تجمعني صداقة بالعالم الجليل، الأخ العزيز، الأستاذ الدكتور عبدالملك مرتاض، الرئيس السابق للمجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر، منذ مقالته التي نشرها في جريدة الرياض الغراء، في العدد 13443 الصادر في يوم الخميس (5) ربيع الأول، سنة 1426ه، بعد قراءته كتابي (ما هكذا يُكتب الشعر) الجزء الأول، تلك المقالة القيمة، التي جاء فيها: «وهذا علاّمة الطائف، وأكاد أقول - علاّمة المملكة، العروضي الكبير، الأستاذ علي بن حسن العبَّادي، يرمي الشعراء بكتاب، لم يقرؤوا له مثيلاً، ولم يجدوا له صنْواً بديلاً، وهو «ما هكذا يكتب الشعر».. ثم يقول في موضع آخر، في سياق حديثه عن لغة الكتابة:- «وأنا أتحدث عن لغة العبَّادي، التي هي لغة موثوقة، لا يأتيها، أو لا يكاد يأتيها الخطأ من بين يديها، ولا من خلفها، لأن صاحبها حفّاظة للنصوص من وجهة، ولأنه حريص على تحقيق ألفاظها قبل الاستعمال، غير مجتزئ فيها بما يدور في سوق العصر من وجهة أخرى». وتوثقت هذه الصداقة بيني وبين الأستاذ الدكتور عبدالملك مرتاض (أطال الله بقاءه)، وأدعه يتحدث عن هذه الصداقة، فيقول في مقدمته لكتابي الجزء الثاني من (ما هكذا يُكتب الشعر):- وإذْ كتبتُ ما كتبت عن هذا الكتاب، منذ زهاء خمس سنوات، لم أكن أتصوّر أن العلاقة العلمية، ستتوثق بيني وبين العلاّمة الأستاذ علي العبادي، الذي لم ينقطعْ عن موافاتي بما يستجد صدوره من كتبه، فأنتفع بعلمها، وأفيد من حكمتها، ومعلوماتها التاريخية الطريفة، بلْ لقد أغراني بعض ذلك أن أكتب مقالة لجريدة (الوطن) الغراء، عن كتابه الثاني «نظرات في الأدب والتاريخ والأنساب»، أبدي فيها إعجابي بما يكتب شيخنا (حفظه الله)، وما يقدم للثقافة العربية في المملكة، ما يعمّقُ من مستواها، وينضّر من محيَّاها، ويرفع من منزلتها، فتزداد إشْعاعاً وائتلاقاً. ثم يقول (حفظه الله): - والحق أني تحرجْتُ أشد الحرج في الإقدام على ذلك، لخشيتي أن لا تكون تقدمتي هذه، في مستوى الصرامة العلمية التي تتزاحم في معظم فصول الجزء الثاني من هذا الكتاب، ومنها التدقيقات العروضية. ثم يقول (حفظه الله): - ولقد اشتمل كتاب الشيخ العبَّادي على اثني عشر فصلاً إنْ شئت، واثنتي عشرة مقالة، إن شئت أيضاً، كل فصل يتناول فيه الكاتب، قضية من قضايا الشعر، ونقده، وعروضه، وتاريخه، وثقافته بوجه عام، وذلك إمَّا مصححاً لخطأ، وإمَّا مناوشاً مَنْ أخْطأ في حقّه بالنقد فوهم فيه، وإمَّا مبدياً عن فحولته العروضية، التي هو أحد أعلامها في هذا العصر فعلاً. ثم يقول (حفظه الله): - وقد ورد في صدر إحدى مقالات هذا الكتاب الممتع المفيد معاً، وهي المقالة التي يناقش فيها العلاَّمة العبَّادي، يناقش فيها الدكتور ظافر العمري، في مسألة تتمحّض لكسر عروضي، نُسب للعبَّادي، وهو منه براء، إذْ كان الخطأ من ارتكاب طابع المقالة المنشورة، في إحدى الجرائد بالمملكة. ثم يقول العلاَّمة