قضيت أغلب نهار يوم الجمعة الرابع من شهر كانون الأول ديسمبر سنة 1992 في الاتصال هاتفياً بكل أساتذتي وزملائي في قسم اللغة العربية، واتفقنا جميعاً على أن نعقد جلسة قريبة جداً للنظر في تقرير عدم ترقية زميلنا نصر أبو زيد، واتفقنا على أن تكون الجلسة يوم الاثنين التالي، الموافق السابع من الشهر نفسه. وخطر على بالي أنه من الأهمية بمكان أن أستعد بمسودة تقرير علمي مضاد، يكون بمثابة الرد العلمي الهادئ عن التقرير التكفيري الانفعالي. وطلبت من الدكتور محمود علي مكي تزويدي بملاحظاته وتعقيباته على التقرير، وذلك لأنه خبير بالإنتاج المقدّم وقرأه قراءة فاحصة مدققة قبل إعداد تقريره الذي لم تقبله اللجنة، ومن ثم فهو أقدر من غيره على التعقيب الحاسم والعلمي على افتراءات تقرير التكفير، كما طلبت من زميلي نصر أبو زيد قراءة التقرير أيضاً، وتزويدي بكل ما يراه جديراً بالرد العلمي الهادئ، واتفقنا على أن تصلني الملاحظات والردود في نهاية اليوم التالي أو صباح اليوم اللاحق له على أكثر تقدير. وهذا ما كان. دعوت رسمياً لاجتماع القسم مجلس الأساتذة في الموعد الذي اتفقنا عليه، وواصلت العمل ليلاً ونهاراً في إعداد مسودة التقرير المضاد، معتمداً بالدرجة الأولى على متابعتي الدقيقة لكتابات زميلي ومعرفتي الكاملة بإنجازاته المتتابعة، مستعيناً بكل ما قدّمه محمود علي مكي من ملاحظات وتعقيبات، فضلاً عن كل ما كتبه نصر أبو زيد نفسه. وظللت أواصل العمل في حماسة المدافع عن قضية عادلة، هي قضيته وقضية كل الباحثين عن أفق واعد من البحث العلمي، بعيداً عن سطوة التطرّف وتعصّب التقليد الجامد. وأذكر أنني لم أفرغ من العمل إلا في فجر يوم الاجتماع. ذهبت إلى جلسة القسم التي حضرها أربعة من أعضاء لجنة الترقيات نفسها بوصفهم أساتذة في القسم، وهم محمود علي مكي، ونبيلة هانم إبراهيم، وسيد حنفي حسنين، ومحمود فهمي حجازي. وكنت أخشى أن يبدي الدكتور يوسف خليف بعض التعاطف مع تقرير عبدالصبور شاهين، فلم يكن من المعجبين بالأساليب الحديثة التي يتبعها نصر أبو زيد في دراسة علوم التأويل، ولكني فوجئت بحماسة الرجل ودفاعه النبيل عن حرية البحث العلمي، بل تأكيده أنه لا معنى للجامعة مع وجود أي تحفظ على حق الباحث أو البحث في الاجتهاد والاختلاف، وأنه شخصياً على رغم اختلافه الشديد مع نصر أبو زيد إلا أنه يراه جديراً بالترقية، وجديرا بالاحترام العلمي الخالص. وكانت المفاجأة أن كل الذين حضروا لجنة الترقيات، ووقّعوا على تقرير عبدالصبور شاهين، أعلنوا جدارة نصر أبو زيد بالترقية، ولم يترددوا في إظهار استنكارهم للتقرير الذي وقعوا عليه، و أعلنوا استعدادهم للاشتراك معنا في رفضه ودحضه علمياً. وعند هذا الحد، أخبرت أعضاء مجلس الأساتذة أنني - حرصاً على الوقت - أعددت مسودة لتقرير علمي يصدر عن القسم وباسم مجلس الأساتذة، ولهم أن يوافقوا على المسودة أو يرفضوها أو يحذفوا منها أو يضيفوا إليها بالتعديل أو الزيادة، فطلبوا مني قراءة ما كتبت، فقرأت عليهم ما انتهيت إليه من صياغة. ولم يقاطعني واحد منهم إلا لكي يستبدل كلمة بأخرى، إلى أن فرغت من القراءة، وسألتهم الرأي، فوافقوا جميعاً على أن يكون ما قرأت هو التقرير العلمي الجماعي لرأي القسم، ووقعوا فرداً فرداً على التقرير الذي كتبته بخط يدي، ولا يزال كذلك في وثائق كلية الآداب. وانتهت جلسة قسم اللغة العربية التاريخية التي عقدناها يوم الاثنين السابع من كانون الأول ديسمبر 1992، وخرجنا جميعاً تحتوينا مشاعر الفخر في الانتساب إلى تقاليد علمية جليلة، ربطت بين