صحافة المحافظين البريطانيين لا تخلو من الغمز واللمز بين الفينة والأخرى، كي تنال من محامية البلاط Queen Council شيري بوث زوجة رئيس وزراء بريطانيا توني بلير، منذ فوزه الساحق في انتخابات 1997. فهذا أمر مألوف في التنافس الديموقراطي بين الأحزاب السياسية، لكن التعرض لشيري، تجاوز حدود المألوف بهجوم عنيف شنّه المتحدث بالشؤون الداخلية في حزب المحافظين المعارض جون بيركو، إذ وصفها في بيان مطبوع على ورق الحزب الرسمي، وزع قبل قرابة اسبوعين، بأنها سيدة تقف في مركز الوسط بين "السيدة الأولى والشخصية الشكسبيرية ليدي ماكبيث". أوساط حزب المحافظين تقول ان الهجوم على شيري مدروس وذو هدف على رغم الطابع الشخصي الغالب، إذ قال بيركو في بيانه: "ليس من الواضح بعد ما إذا كانت شيري تسعى لتصبح وزيرة للعدل، أو أنها ستكتفي بإدارة السياسة من وراء الكواليس. لكن يبدو أنها تنسى أن لدينا سيدة أولى في بريطانيا هي: الملكة". غيظ المحافظين من شيري 46 عاماً يعكس فكراً تقليدياً بالياً لم يقدر بعد على استيعاب حجم وعمق التغيرات الجارية في نسيج المجتمع البريطاني، ولعل هذا ما يفسر الفشل الذريع الذي حصده حزبهم في انتخابات عام 1997 وفقدانه الحس العام والخطاب المعاصر. فشيري بوث، كما هي معروفة في دائرتها المهنية كمحامية دفاع، تمثل ظاهرة غير مسبوقة ليس بين زوجات السياسيين فحسب، بل أيضاً - وهذا هو الأهم - بين زوجات رؤساء وزراء بريطانيا. فهي أول زوجة تدخل المقر الرسمي للحكومة في شارع داوننغ كامرأة عاملة وربة أسرة مع ولدين وبنت، وقد حملت في المقر ووضعت مولودها الرابع ليو فيه. شيري بلير تمثل أيضاً نقيض قيم المحافظين كامرأة أولاً، وكشخصية مستقلة ثانياً. وهي ناشطة بارزة في حزب العمال منذ أن كانت في السادسة عشرة في مدينة ليفربول العمالية، في شمال غربي بريطانيا، حيث ولدت ونشأت مع أختها الأصغر في بيت كاثوليكي ينتمي الى الطبقة العاملة، وعاشت جنباً الى جنب مع والدتها التي هجرها والدها وهي في الثانية من العمر. والدها هو الممثل المتقاعد مسرح وتلفزيون توني بوث الذي أفل نجمه قبل أن يشع، وخلّف سبع بنات أخريات عبر زيجات وعلاقات غرامية عدة لم تدم طويلاً. ولو لعب القدر لعبته، كما يقال، لكان من الممكن أن تكون شيري بوث رئيسة الوزراء وأن يكون توني بلير محامي الدفاع. فبعد لقائها بتوني بلير أثناء التدريب على ممارسة مهنة المحاماة وعلاقة استمرت عامين، عقدا قرانهما عام 1980. ويشاع أنهما اتفقا عند عقد الزواج على توزيع المهمات في ما بينهما في المستقبل لرعاية الأسرة وضمان نشأة مستقرة للأولاد، على أن يخوض أول من يفوز منهما في الانتخابات ويدخل البرلمان غمار السياسة ويحقق الطموحات الكبرى في حياته أو حياتها، وأن يتفرغ الآخر للعمل في مجال المحاماة ويضمن الدخل الثابت والوفير للأسرة. وهذا ما حصل بالفعل، إذ ترشح كلاهما للانتخابات البرلمانية عام 1983: هي عن دائرة شمال ثانيت في منطقة كنت المحافظة في جنوب انكلترا، وهو عن دائرة سيغفيلد العمالية في الشمال الانكليزي. وكان الفائز زوجها توني الذي تدرج بوتيرة سريعة في سلم القيادة ليصبح زعيماً للحزب عام 1994، خلفاً لجون سميث الذي كان يهيئ قبل وفاته المفاجئة وزير المالية الحالي غوردون براون لخلافته. شيري بلير محامية ناجحة لا سيما في مجال تخصصها في العقدين الماضيين في مجال الدفاع عن قضايا النزاعات العمالية بين اتحادات النقابات وأصحاب الصناعات بما في ذلك الدولة. إلا أن مكانتها المهنية ودخلها المالي طبعاً ارتقت الى الأعلى وحققت قفزات مهمة بعد حصولها