عندما وقع الاجتياح الاسرائىلي للبنان في 1982، احس الجميع بأن ثمة هزيمة حزيران يونيو ثانية وقعت في تاريخ العرب المعاصر. وبالمقارنة تبدو هزيمة 1982 ذات ابعاد اخطر منها في تلك الهزيمة المرة التي وقعت في 1967. وفي وقائع هاتين الهزيمتين وظروفهما ونتائجهما يمكن الحديث عن الكثير، لكن قاسماً مشتركاً بينهما يدفع لدراسته اكثر، وهو: "المقاومة"! قاومت بيروت احتلالها من كل مكان وبكل الطرق، ومن تحت كل الدمار فيها. إلاّ ان الرصاصات التي انطلقت في شارع الحمراء رمز شفافيتها كان لها معنى آخر غير المعاني العسكرية للمقاومة، فأعطت الدرس الأول ان لبنان لا يمكن ان يكون كتاب ذل عربي جديد، وان اوحت ظروف احتلاله بذلك. اعادتنا الطلقات الاولى تلك - بغض النظر عن الانتماء الديني او السياسي او الطائفي لمن اطلقها - الى وعينا، اعادت القوة الغاشمة الغازية الى وعيها، اي: اعادت المقاومةُ المهزومَ الى صحوه، والمعتدي من غروره! كذلك، لم تفكر اسرائىل كثيراً بالاجابة عن مثل هذه التساؤلات. بل فكرت بالطريقة المثلى للرحيل عن بيروت والانكفاء نحو الجنوب. ثم ومع توالي الضربات بغض النظر عن الانتماء الديني او السياسي... كذا فكرت بالنجاة، ثم خرجت، وبقي لبنان. اما الاسئلة التي تدافعت هذه المرة، فتتعلق بالدروس الكثيرة التي اعطاها لبنان للعرب والعالم! وبرز مع هذه الاسئلة سؤال مهم يقول: ما الفارق بين المقاومة التي انطلقت مع هزيمة 1967، والمقاومة التي انطلقت مع اجتياح 1982؟! وكان هذا السؤال سؤالاً كبيراً يعيدنا جميعاً الى طاحونة السيرة الذاتية الحديثة للعرب! إن العرب اليوم يعترفون للبنان بعظمته في صناعة تاريخه الوطني وسجلاته في مقاومة الاحتلال، ويسألون السؤال الأوضح الذي تطرحه الذاكرة بقوة هذه الايام، فلماذا لم تحقق المقاومة الفلسطينية ما حققته المقاومة اللبنانية. ولماذا تقطف الاولى اوسلو، وتقطف الثانية حرية الوطن كله؟! والجواب موجود في التاريخ، وتمكن صياغته بأكثر من طريقة للوصول الى ما يقنع فعلاً، لا الى ما يولد متاهات جديدة. وطبيعة سرد وقائع ومفارق "المسار الصعب" للفصائل الفلسطينية قد تعطي ملامح هذه الاجابة: ففي البداية يتذكر الجميع أشكال الظهور الفعلي للفصائل المقاومة الفلسطينية، والحماس الوطني لهذه التظاهرة التي تجلت بشكلين اساسيين هما: - حركة التحرير الوطني الفلسطيني - فتح. - الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وقد كان لهذين الفصيلين الجذور السياسية والوطنية قبل هزيمة 1967، ويذكر هنا دور حركة القوميين العرب في تشكيل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. اما الهدف الكبير الذي كان محور مثل هذه الولادات، فهو: تحرير فلسطين. بمعنى آخر، صبت جداول كثيرة من الاتجاهات السياسية في نهر واحد هو الذي يُوحد فصائل كل حركة تحرر وطني تكافح من اجل استقلالها. وقد صعدت هزيمة 1967 من حركة الواقع بهذا الاتجاه. وكان لها الاثر الكبير في تفعيل كل شيء سياسي ووطني في الواقع العربي. ولكن الذي حصل ان هذا النهر الجارف