اثني عشر أستاذا جامعياً وأستاذة، تختلف اتجاهاتهم المنهجية وتياراتهم الفكرية ومواقفهم السياسية، وتتباعد أساليبهم إلى درجة العراك والقطيعة، ولكن وصل بينهم، هذه المرة، إيمان عميق بمعنى الجامعية وضرورة احترام قيم العلم التي تقف على رأسها قيمة حق الاختلاف واحترامه. ولم أشهد للإجماع الذي حدث في هذا الاجتماع مثيلا في القسم من قبل، أو من بعد، إلى اليوم. وفي صباح اليوم التالي الثلاثاء تابعت بنفسي وصول تقرير القسم رسمياً إلى عميد الكلية الذي لم يتردد في إظهار تعاطفه مع موقف القسم عندما قابلته، ووعدني بعرض الموضوع على مجلس الكلية في جلسته القادمة بعد أقل من أسبوعين. وبالفعل، تم عرض الموضوع في مجلس الكلية في جلسته المنعقدة صباح السبت التاسع عشر من الشهر نفسه. ولم يكن أعضاء المجلس أقل تعاطفاً من عميد الكلية، بل على العكس رأى الأساتذة الكبار من أمثال مصطفى سويف أن تقرير اللجنة العلمية انحرف عن غايته، وأنه في جنوحه إلى محاكمة عقيدة الباحث يضع سابقة خطيرة تهدد حرية البحث العلمي وتقدمه في الجامعة كلها. وانتهت المداولات الحماسية لأعضاء المجلس كله، بعد إقرار تقرير قسم اللغة العربية بالإجماع، إلى تشكيل لجنة لصياغة رأي مجلس الكلية في تقرير اللجنة العلمية. وكانت اللجنة برئاسة أستاذنا الدكتور مصطفى سويف وعضوية كل من حسن حنفي وعبدالعزيز حمودة وجابر عصفور. والواقع أنني - بوصفي رئيسًا لقسم اللغة العربية - لم أكن متحمساً لتشكيل لجنة جديدة خوفاً من التباطؤ في الإجراءات وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من فتور في الحماسة، خصوصاً أننا كنا على أبواب عطلة، ولن يجتمع مجلس الكلية طوال شهر كانون الثاني يناير المقبل. ولكن الزملاء في المجلس أقنعوني بالقبول، حرصا على الموضوعية الكاملة، وتأكيداً لدور مجلس الكلية وحقه في أن يبحث الأمر بنفسه، فضلاً عن أن تشكيل اللجنة كان مطمئناً إلى أبعد حد، فأستاذنا مصطفى سويف من المؤمنين بحرية البحث العلمي، وهو رمز من رموز الكلية البارزة، وحسن حنفي أستاذ نصر أبو زيد، وحماسته له غير خافية على أحد، فضلاً عن أنه من حيث التخصص قريب من المجال الذي تدور فيه أبحاث نصر أبو زيد. ولم يظهر عبدالعزيز حمودة في ذلك الوقت إلا كل ما يشجع على الاطمئنان إليه في مسألة حرية البحث العلمي، فضلا عن أنه قاد - أثناء عمادته للكلية - أكثر من موقف لإنصاف الزملاء الذين ظلمتهم لجان الترقيات، وتمت ترقيتهم بتقارير من مجلس الكلية، بعد دعم مجالس أقسامهم علمياً. وكانت الحال البارزة - قبل موضوع نصر مباشرة - حال الزميلة عفاف المنوفي، وذلك في سلسلة جمعت غير واحد من أعضاء مجلس الكلية نفسه. واجتمعت اللجنة أكثر من مرة. وفي كل مرة، كان أستاذنا الدكتور مصطفى سويف حريصاً على أن يخفف من انفعالنا إلى أبعد حد، وأن يضعنا في مواجهة الحقائق العارية وحدها، بعيداً عن أية أحكام وجدانية بالقيمة أو الانتقاد السلبي المباشر. وكان واضحاً - في مداولاتنا - أنه يريد البدء من حيث انتهى تقرير قسم اللغة العربية الذي كان في تفصيله وتدقيقة عملاً علمياً مسهباً، كما كان واضحاً كذلك حرصه على أن تكون لغة التقرير موجزة، حاسمة، مقنعة، تحدث التأثير المقصود منها، وهو الحصول على الموافقة الإجماعية من أعضاء مجلس الكلية. وفي الوقت نفسه، استمالة أعضاء مجلس الجامعة الذين لن يتوافر لديهم الوقت لقراءة التقرير التفصيلي لقسم اللغة العربية. ولذلك حرص مصطفى سويف على كبح جماح عباراتي أثناء إعداد التقرير، وعلى الاقتصار على الوقائع المحددة البارزة