على لقب "محامي البلاط" الذي تمنحه عاهلة بريطانيا لبضع عشرات من محامي الدفاع البارزين سنوياً. فهي الآن صاحبة الدخل العالي، إذ يبلغ سنوياً حوالى 280 الف جنيه استرليني بالمقارنة مع راتب زوجها السنوي الذي لا يزيد على 125 ألفاً. وعلى رغم ان توني بلير هو الشخصية العامة الأولى في بريطانيا كرئيس للحكومة، فإن شيري بوث هي الشخصية الأقوى في الأسرة. ويقول المقربون من أسرة بلير ان توني يأخذ النصيحة من شيري حتى الآن. ويشير هؤلاء الى أن توني بلير لم يكن متحمساً كثيراً للبقاء في حزب العمال في بدايات حياته السياسية، ولكن تغير كل شيء بعد لقائه شيري، حيث تضاعف ولاؤه للحركة العمالية في ذلك الحين ليبهر صديقته الجديدة وزوجة المستقبل. وعلى رغم حملها بوليدها الرابع وهي في الخامسة والأربعين، واصلت نشاطها المعتاد بخروجها اليومي الى العمل وسفرها الى الأطراف بين الحين والآخر لتجلس في محاكمها كقاض موقت. وشيري تفضل استخدام وسائل المواصلات العامة عند السفر خارج العاصمة لأداء وظيفتها، وقد تورطت مرة في كانون الثاني يناير الماضي بارتكابها مخالفة ركوب القطار الى بلدة لوتن القريبة من لندن، لإدارة محاكمة فيها، من دون حصولها على تذكرة في محطة بانك في العاصمة. وأوضحت شيري بلير لجامع التذاكر في محطة لوتن أن شباك التذاكر في بانك كان مقفلاً وعرضت عليه دفع قيمة التذكرة. الا أن الموظف أصر على تغريمها مخالفة الصعود الى القطار من دون تذكرة وقيمتها عشرة جنيهات استرلينية، بالاضافة الى قيمة التذكرة. بالطبع كانت قصة التذكرة مناسبة قفزت عليها صحافة التابلويد الشعبية التي انشغلت بها لمدة ايام، مثل انشغالها لاحقاً بتطور تفاصيل الحمل وما هو متعلق منها بالأزياء والطعام حيث كادت صور شيري تكون شبه دائمة في هذه الصحف التي يبدو أن لا هم لها غير ملاحقة الشخصيات العامة والنجوم للكشف عن أسرار حياتهم الخاصة وإشباع فضول القرّاء. شيري بلير - وزوجها أيضاً - من الشخصيات الخاصة التي تفضل أن تبقي حياتها الخاصة بعيداً من عدسات المصورين النهمة، لا سيما أنها ليست ملائمة للتصوير غير فوتوجينيك، بل ان شكل عينيها المحدقتين دائماً وفمها الذي يستطيل عندما تبتسم وتسريحة شعرها التي لا تتغير، تشكل مادة شيقة لرسامي الكاركاتير. ولعل هذا يزيد من تفاقم العلاقات الفاترة بين آل بلير ووسائل الاعلام البريطانية. وقد تحدث توني بلير مرة عن هذه المشكلة في لقاء له مع مجلة نسائية إذ قال: "المشكلة مع شيري هي أنها تبالغ كثيراً في محاولتها لتحسين مظهرها الخارجي، أو انها لا تحاول أي شيء. فأنا أخفي بين الحين والآخر بعض الصحف والمجلات كي لا تراها". تركز شيري بلير الآن على مسألة تشريع حقوق الانسان الجديد الذي يصبح قانوناً ابتداء من تشرين الأول اكتوبر المقبل، وكتبت مقالاً في هذا الخصوص في صحيفة "دايلي تلغراف" يوم الاثنين الماضي. ويبدو ان هذا المقال هو الذي أماط اللثام عن حملة المحافظين الراهنة، لأن التشريع سيؤدي الى تحسين وضع المرأة بشكل عام، لا سيما المرأة العاملة، لناحية ساعات العمل واجازات الأمومة، ومساواتها تقريباً مع حقوق المرأة في بعض الدول الأوروبية. فالتشريع الجديد الذي يقال ان شيري بوث لعبت دوراً كبيراً في التحريض عليه، يقضي بمنح المرأة اجازة أمومة لمدة 12 شهراً بدلاً من ستة أشهر. وأحياناً يشبه البعض توني وشيري بلير ببيل وهيلاري كلينتون، لكن لهيلاري طموحات سياسية واضحة تسعى لتحقيقها حالياً في ولاية نيويورك في حين ليس من المرجح أن تحيد شيري عن مسارها المهني واهتمامها بتربية الرضيع ليو.