احرز ايهود باراك انتصارا كاسحا في أيار مايو 1999 بناء على وعده بالتوصل الى سلام كامل مع الفلسطينيين والسوريين خلال سنة، أو انه، في حال الفشل، سيبرهن في شكل قاطع، للاسرائيليين والمجتمع الدولي عموماً، على ان اسرائيل قدمت كل ما امكن من تنازلات وأنها غير مسؤولة عن الفشل. الا ان باراك قرر فور تسلمه السلطة تأجيل التعامل مع المسار الفلسطيني، مفضلاً التركيز على المسار السوري، وهو ما أدى الى تدهور العلاقات مع الفلسطينيين. وعندما عاد، متأخراً، الى التعامل مع هؤلاء لم يقدم لهم ما يميزه كثيراً عن سلفه بنيامين نتانياهو، بل تراجع حتى عن تلك التنازلات اليسيرة التي قدمها نتانياهو في اتفاق واي. اضافة الى ذلك، ولأسباب غير واضحة، سمح باراك للنشاط الاستيطاني والمشاريع الكبرى لبناء الطرق في الضفة الغربية بالاستمرار. لكنه بدا في قمة كامب ديفيد في تموز يوليو الماضي وكأنه غيّر موقفه تماماً. إذ فاجأ المجتمع الدولي وصدم غالبية الاسرائيليين بتقديمه شروطاً سخية في شكل غير مسبوق الى ياسر عرفات، من بينها اعادة 90 في المئة من أراضي الضفة الغربية وغزة، والسيادة على المناطق التي تسكنها غالبية فلسطينية في القدسالشرقية. مع ذلك رفض عرفات هذه الصفقة التي يستبعد ان تقدمها في المرحلة الراهنة أي حكومة تخلف باراك. والواقع ان شروط باراك، في تجاوزها لما يقبله الرأي العام الاسرائيلي، خصوصاً حول القدس، أدت الى تحويل حكومته الى حكومة أقلية لا يتوقع لها الاستمرار طويلاً. بدا للمراقبين وقتها أن فشل القمة قدم الى باراك فرصة ذهبية لإعلان نهاية عملية السلام، وأن يقوم بذلك حسب وعده لناخبيه، أي بعد البرهنة للعالم أن السبب لم يكن تعنت اسرائيل بل عناد الفلسطينيين. وربما يعطيه إعلان كهذا الوقت الكافي لانقاذ حكومته ومستقبله السياسي عن طريق ترميم الجسور مع الاسرائيليين الذين صدموا باستعداده للذهاب الى ذلك المدى للتوصل الى السلام. لكن باراك لم يسلك هذا الطريق. بل انه أمعن في حرق الجسور مع المعارضة بعدما كان يحرص على مغازلتها قبل كامب ديفيد بتطهير السلك الديبلوماسي من المسؤولين الذين عينتهم المعارضة عندما كانت في السلطة. كما أوضح بما لا يقبل الشك انه لن يستغل الموقف الأولي السلبي الذي اتخذه عرفات، وسيبقى مستعداً للمزيد من التفاوض، وهو ما يشير الى امكان تقديم تنازلات اضافية. كيف نفهم سلوك باراك الذي يبدو متخبطاً، ان لم يكن انتحارياً، على الصعيد السياسي؟ الواقع ان التفسير سهل، لأن خط باراك يقوم، من جهة، على التزام مبدئي عميق، ومن الجهة الثانية على خطأ سياسي خطير، اضافة الى شيء من الانتهازية السياسية. المبدأ الوحيد الثابت في استراتيجية رئيس وزراء اسرائيل منذ تسلمه السلطة هو اقتناعه العميق بضرورة انهاء صراع اسرائيل مع الفلسطينيين والعالم العربي، ليس لمجرد استحالة تصور استمرار سيطرة اسرائيل خلال القرن الواحد والعشرين على حياة ثلاثة ملايين فلسطيني، بل لأنه يرى ان السلام وعلاقات الجوار أهم لأمن اسرائيل على المدى الطويل من الحصول على المزيد من الأرض. وهو يرى أنه، كعسكري محنك تولى رئاسة الأركان، مؤهل في شكل فريد لاتخاذ هذا الموقف في وجه الديماغوجيين القوميين والدينيين في المعارضة. ولم يحاول باراك أبداً، عكس نتانياهو، ايجاد ذريعة للتمسك