الدكتور عبدالملك مرتاض:- ورد في صدر هذه المقالة، المقولة المشهورة، التي تُعزى خطأً إلى عماد الدين الأصفهاني، وهي:- «إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه، إلاّ قال في غده:- لو غُيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقْص على جملة البشر.. ثم يقول العلاّمة الدكتور عبدالملك مرتاض:- «وهذه المقولة في الغالب، ليست للعماد الأصفهاني، وإنما هي لأحد الكُتَّاب المعاصرين له المغمورين، يُسمَّى العسقلاني، ذلك أن نسبة هذه المقولة إلى العماد الأصفهاني، قد أرّقنا أمرها، وظلْنا نبحث في شأنها، مشرقاً ومغرباً، إلى أن انتهينا إلى بعض الحقيقة التي سنحتْ المناسبة، لنفصّل أمرها فيما يأتي:- لقد ظلّ طلاّب الدراسات العليا، يضحكون منّا، ويسخرون بنا، ربما من حيث لا يريدون، فيُحلّون بهذه المقولة صدور أطروحاتهم، عازينها إلى عماد الدين الأصفهاني المتوفى سنة 597 للهجرة، والنص المثبت في صدور الأطروحات والكتب، إنما كتبه العسقلاني إلى العماد الأصفهاني، وبداية الكلام الذي أرسله هذا العسقلاني إلى العماد الأصفهاني معتذراً إليه - عن كلام استدركه عليه:- «إنه قد وقع لي شيء، وما أدري أوقع لك أم لا؟ وهاأنا أُخبرك به، وذلك أنّي رأيتُ أنه لا يكتبُ إنسان في يومه، إلا قال في غده: لو غُيّر هذا لكان أحسن.. إلخ». وقد كنت تساءلتُ مع زملاء لي في جامعة (وهْران)، وبحثنا عن هذه الكلمة، في كل كتب العماد الأصفهاني المعروفة المتداولة بين الناس، فلم نعثر لنصّها فيها على أثر، ولم يتوقف بنا الأمر في البحث عن مصْدر هذه الكلمة لدى هذا الحد، بل لم نبرح أنْ نسائل من العلماء العرب كلّ من التقينا بهم في ندوات عربية أو دولية، ومن ذلكم مساءلتنا الصديق المرحوم الدكتور عزالدين إسماعيل، في ندوة دولية، حضرناها معاً بقرطبة، قبيل وفاته ببضع سنين، فرأى الشيخ عزالدين، أن هذا الكلام مستبعد أن يكون لعماد الدين الأصفهاني، ولكن دون أن يقطع الشك باليقين، كما يقال، وكان الشاعر التونسي نور الدين صمود حاضراً في هذه الجلسة، فرأى أن المقولة، للعماد الأصفهاني، حقاً وقطعاً، وأن الدكتور عزالدين إسماعيل، لم يكن في ملاحظته على شيء، وأنه قد يوجد في النهر، ما لا يوجد في البحر، فكتب إليَّ من تونس، بعد أُمَّة، رسالة طويلة، يؤكد صحة نسْبة هذا النص إلى العماد الأصفهاني، ولكن دون أن يأتي بحجة مقنعة، أي برجع المقولة إلى كتاب محدّد من كتب الأصفهاني، بالصفحة والعنوان، وإنما استشهد بها، هو أيضاً، من صدر مؤلف آخر، وقع في هذا الخطأ، إلى أن حقق هذه المسألة الزميل الدكتور مختار بوعناني وأفادنا يوم ثالث مارس 2008م مشكوراً. ونحن عزونا الكلمة المثبتة في صلب الصفحة، في الطبعة الأولى، من كتابنا:- «نظرية النص»، إلى العماد الأصفهاني، أيضاً، مضطرين مع شكّنا في ذلك الذي أفضى بعد مساءلاتنا إلى قطعه باليقين. فشكراً للدكتور بوعناني، على تحقيق هذه المسألة التي حارتْ فيها البريّة.. وعلى أنه لا يزال في نفسي شيء من كل هذا، لأن الدكتور بوعناني، لم يعرّفْ هذا العسقلاني المعاصر للعماد الأصفهاني، إذ نجد في كتب التاريخ والحديث والأدب، عسقلانيين كُثراً، فمن يكون هذا العسقلاني، الذي كاتب الأصفهاني بهذه الكلمة منهم؟ والأمل معقود على البحاثة الشيخ العبَّادي، في أن يحقق هذه المسألة، تحقيقاً نهائياً، لما أعلم من ضخامة مكتبته التراثية، التي لا أمتلك أنا مثلها، وذلك بالرجوع إلى البحث عن هذا العسقلاني، الذي كان يعاصر العماد، ويراسله، فمن هو؟ وما اسمه الكامل، وهل فعلاً هو الذي كتب إليه هذا النص، الذي أمسى من أشهر النصوص لدى المؤلفين، والباحثين العرب، وينسب خطأً إلى غيره.. ومن عجب، أن العلاّمة العبَّادي، وأشهد أنه محقق مدقق، فاته هو أيضاً أن يحيل إلى مصدر هذه المقولة، وذلك في خضم طغيان التصاق هذه الكلمة بالأصفهاني، دون أن يحاول أحد من العلماء المعاصرين الإحالة إلى مصدرها من كتبه، حيث لا توجد في الحقيقة في أي منها، إلى أن ينتهي البحث إلى غير ما انتهينا إليه، وهو شأن ممكن.. انتهى ما كتبه العلاّمة الأخ العزيز الأستاذ الدكتور عبدالملك مرتاض، في مقدمته للجزء الثاني، من كتابي «ما هكذا يُكتب الشعر» الذي سيطبع قريباً، إن شاء الله. وأقول لحبيبنا الأستاذ الدكتور العلاَّمة عبدالملك مرتاض:- لقد قرأتُ هذه المقولة المنسوبة إلى عماد الدين الأصفهاني، منذ ستين سنة، إن لم تخنّي الذاكرة، وهي مقولة قرأناها أول مرة، في كتاب «معجم الأدباء» لياقوت الحموي، في طبعته الثانية التي أصدرتها دار المأمون بالقاهرة، بتحقيق الدكتور أحمد فريد رفاعي، الذي أطلق على اسمه:- مدير إدارة الصحافة والنشر والثقافة المصرية، وهي طبعة منقولة برمّتها من الطبعة التي قام بتحقيقها المستشرق الكبير (مرجليوث)؛ وكان (مرجليوث) من كبار المستشرقين الإنجليز، وأحد أعضاء المجمع البريطاني، وأحد المدرسين للغات الشرقية في جامعة (لندن)، وكان يشغل منصب أستاذ خاص في تاريخ الشرق بجامعة البنجاب، وعضواً فخرياً في المجمع العلمي بدمشق سنة 1921 للميلاد، وأستاذاً للغة العربية بجامعة أكسفورد، حقّق ونشر كثيراً من الكتب العربية، كمعجم البلدان لياقوت الحموي، والأنساب للسمعاني، ونشوار المحاضرة، للتنوخي، ورسائل أبي العلاء المعري، وديوان شعر ابن التعاويذي، وديوان الحماسة لأبي تمام. وألَّف كتباً في تاريخ الإسلام، منها:- «محمد وظهور الإسلام»، و»نشأة الإسلام»؛ وقد توفي سنة 1940 للميلاد. وكان الدكتور أحمد فريد رفاعي، الذي نُسب إليه تحقيق الطبعة الثانية من كتاب (معجم الأدباء) لياقوت الحموي، رجلاً غير مشهور بين طبقة علماء مصر في عصره، ولم نجد له ترجمة في «الموسوعة العربية الميسرة» التي أشرف على إخراجها وطباعتها، علماء كبار من مصر العربية، كالأستاذ محمد شفيق غربال، والدكتور إبراهيم مدكور، والدكتور زكي