح اسماعيل، على مال يؤديه اليهم، فاستنكر صلاح الدين ذلك. ولما تفاقم الأمر وخشي العقلاء على أوضاع البلاد من الفوضى والسقوط بيد العدو، كتب شمس الدين ورؤساء دمشق الى صلاح الدين يستدعونه، فأقبل عليهم، ودخل دمشق سنة 570ه/ 1174م معلناً ابقاء الدعاء فيها للصالح اسماعيل الذي امتنع عليه في حلب وقاتله، ثم صالحه على أن يبقى فيها. واستمر الصالح حاكماً لحلب الى أن توفي شاباً، ولكن الأمر كان في واقع الحال لصلاح الدين وقد دانت له البلاد من آخر حدود النوبة جنوباً، وبرقة غرباً، الى بلاد الأرمن شمالاً، وبلاد الجزيرة والموصل شرقاً. وبدأت الشام صفحة جديدة تحت لواء الدولة الأيوبية الفتية، وسلطانها الملك الناصر الذي عمل بنصيحة القاضي الفاضل في الاعتماد على العلماء العاملين في دواوين الدولة ومدارسها، فقد آمن إيماناً قاطعاً بالتزام مسار السيف والقلم، وأن لا قوة لسيف لا عقيدة ولا فكر من ورائه. ووافى العمادُ السلطان الى حمص ليهنئه بفتحها في شعبان 570ه/ شباط 1175م ومدحه بقصيدة طويلة، ولازمه حتى عينه كاتباً لديه. ولم ينجح حسّاد العماد في تغيير قلب السلطان عليه على الرغم من الجهود التي بذلوها. ثم سعى نجم الدين محمد بن مصال لدى القاضي الفاضل لاتخاذ العماد نائباً عن القاضي الفاضل وتم له ذلك في سنة 570ه بعدما بيّن القاضي الفاضل للسلطان ثقته بكفاءة العماد وحاجة الدولة الى شخصية ادارية قيادية مثله، لا سيما والقاضي الفاضل لن يكون بإمكانه ملازمة السلطان في كل مكان ووقت لانشغاله بتصريف الأمور ومتابعة الدواوين، والعماد يتقن العربية والفارسية، وهو متمرس بديوان الإنشاء. فوافقت شفاعة القاضي الفاضل ما بنفس الناصر من تقدير العماد ومعرفته لكفاءته مذ كانا في خدمة السلطان نورالدين زنكي. وهكذا تربع العماد مرة أخرى على قمة الإدارة في الشام. وحفظ للقاضي الفاضل موقفه فأخلص له وعمل بسياسته ونجح هذا الثنائي في تكوين فريق عمل واحد متجانس، حتى أضحت الإدارة الأيوبية ادارة برأس واحد لا رأسين، وكفى بذلك نجاحاً. ولازم العماد الأصفهاني السلطان كظلّه، ولم يتخلّف عن شهود معاركه كلها إلا ثلاثاً: وقعة الرملة سنة 573ه/ 1177م، وفتح عسقلان، ومحاصرة القدس الشريف سنة 583ه/ 1187م. ووثق به السلطان فصار من خاصته، يصرف الأمور، ويقسم الأموال، ويقضي حوائج المراجعين، حريصاً على تنفيذ سياسة السلطان في انفاذ الحقوق لأهلها واكرام العلماء والمجاهدين، أميناً فيما تحت يده من الأسرار والأموال السلطانية. العماد والفاضل يقول محمود محمد صبح في مقدمة تحقيقه لكتاب "الفتح القُسّي في الفتح القدسي" للعماد الأصفهاني: "رجال ثلاثة كانوا دعامة الحكم في عهد صلاح الدين، وموضع ثقته البالغة، أولئك هم: القاضي الفاضل، والعماد الكاتب، وبهاء الدين بن شداد". وصف العماد القاضي الفاضل بقوله "رب القلم والبيان، واللسن واللسان"، و"ذو الجلالة والفضل، والنباهة والنبل"، و"رب الفضائل والفواضل". ورد القاضي الفاضل التحية بأحسن منها فقال: "العماد الكاتب كالزناد الوقّاد". ويكاد أسلوبهما في الكتابة والإدارة ومعالجة الأزمات يتقارب الى درجة التطابق. ويروى أنهما التقيا يوماً والفاضل على فرس فقال له العماد: "سر فلا كبا بكا الفرس"، فأجابه الفاضل: "دام علا العماد". والطريف في ذلك أن ما قالاه ضرب من البديع يسمى القلب، وهو مما يقرأ صحيحاً ومقلوباً سواء بسواء، جرى على لسان كل منهما بداهة من دون تصنع. وخص العمادُ الفاضلَ في عدة مواضع من كتابه "الفتح القُسي في الفتح القدسي" وهو تأريخ لما قام به السلطان الناصر صلاح