عاد وتشظى الى جداول ضعيفة تحت مختلف الاسباب، ومنها الاسباب الايديولوجية، التي اعاقت فعلياً - على عكس المتوخى منها - العمل من اجل الهدف الاساسي، فظهر اليسار، وتدافع بعض الاجنحة لرفع الاعلام الحمراء على المآذن والكنائس. ثم انبرى اليمين للدفاع عن مواقعه الايديولوجية، وانشغل الطرفان بالصراع في ما بينهما من جهة، ومع الواقع المحيط من جهة ثانية! وشيئاً فشيئاً تراجع الدور الفعلي لفصائل المقاومة، امام زخم التشظي والتوالد، وصارت الصورة على شكل تنظيمات لا تُحصى. ايضاً، لا بد من ذكر تدخل الدول العربية في المقاومة الفلسطنية وربما كان ذلك غيرة عليها! ونتيجة هذا التدخل، الذي اسفر في شكل منه عن ظهور فصائل جديدة تتبنى وجهات نظر هذه الدول، وتشكل ثقلاً ما على الساحة الفلسطينية. وبين هذين المعطيين: الايديولوجيا - تدخل الدول العربية، ظهرت وجهات نظر - ربما كانت تبلورت ولم تظهر - تتعلق بنظرية حماية المقاومة، وتشكيل قاعدة انطلاق محاكاة نموذج: فيتنام، هانوي الانطلاق. فلا بد للمقاومة في هذه الحال من قاعدة، او حماية دولة او عاصمة عربية لها، وتحديداً في دول الطوق. وهذا يعني ان هذه الدولة يجب ان تكون محكومة من قبل نظام يتبنى هذا المنطق هو شي منه. فظهرت نظرية: "الطريق الى فلسطين تمر من...". وقد أدى هذا في شكل مباشر، او غير مباشر الى وقوع احداث ايلول سبتمبر في الاردن 1970. والى ظهور تجلياتها في الحرب الاهلية اللبنانية 1975-1976. والى المزيد من الحصار على المقاومة وتراجع فاعلية العمل الفدائي المقاوم! وهذه النتائج الاولية، تحولت تلقائياً الى مرتكزات لدعوات من اجل البحث عن دولة ولو على شبر، وبأي ثمن، حتى لو كان "أوسلو"! وهنا تختلط معطيات الظروف الموضوعية، ومستجدات الاحداث والمتغيرات في العالم مع معطيات الظروف الذاتية التي اجهضت الانتفاضة في الداخل، وهيأت الظروف للتراجعات التي حصلت. ومثل هذه الرؤية لا تعني التقليل من شأن التضحيات التي قدمت، ولا الاقلال من الدور الوطني لأي فصيل من فصائل المقاومة الفلسطينية. ابداً، وانما لا بد من تحمل مسؤولية التراجعات التي نتجت عن سياسات هذه المقاومة في المرحلة الماضية، وهذه الدعوة قد تدخلنا في متاهات كثيرة لسنا في واردها الآن، ولكن اذا كان لا بد من البحث عن محصلة الكفاح الوطني الفسطيني حتى الآن، فإن تلك النقطة تفرض نفسها تلقائياً! وفي النموذج اللبناني العتيد من المقاومة، ومع المحصلة المغايرة للمحصلة في النموذج الاول، تستحضر الذاكرة الوطنية اللبنانية مجموعة معطيات مهمة، لا بد من الوقوف عندها ومن بينها: 1- تركت المقاومة الفلسطينية آثارها الكبيرة على الاحزاب والقوى السياسية في لبنان - سلباً وايجاباً - وكانت المقاومة الفلسطينية في اعقاب هزيمة 1967 الاضاءة التحررية الابرز في سماء الهزيمة المظلمة. 2- أعطت المقاومة الفلسطينية محصلة تجربتها كاملة الى اللبنانيين الذين كان عليهم ان يواجهوا محتلاً وحشياً ضارياً، ولكن على ارضهم! 