بأراض، لأن هدفه الأعلى يبقى التوصل الى السلام مع جيران اسرائيل. من هذه الزاوية لا بد من اعتبار مماطلة باراك للفلسطينيين في المرحلة الأولى خطأ سياسياً شنيعاً سببه في الدرجة الأولى افتقاره الى الخبرة السياسية. اذ تمسك بسذاجة بأسلوب تفاوضي كلاسيكي، يتلخص في الامتناع عن تقديم التنازلات في المراحل المبكرة، ضماناً للحد الأعلى من التأثير للتنازلات التي تقدم في نهاية المفاوضات. أي انه اعتقد انه كلما قدم تنازلات أكثر في المراحل المبكرة كلما تناقصت فاعلية العرض النهائي على الطرف المقابل. لكن لم يكن لهذا النموذج التفاوضي علاقة تذكر مع الواقع الفلسطيني. فقد ألحق باراك المهانة بعرفات في المراحل المبكرة عندما ردّه دائماً خالي الوفاض، واعطى صدقية لمنتقديه الذين اعتبروه دمية في يد اسرائيل والولايات المتحدة. اذ لم توضع اعادة الانتشار الثالثة موضع التنفيذ، ولم يجر اطلاق السجناء الفلسطينيين، فيما استمر انشاء المستوطنات ومصادرة الأراضي الفلسطينية - وتم كل هذا في وقت بدا أن باراك كان على وشك التنازل الكامل للسوريين، اضافة الى الانسحاب الأحادي من كل شبر من جنوبلبنان. النتيجة كانت انكشاف عرفات المتزايد أمام الاتهامات اليه ب "خيانة" القضية الفلسطينية لاشباع شهوته الى السلطة والأمجاد الشخصية. وهكذا لم تترك استراتيجية باراك الخاطئة لعرفات سوى فرصة واحدة لدحض صورة الضعف والميوعة الشائعة عنه في العالم العربي: تلك الفرصة كانت قمة كامب ديفيد عندما وضع باراك أوراقه على الطاولة وواجهها عرفات بالرفض التام. أي ان استراتيجية باراك لم توفر لعرفات المرونة السياسية المطلوبة بل أدت الى العكس تماماً. ومع ذلك لا يزال باراك مصمماً على التوصل الى اتفاق مع عرفات. السبب في ذلك ان ضعفه السياسي، بدل ان يسد الطريق امام المزيد من الجهد مع الفلسطينيين، يدفعه بالضبط في هذا الاتجاه. وعلى رغم التصورات السائدة فهو يعتقد، محقاً كما أرى، أن لا سبيل لانقاذ حكومته الآن سوى التوصل الى اتفاق للسلام مع الفلسطينيين وجعل الاتفاق القضية الرئيسية في انتخابات جديدة. وتتلخص استراتيجيته حالياً بالالتفاف على الكنيست، المعادية له بعمق، والتوجه الى الناخبين الذين اعطوه السنة الماضية تفويضاً واضحاً باكمال عملية السلام. تشير استطلاعات الرأي الأخيرة الى أن الناخبين الاسرائيليين، الذين ساندت غالبيتهم دوماً مساعي باراك نحو السلام، لا يوافقون على كل عروضه على الفلسطينيين، على الأخص في ما يتعلق بالقدس. لكن من الخطأ ان نستنتج انه سيخسر الانتخابات نتيجة موقفه في كامب ديفيد، لأن الاستطلاعات نفسها تبيّن أن الكثيرين من معارضي اقتراحات باراك يريدون له الاستمرار في التفاوض مع عرفات. واذا كان من المفهوم أن غالبية الاسرائيليين تريد الاحتفاظ بأكثر ما يمكن من أراضي الضفة الغربية وأكثر ما يمكن من القدس، فإنها في الوقت نفسه لا ترفض الفرصة التاريخية لانهاء الصراع مع الفلسطينيين والعالم العربي، حتى في اطار اتفاق يشمل نقاطاً تثير اعتراض تلك الغالبية. هذا ما يقامر عليه باراك، واعتقد أن الاحداث ستبين صواب موقفه. وهكذا فإن دافع باراك لمواصلة مساعي السلام، على رغم الرفض الاولي من عرفات، هو هذا المزيج الغريب من الالتزام المبدئي والضعف السياسي. عند هذه النقطة لا بد من طرح