نجيب محمود، والدكتورة سهير القلماوي، وغيرهم من العلماء الكبار.. وأكاد أجزم أن الدكتور محمد فريد رفاعي، قد برز في عصره لقرابته من وجهاء مصر في ذلك العصر وصلته بهم. ومع أنّ الطبعة الثانية، من «معجم الأدباء» لياقوت الحموي، التي نسب تحقيقُها إلى الدكتور أحمد فريد رفاعي، قد تولى قراءتها - كما يزعم الرفاعي -:- علماء ثقات، وحجج أثبات، كالشيخ إبراهيم اليازجي، والشيخ عبدالعزيز جاويش، والشيخ محمد حسنين الغمراوي، ولجنة من وزارة المعارف المصرية في عهد وزيرها علي زكي العرابي باشا، وقد طبُعتْ هذه الطبعة في سنة 1355 للهجرة. إلا أن العلاّمة الأستاذ الكبير خيرالدين الزركلي، يقول عن هذه الطبعة:- وفيها نقص، اسْتُدرك بتراجم ملفّقة، دُسّتْ فيه. وما قاله المحقق الكبير خيرالدين الزركلي، ينفي ثناء محمد فريد الرفاعي على طبعته التي لحقتها أخطاء علمية، لا يُغتفر لها، ومن هذه الأخطاء، ما قام به هذا المدعو الدكتور رفاعي، من إذاعة هذه المقولة التي نسبها إلى العماد الأصفهاني، وسجّلها في الصفحة الأولى، من كل جزء، من الأجزاء العشرين «لمعجم البلدان» لياقوت الحموي، وتلقّفناها من سنة 1355 للهجرة، سنة 1936 للميلاد، حتى يومنا هذا، وقد تناول هذه المقولة من جاء بعده من العلماء والأدباء، وحازوها من غير تثبت أو يقين، وكنت كغيري رجلاً يقناً - بفتح الياء والقاف - لا أقرأ شيئاً لمن يحمل راية العلْم، إلاَّ أيقنْتُ به، ولم أكذبه.. وقد رأيت المحقق القدير الدكتور عدنان محمد آل طعمة، ينوّه بهذه المقولة، وينسبها أيضاً إلى العماد الأصفهاني، في الصفحة الأولى، من الجزء السابع، من كتاب (خريدة القصر وجريدة العصر) للعماد الأصفهاني، طبعة إيران.. والله يحسن الجزاء للعالم الكبير الصديق الأستاذ الدكتور عبدالملك مرتاض، ويكفيه حوادث الزمن والأرزاء، تلقاء ما حثني على أن أتحرَّى عن صاحب هذه المقولة. إذ قال (حفظه الله):- «والأمل معقود على البحاثة الشيخ علي العبَّادي، في أن يحقق هذه المسألة، تحقيقاً نهائياً لما أعلم من ضخامة مكتبته التراثية، التي لا أمتلك أنا مثلها».. وسامح الله حبيبنا وصديقنا الأخ العزيز الأستاذ الدكتور عبدالملك مرتاض، الذي كلفني هذه المهمة، لأفحص عن خبرها، وأجتثّ عن سرها، فقوَّى عزيمتي، وأذكى نشاطي، وشحذ نيتي، فأخذتُ لهذه المهمة أُهبتي، وأنا شيخ يفن، أرْدى على الثمانين من عمره.. وإني أسأل كما سأل حبيبنا الأستاذ الدكتور عبدالملك مرتاض، عن هذا العسقلاني، الذي نُسبت إليه المقولة، إذْ نجد عسقلانيين كثيرين، ذُكرتْ أسماؤهم في المظان التي يجد الباحث فيها طلبته - بفتح الطاء وكسر اللام. ولا نعرف أحداً منهم عاصر عماد الدين الأصفهاني، المولود سنة 519 للهجرة، والمتوفى سنة 597 للهجرة، الذي عاش بعد وفاة السلطان صلاح الدين الأيوبي، بثماني سنين، وستة أشهر.. فهناك «شافع بن علي بن عباس العسقلاني المصري» وهو أديب ومؤرخ وله شعر