الدين بين استعادة القدس الشريف في سنة 583ه/ 1187م وحتى سنة وفاته 589ه/ 1193م، وما تبع الوفاة من أحداث. وكانت سنوات حافلة بجهاد السلطان ودفعه العدوان الصليبي عن بلاد المسلمين. والعمل الدؤوب على اصلاح الإدارة، وتحقيق الوحدة السياسية للأمة بعدما مزقتها الطائفية ومطامع صغار الأمراء، ومؤامرات الوزراء، وتحاسد الأقران، كما مر معنا آنفاً. يقول في حق القاضي الفاضل: "فإنه طالما اجتلى سنا السعادة من مطالعه، واجتبى جنى الإرادة من صنائعه، وافتتح الأقاليم بمفاتح أقلامه، وأحكم المملكة بثبوت أحكامه. ووافاه بأمداد السؤدد الوافي سواد مداده". وجميعنا يذكر كلمة السلطان صلاح الدين في المقارنة بين قلم الفاضل وسيوف القادة العسكريين. العماد والفصل الأخير توفي السلطان صلاح الدين، فأفل نجم العماد، وكان قد بلغ السبعين من عمر قضاه في حلقات العلم وأروقة السياسة وساحات القتال، وتردت فيها منزلته من أعلى القمة الى قاع السجن، وذاق حلاوة الحياة ومرارتها، وعرف النصر والهزيمة، واكتوى بنار المؤامرات كما نعم بدفء الإخوّة وشمس الوفاء. ولم يلقَ من أبناء السلطان ما كان له من حظوة لدى والدهم، وقديماً قيل: لكل زمان دولة ورجال. ويقول العماد واصفاً ذلك بحس الشاعر أكثر منه بكلام الإداري: "ولما نقله الله الكريم الى جناب جناته واقتسم أولاده ممالكه، قلت: يسلكون مسالكه، وينسكون مناسكه، وانهم يعرفون مقداري، ويرفعون مناري، ويشرحون صدري، ولا يضعون قدري. فأخلف الظن حتى قطعوا رسومي، ومنعوا مرسومي، وغوروا منابعي، وكدروا مشاعري". فلزم بيته وانصرف الى العلم والتأليف حتى غبطه القاضي الفاضل على إشغاله نفسَه بالتأليف وبعث له رسالة بهذا المعنى، يشكو فيها الوحشة التي يمر بها بعدما اعتزل العمل إثر وفاة السلطان الناصر يقول فيها: "وأنا على ما يعلمه المولى من العزلة إلا أنها بلا سكون، وفي الزاوية المسنونة لأهل العافية إلا أني على مثل حد المنون، وكيف يعيش العاقل في الزمان المجنون؟ ونحن على انتظار البرق الشامي أن يمطر، وحاشا ذمة الوعد به أن تخفر. واشتغال سيدنا" في هذا الوقت" بالدرس والتدريس والتصوير والتكييف، والتصانيف التي تصرف فيها بالبلاغة أحسن التصاريف، نعمة يتعين شكرها على العلماء، ويختص باللذة بها سادتهم من الفقهاء. وتشير بعض روايات التاريخ الى مهمات متقطعة قام بها العماد لبعض ملوك بني أيوب، ولكنها لم تلامس ما كان يصبو اليه من الإعزاز الذي توقعه وقد ذهب ريحه وانفض من كان يحيط به من الخاصة والعامة، وفي ذلك قال لبعض عوّاده: أنا ضيف بربعكم أين أين المضيفُ؟ أنكرتني معارفي مات من كنت أعرفُ وكانت نهاية مطاف العماد الأصفهاني مستهل شهر رمضان 597ه/ حزيران 1201م في مقابر الصوفية بدمشق، وكانوا أول من رحب به يوم قدمها من بغداد مكسور الخاطر باحثاً عن موطن آمن بعدما ذاق من مر السجن ما زهّده بالأعمال السلطانية. وكان القاضي الفاضل قد سبقه الى الدار الآخرة في العام المنصرم. ثروة العماد العلمية لم يكتفِ العماد الأصفهاني بالمكانة الإدارية التي حظي بها لدى سلاطين زمانه، ولا بالدور الرائد الذي قام به بالتعاون مع القاضي الفاضل في التمكين للناصر صلاح الدين على مستوى الإصلاح الإداري والمالي، والدعاية والإعلان، والجهاد بالقلم والسنان، وإنما أبقى حبله بالعلم والعلماء موصولاً غير منقطع، وجمعع مادة كتبه خلال فترة حياته الطويلة الحافلة بالأحداث، وترك لنا ثروة من الكتب منها المطبوع والمخطوط والمفقود، فاقت على الخمسة والأربعين مجلداً في التاريخ والأدب والتراجم. * كاتب وأكاديمي لبناني.