السؤال عمّا يمكن أن يدفع عرفات الى تغيير موقفه. الجواب انه ايضاً لا يجد غير هذا الخيار. كان اعلان الدولة الفلسطينية خياراً ممكناً لعرفات في أيار مايو 1999، عندما انتهت مرحلة السنوات الانتقالية الخمس كما حددها اتفاق أوسلو. ومع ذلك كانت للخيار سلبياته الخطيرة، لأنه كان سيترك للفلسطينيين ما لا يزيد على 40 الى 50 في المئة من أراضي الضفة الغربية، ودولة متناثرة جغرافياً في شكل يؤدي بالتأكيد الى الفشل السياسي والافلاس الاقتصادي. مع ذلك فإن البديل الذي عرضه نتانياهو وأرييل شارون وقتها كان أسوأ حتى من هذا، وكان القبول به يعني التنازل عن نصف الضفة الغربية الى اسرائيل. لكن الخيارات أمام عرفات في كامب ديفيد كانت مختلفة تماماً. اذاً يدرك الفلسطينيون الآن أن البديل من اعلان الدولة من جانب واحد هو دولة تقوم على نحو 90 في المئة من أراضي الضفة الغربية وغزة، بحدود مفتوحة مع مصر والأردن، وحضور سيادي في اجزاء من القدسالشرقية، من ضمنها المدينة القديمة، والأهم من كل ذلك لاستمرار الدولة الوليدة، المساعدات المالية الكبيرة من المجتمع الدولي. لكن من المستبعد ان يقدم المجتمع الدولي - بعد الاعتراف الواسع بسخاء العروض التي قدمها باراك في كامب ديفيد، والمخاطرة السياسية الشخصية التي أقدم عليها بطرحها - مساعدات على مستوى مهم اذا رفض عرفات تلك العروض. وكان هذا من بين الدروس التي تعلمها عرفات في جولته العالمية مباشرة بعد فشل كامب ديفيد. ويدرك عرفات من دون شك ان حماسة الفلسطينيين لدولة معلنة من جانب واحد لن تدوم طويلاً، بل ستعقبها خيبة الأمل ازاء الانهيار السياسي والاقتصادي لتلك الدولة. لا نقصد بهذا ان عرفات سيعتبر أن ما قدمه باراك في كامب ديفيد كان العرض النهائي من اسرائيل، بل ان الخلافات المتبقية على قضيتي القدس واللاجئين قابلة للحل. ويدرك عرفات انه لن يحصل على القدسالشرقية كاملة، فيما يدرك باراك الحاجة الى الالتفاف على قضية الحرم الشريف/جبل الهيكل بما أمكن من "الغموض الخلاّق". يمكن للدول العربية ان تلعب دوراً جوهرياً في التخفيف من المخاطر التي يواجهها عرفات اذا وقع اتفاق سلام مع باراك. اذ يمكن لتأييدها العلني له في حال اتخاذه قراراً كهذا أن يكون العنصر الحاسم للصمود أمام الهجمات الضارية التي سيواجهها عندئذ من جهات عربية كثيرة. المؤسف حتى الآن هو ما يظهر من اكتفاء الزعماء العرب بالتعهد بعدم المشاركة في الهجمات، مع العزوف عن تأييد عرفات علناً ضد الذين ينتقصون منه. لقد طالبت الدول العربية اسرائيل بالمخاطرة من أجل السلام، مع ادراكها الكامل بأن المخاطرة تمس وجود اسرائيل. وبرهن باراك على انه مستعد للمخاطرة. واذا رفضت الدول العربية القائدة، في لحظة القرار الحاسمة هذه، القيام بالمقابل بتوفير شبكة الأمان السياسية التي سيحتاجها عرفات، فلن يعامل احد بجدية مستقبلاً اهتمامها المعلن بالتوصل الى سلام شامل مع الجار اليهودي. باراك وعرفات سيتوصلان بنهاية السنة، مع الدعم العربي أو من دونه، الى اتفاق للسلام يتفادى على الأرجح قضية السيادة على جبل الهيكل /الحرم الشريف. انها نتيجة تزيد من امكان تحققها، بدل انقاصه، المشاكل التي يواجهها كل منهما مع جمهوره. * باحث في مجلس العلاقات الخارجية، نيويورك. المقالة تعبر عن رأيه الخاص.