جيد، قال عنه المؤرخون:- إن سهماً أصاب صدغه في وقعة حمص، بين الجيش المصري، والجيش المغولي، سنة 680 للهجرة. فعمي، وكان جمّاعاً للكتب، خلّف ثماني عشرة خزانة، ولمّا كفّ بصره، كان إذا جسَّ كتاباً منها عرفه، وإذا أراد كتاباً عرف وضعه، وله مؤلفات كثيرة، منها:- «ديوان شعره». ولكنَّ شافعاً العسقلاني، لم يكن معاصراً لعماد الدين الأصفهاني، إذْ ولد بعد ولادة عماد الدين الأصفهاني، بمائة وثلاثين سنة. وهناك العسقلاني:- أحمد بن إبراهيم الكناني المصري الحنبلي، فقيه ومؤرخ، انتهتْ إليه رئاسة الحنابلة بمصر، سنة 800 للهجرة.. وأما العالم والإمام الحجة، ابن حجر العسقلاني، المتوفى سنة 852 للهجرة، فلم يكن معاصراً للعماد الأصفهاني، كما علمناه وقرأناه.. وأعود إلى ما أوجبه عليَّ صديقي العزيز الأستاذ الدكتور عبدالملك مرتاض، وكان يستند إليَّ في طلبه، ويتكئ عليَّ، لأنه يعلم أن لي مكتبة كبيرة، حوَتْ كتباً من أمهات كتب التراث. ونسي (حفظه الله) أن في وطني السعودية من يملك أكبر من مكتبتي؛ ولعله علم أنّ بعض أصحابها، لا يملكون منها شروى نقير، فوقع عليّ اختياره، وكنتُ بطلبه حفيّاً. وخلوتُ بمكتبتي، وأمعنت التفتيش والتنقير، فوجدت (كُنّاشات)، دوَّنْتُ فيها أيام الطلب في شبابي، ما يمر عليَّ من فوائد، أقتنصها من أمهات الكتب، فوجدتُ أن هذه المقولة، قد قالها الأديب الكبير:- عبدالرحيم بن علي بن السعيد اللخْمي، المعروف بالقاضي الفاضل، المولود سنة 529 للهجرة ، والمتوفى في القاهرة سنة 695 للهجرة، وهو الأديب المعاصر للعماد الأصفهاني. وكان العماد الأصفهاني، يزاحم القاضي الفاضل بمنكب ضخم، وكان إذا انقطع القاضي الفاضل، عن ديوان السلطان صلاح الدين الأيوبي، ناب عنه العماد الأصفهاني في النظر إليه، وألقى إليه السلطان مقاليده، وركن إليه بأسراره، وكان بينه وبين القاضي الفاضل مراسلات ومحاورات، كما جاء ذلك في كتب التراجم المعروفة. وقد أفرد العماد الأصفهاني، للقاضي الفاضل، ترجمة وافية، في كتابه:- «خريدة القصر وجريدة العصر»، وأثنى عليه، ومدحه بقصائد قلائد. وكان القاضي الفاضل من وزراء السلطان «صلاح الدين الأيوبي» رحمه الله، ومن مقربيه، وكان السلطان صلاح الدين، يقول:- «لا تظنوا أني ملكت البلاد بسيوفكم، بل بقلم الفاضل». وقد أشار إلى هذه المقولة، التي حيّرت العلماء والأدباء، الحاج خليفة، ودوّنها في كتابه «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون»، وهو أنفع وأجمع ما كُتب في موضوعه بالعربية، إذ ذكر الحاج خليفة، هذه المقولة، منسوبة إلى القاضي الفاضل، في الفصل الرابع، من الجزء الأول، من كتابه «كشف الظنون» طبعة المكتبة الإسلامية، بطهران، فقال الحاج خليفة:- هذا جوابي، عما يرد على كتابي أيضاً، وقد كتب أستاذ البلغاء القاضي الفاضل عبدالرحيم البيساني، إلى العماد الأصفهاني، معتذراً عن كلام استدركه عليه:- «إنه وقع لي