3- لم تكن المعارك الكثيرة والطويلة التي شهدتها الساحة اللبنانية إلاّ نوعاً من المراس على القتال، ولكنه تدريب بالرصاص الحي الذي اصاب مختلف المشاركين فيه وادماهم. 4- لم يكن اللبنانيون بحاجة الى "الايديولوجيا" بمختلف انواعها لتطوير الادوات الفكرية للأحزاب. فقد كانت هذه الاحزاب قد اجتازت هذه المرحلة، وانتقلت الى مرحلة الاختبار والمحك! هذه المعطيات، اضافة الى ما فرزه الاجتياح، متّنت بنيان الاحزاب والقوى اللبنانية، وحقنتها تجاه الكثير من الامراض الخطيرة، وجعلت غالبها يخوض المعركة ضد المحتل بطريقته وبالفاعلية التي يقدر عليها. ثم جاءت تجربة المقاومة الوطنية اللبنانية والعمليات الاستشهادية لتضيف الى هذا التراث المزيد من الخبرات التي عادت المقاومة الاسلامية وبلورتها من جديد وبزخم اشد اجبر الاسرائيليين على اعادة حساباتهم وجدولتها! كانت محصلة قوى فصائل المقاومة اللبنانية كلها - بغض النظر عن انتماءاتها الايديولوجية او الدينية او الطائفية - كانت هذه المحصلة تصب في نقطة واحدة هي: "مقاومة المحتل". لذلك كانت فاعلة، وغير مشتتة. وقد حصل هذا في المقاومة الفلسطينية اكثر من مرة، واثبت فاعليته، وهناك نموذج مهم ماثل امام الجميع هو "معركة الكرامة" في آذار مارس 1968. واذا كان لا بد من الحديث عن عمق المقاومة او ظهرها، كما يقال احياناً، فقد ارتكزت مختلف القوى التي شاركت فيها على ثوابت مهمة، ابرزها هي عدم اظهار اي تناقض مع الحليف... مع العمق. وفي هذه الحال، لم تكن بحاجة الى صنعه بقدر ما كانت بحاجة الى تقديم الامثولة بجدارة، فصارت ابناً شرعياً للعرب جميعاً! وهنا لا بد من الاعتراف ان القوى اللبنانية في ما بينها خفضت مستوى التناقضات الى ابعد قدر ممكن، وفوتت الفرصة على كل محاولات اثارة الفتن كي لا تحدث الوقيعة. وعلى هذا الاساس، كان موقف السيد حسن نصرالله مهماً وذا بعد كبير في التاريخ اللبناني الوطني عندما اعلن ان هذا النصر ليس حكراً على حزب بعينه، او طائفة بعينها، انما هو نصر للبنان... لكل لبناني! وهنا تتحول صيغة لبنان تلقائياً، ومع متابعة الوحدة الوطنية اللبنانية الى اقصى تجسيد لها، تتحول صيغة لبنان الى صيغة حضارية - نعم حضارية! ليس للعرب فقط وانما للعالم ايضاً... ولكن لا بد من التذكير بالمعطى الاساسي لكل هذه النتائج، وهو: الديموقراطية! فالديموقراطية وحدها هي التي تتيح استمرار هذه الصيغة... لأنها هي التي هيأت لظهورها اصلاً. وإذا كان الحاضر يؤكد ان لبنان هو نموذج في "مقاومته" للاحتلال، فهذا يعني ان المستقبل سيضيف اشياء اخرى تجمعها الصيغة الحضارية للوطن الذي يحق لأبنائه الاختلاف فيه ليس في الدين، ولا في الطائفة ولا في الاتجاه السياسي فقط، وانما يحق لهم الاختلاف ايضاً في طريقة التعامل حتى مع "العملاء"، وهي قضية وقف عندها اللبنانيون بعزة، ومن مختلف الاتجاهات، وكانت تسعى لدعوة العملاء الذين فروا الى العدو كي يعودوا الى الوطن ليقولوا كلمة "العدل" فيهم... وكل هذا يعني ان لبنان لم يعد بحجم ابهام طفل صغير على خارطة كبيرة، وانما هو خارطة للحضارة على صدر هذا العالم!