شيء، وما أدري أوقع لك أم لا، وهاأنا أخبرك به، وذلك أني ما رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه، إلاَّ قال في غده:- لو غُيِّر هذا لكان أحسن، ولو زيد لكان يستحسن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر». انتهى، ويعلّق الحاج خليفة، على هذه المقولة، فيقول:- «هذا اعتذار، قليل المقدار، عن جميع الإيرادات والأنظار إجمالاً وأما التفصيل فسيأتي في كل علم، مع توجيهه بإنصاف وحلم، وربما زيد على ما ذكره من العلوم على طريق الاستدراك، بتمكين مانح القريحة والذهن الدراك».. وبما قاله الحاج خليفة، تقطع جهيزة قول كل خطيب.. والشكر الجزيل، أبعثه إلى الصديق الأستاذ الدكتور العالم الكبير عبدالملك مرتاض، الذي حثّني على إعادة النظر في هذه المقولة، التي كُنَّا نرددها من غير علم أو يقين، أو تثبّت أو فحْص، نردّدها في كل محفل ومشْهد، ومجمع ومجلس، وراء من أطلقها ونسبها إلى غير قائلها، منذ صدرت الطبعة الثانية، من كتاب «معجم الأدباء لياقوت» في سنة 1355 للهجرة، هذه الطبعة التي أُخذتْ برُمّتها، من الطبعة الأولى، للمستشرق الإنجليزي (مرجليوث)، وادّعى تحقيقها رجل حمل الدكتوراه، وهي بريئة منه، كغيره ممن يحملها في عصرنا الحاضر، وهو ينْألُ بها.. وكتب أخي العلاّمة الدكتور عبدالملك مرتاض، مقالة عن كتابي «نظرات في الأدب والتاريخ والأنساب» الذي كتب مقدمته أخي العزيز الصديق معالي الأستاذ الدكتور إبراهيم بن محمد العواجي، الأديب والشاعر الكبير.. يقول الأستاذ الدكتور عبدالملك مرتاض:- وأعتقد أن تقديم الدكتور إبراهيم بن محمد العواجي، قد يكون أحسن مدخل لقراءة الكتاب، وفهمه، فهو المفتاح الذي يفك المستغلق، ويوضح الغامض.. ويستطرد العلاّمة الدكتور عبدالملك مرتاض، في حديثه عن كتابي «نظرات»، فيقول:- «من مقالات هذا الكتاب الممتعة الكثيرة، مقالته التي وردتْ بعنوان:- «هل جنى الأدب على الأدباء»، والذي لا يعرف العربية، قد يعتقد أن الكاتب هنا يتساءل على ظاهر المنبثق عن أداة الاستفهام، وهي لا تؤدي معنى جمالياً كبيراً، ولذلك فنحن نقرأ «قدْ» على معنى الخبرية، لا على معنى الجحْدية، فيكون معناها التحقيق والتقرير، لا التساؤل والاستفهام، أي أننا بمعنى «قد جنى الأدب على الأدباء» فعلاً وحقاً، وهذا أسلوب من العربية عالٍ، لا يرتكض فيه إلا فحول الكُتَّاب وأمراء البيان».. ثم يقول العلاَّمة الدكتور عبدالملك مرتاض:- «وذلك لتعدد معاني (هل) في العربية، حتى كأنها مشابهة ل (حتىَّ)، التي مات سيبويه، وفي نفسه شيء منها، إذ تأتي (هل) خبراً، وجحداً، وشرطاً، وتوبيخاً، وأمراً، وتنبيهاً، وتحقيقاً، أي بمعنى (قد).. وأُكمل حديث الأستاذ الدكتور عبدالملك مرتاض، عن (هل)، فأقول:- «هل» حرف استفهام، مبني على السكون، لا محل له من الإعراب، وهو حرف مختص بالتصديق الإيجابي، وتأتي «هل» بمعنى «ٍقد»، كما قال الدكتور مرتاض، وبمعنى (ما) النافية، نحو قوله تعالى:- (ل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان) والأمر، نحو:- (فهل أنتم منتهون)، أي:- انتهوا. ويقول الأستاذ الدكتور عبدالملك مرتاض:- «وأما ما تحدّث به الشيخ الأستاذ العبَّادي، عن «دعْبل الخزاعي»، فهو يعلم أن ابن رشيق، كان قد زعم في (العمدة) أن هذا الشاعر الذي كان هجّاءً، بذيء اللسان، على حد تعبير العبَّادي، يعود سبب تهيامه في آفاق الأرض وأقاصيها، حتى قيل:- «إنه مات ببلاد المغرب متخفياً»، إلى أنَّ أول شاعر جزائري، في تاريخ الشعر العربي، وهو بكر بن حمّاد، الذي ذهب من مدينة تيهرت الجزائرية سنة سبع عشرة للهجرة، إلى (بغداد)، التي بجد بها دهراً طويلاً، هو الذي دسَّ بيتين من الشعر على لسان «دعبل»، حين رأى ما رأى من بذاءة لسانه، حتى إنَّ (المعتصم) لم يسلم من شره. أولهما:- ملوك بني العبَّاس في الكتْب سبعةٌ ولم تأتنا عن ثامنٍ لهمو كُتْبُ ممّا حمل «المعتصم» على هدْر دمه، فهام (دعبل) على وجهه في الأقاصي الأباعد، شذَر مذَر. وفي الكتاب مقالات كثيرة ممتعة، ومفيدة، لو يتسع نطاق هذا الحديث، لتوقفنا لدى طائفة أخرى منها، لما فيها من الطرافة والإفادة للقراء. ولي تعقيب على ما كتبه صديقنا العزيز الأستاذ الدكتور العلاَّمة عبدالملك مرتاض، فأقول، وبالله التوفيق:- إن الشاعر (دعبل بن علي الخزاعي)، شاعر مطبوع، هجَّاء، خبيث اللسان. لم يسْلم منه أحد من الخلفاء، أو الوزراء. ومعنى دعبل:- الناقَةَ التي معها حيرانها، وتحدّث دعبل عن اسمه، فأخذ ينكّتُ، ويقول:- صُرع مجنون مرة، فصحتُ في أذنه:- «دعبل» ثلاث مرات، فأفاق. وحدّث دعبل، قال:- كنت جالساً مع بعض أصحابي ذات يوم، فلما قمتُ، سأل رجل لم يعرفني أصحابي عنّي، فقالوا:- هذا دعبل، قال لهم:- قولوا في جليسكم خيراً، كأنه ظنّ اللقب شتماً. وليس الشاعر الجزائري بكر بن حماد، هو الذي دسَّ بيتين من الشعر على لسان دعبل، حين رأى ما رأى من بذاءة لسانه، والبيتان قيلا في الخليفة العبَّاسي (المعتصم)، والبيتان من مقطعة هجائية، عدد أبياتها تسعة، نُسبتْ إلى «دعْبل» يهجو بها الخليفة المعتصم، أولها:- بكى لشَتّات الدين مكتئبٌ صبُّ وفاضَ بفرْط الدمْع من عينه غرْبُ وقام إمامٌ لم يكن ذا هداية فليْس له دين وليسْ له لُبُّ ومنها:- البيتان، وقد ذكر أحدهما العلاَّمة الأستاذ الدكتور عبدالملك مرتاض، ولم يذكر الثاني، وهو:- كذلك أهل الكهف في العدّ سبعة خيارٌ إذا عُدّوا وثامنُهم كلْبُ وقد هجا دعْبل، غير (المعتصم) من الخلفاء:- الرشيد، والمأمون، والواثق، وطال عمره، وكان يقول:- لي خمسون سنة، أحمل خشبتي على كتفي، أدور على من يصلبني عليها. ومات كما جاء في أمهات كتب الأدب والتاريخ، في بلدة بين (واسط وخوزستان)، وانظر:- ما جاء عنه، في (وفيات الأعيان) و(دول الإسلام) و(النجوم الزاهرة) و(الأغاني) و(معاهد التنصيص) و(الشعر والشعراء) و(الفهرست) و(الموشح) و(تاريخ بغداد) وفيه:- وإنما لقّبته دايته لدعابة كانتْ فيه، فأرادتْ (ذعْبلاً) بالذال المعجمة، فقلبتْ الذال دالاً، ونسي الخطيب البغدادي (رحمه الله)، مؤلف (تاريخ بغداد) أن كلمة (ذعبل) بالذال المعجمة، ليستْ لها معنى في اللغة العربية، فسامحه الله. وجاء في (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني، عن محمد بن يزيد، قال:- قلت لدعبل: بالله أسألك، أنت القائل:- كذلك أهل الكهف في العد سبعةٌ إذا حسبوا يوماً وثامنهم كلْبُ فقال:- لا والله، فقلتُ:- من قاله؟ قال: من حشا الله قبره ناراً، إبراهيم بن المهدي، كأني بذلك عن هجائي إيّاه، ليشيط بدمي. أما ما قاله العلاّمة الدكتور عبدالملك بن مرتاض: إن الشاعر الجزائري، بكر بن حماد، هو الذي دسَّ بيتين من الشعر في هجاء (المعتصم)، وذكر الدكتور عبدالملك مرتاض، أحد هذين البيتين:- ملوك بني العباس في الكتب سبعة ولم تأتنا عن ثامن لهمو كُتْبُ فلم أر أحداً من مؤلفي أمهات الكتب الأدبية والتاريخية، التي ترجمتْ لدعبل بن علي الخزاعي، يذكر ذلك. وبكر بن حماد بن سهر الزناتي، أبو عبدالرحمن، التاهرتي، شاعر وعالم بالحديث والفقه، من فضلاء المغرب، ولد بتاهرت، أو تيهرت، ويسميها الفرنسيون (tiaret) بالجزائر، وكانت ولادته سنة (200) للهجرة، وهو من أشهر كبار علماء الجزائر وأدبائها، أخذ العلم والأدب، عن علماء بلده، ودخل بغداد سنة 217 للهجرة، فأخذ العلم عن علمائها، ولقي من العلماء والأدباء من أماثلهم، كدعبل بن علي الخزاعي، وعلي بن الجهم، وأبي تمام، ومسلم بن الوليد، وابن الأعرابي، والرياشي، وغيرهم. وله ترجمة مطوّلة، في الجزء الأول، من تاريخ الجزائر العام، للأستاذ عبدالرحمن بن محمد الجيلالي، طبعة دار الثقافة ببيروت سنة 1980 للميلاد. وقد توفي ابن حماد الجزائري سنة 296 للهجرة، أي في السنة التي سقطت فيها الجزائر الرستمية بيد العبيديين، ودفن في قلعة ابن حمة، شمال مدينة تيهرت. ولبكر بن حمّاد (رحمه الله) ترجمة في «البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب» لابن عذارى المراكشي. واسم جده فيه:- (سهر) بكسر السين، وسكون الهاء. وهناك سبق قلم، خطّه العلامة الأستاذ الدكتور الصديق عبدالملك مرتاض، حيث قال:- إن بكر بن حماد الجزائري، قد سافر إلى مدينة بغداد من مدينته (تيهرت) سنة سبع عشرة للهجرة، وهو يريد سنة 217 للهجرة. والشكر والثناء مرة أخرى لأخي العزيز العلاّمة الأستاذ الدكتور عبدالملك مرتاض، الذي حثّني على معرفة صاحب المقولة، التي أوْقعتْ كثيراً من العلماء والأدباء في حيْرة. وقد اسْتطعتُ بمشيئة الله أن أُنحّي عن هذه المقولة، ما يواريها ويغطّيها؛ وقد ظنَّ أخي العزيز الدكتور عبدالملك مرتاض، أن في العباءة رُجلاً خِرّيتاً؛ وحمدتُ الله عز وجل، أني كنْتُ عند حُسْن ظنّ العالم الكبير الدكتور عبدالملك مرتاض، ولم يكن سعيي إلى تحقيق هذه المقولة في خيّاب بن هيَّاب.