ليحدث التقرير ما قصدنا إليه جميعاً، وما كان كل واحد فينا يستشعره، في أعماقه، من أن الموضوع ليس موضوع ترقية زميل عزيز أو صديق حميم أو أخ حبيب، وإنما الدفاع عن حرية البحث العلمي في الجامعة، وحماية الباحثين الجادين من بطش الذين يخافون التجديد المختلف والاجتهاد المغاير. وكانت النتيجة تقريراً منطقياً، محايداً، هادئاً إلى أبعد حد، يتكون من سبع ملاحظات. أولاها أن نصر أبو زيد قدّم ثلاثة عشر عملاً تقع جميعاً في مجالات دراسات النقد والنحو والدراسات الإسلامية. تسعة منها في المستوى الأكاديمي التخصصي بالمعنى الدقيق، وأربعة منها يمكن تصنيفها على أنها من قبيل النشاط الثقافي العام. وتتميز الأبحاث التسعة أنها تجمع الصفات العلمية المطلوبة في الأبحاث المقدمة للترشيح لدرجة الأستاذية في قسم اللغة العربية. وثانية الملاحظات أن التقرير اعترض على ما قدمه المرشح من نقد لأفكار الإمام الشافعي في بحثه "الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية". ومع ذلك فقد كان الإمام الشافعي نفسه مجتهداً وداعياً للاجتهاد، وكان لا يكف عن ذم التقليد، كما أنه لم يحجم عن نقد الإمامين أبي حنيفة ومالك. وجدير بالذكر أن الاجتهاد العلمي لا بد أن يبدأ بالنظر النقدي الموضوعي في ما هو معلوم تمهيداً للكشف عن الجديد وإضافته. وترتبط الملاحظة الثالثة بما نص عليه التقرير من أن دراسة "التأويل في كتاب سيبويه" مقال يحسب للباحث، ومع ذلك لم يورد التقرير عن هذا البحث سوى سطرين ونصف السطر. وهو أقل نصيب فاز به أي بحث من البحوث التي تقدّم بها المرشح، بينما بلغ حجم ما كتب عن بعض البحوث الأخرى أربعين سطراً أو أكثر قليلاً، الأمر الذي يفرض التذكير أن تقويم الأعمال العلمية يجب أن يتناولها بالعرض المتوازن بين إيجابياتها وسلبياتها. وتتصل الملاحظة الرابعة بالأمر نفسه، خصوصاً من الزاوية التي جعل بها التقرير من بحثي "التأويل في كتاب سيبويه" و"مركبة المجاز" بمنزلة بحث واحد "نظراً إلى ضآلة حجم كل منهما". ومع ذلك فإن البحث الأول يقع في أربع وثلاثين صفحة، والثاني في ست عشرة صفحة من القطع المتوسط. وقد أخطأ تقرير اللجنة في ذلك، أولاً لأن الأعمال العلمية لا تقاس قيمتها بكمية صفحاتها، وثانياً لأن البحثين يتناولان موضوعين مختلفين تماماً. ومن المعلوم أن الاعتبار الأول بالنسبة لأي بحث في مجالات المعرفة المختلفة إنما يكون من حيث الموضوع، ونحن هنا بصدد موضوعين اثنين لا موضوعًا واحدًا. أما الملاحظة الخامسة فتتصل بما انتهى إليه التقرير من تقويم بحث "الإنسان الكامل في القرآن" ووصفه له أنه نشاط ثقافي عام لا يدخل في باب العمل العلمي. ومع ذلك فهذا البحث منشور علمياً باللغة الإنجليزية في دورية أكاديمية محكمة، هي مجلة جامعة أوساكا في اليابان. هذا من حيث الشكل. أما من حيث المضمون فالبحث دراسة دلالية لآيات القرآن التي تتناول الإنسان جسداً وروحاً، كما يتناول إنجازات عدد من كبار المفسرين في هذا الصدد مثل الطبري والزمخشري. وقد اقتضت هذه الدراسة الباحث أن يدقق في مؤلفات ابن عربي وما كتب حولها من دراسات، وقد أراد الباحث أن يقيم بحثه هذا في مواجهة بحوث المستشرقين لما فيها من ثغرات وتجاوزات منهجية. وكان في محاولته هذه ملتزماً بمقتضيات التوثيق العلمي الدقيق لما يستخلص من استنتاجات وما يصدر من أحكام. ولذلك رأينا أن هذا البحث إنما يحسب للمرشح ضمن إنتاجه العلمي. وتنصرف الملاحظة السادسة إلى ما ورد في التقرير من عبارات لا يجوز استخدامها في تقارير اللجان العلمية، ولا يجوز ذكرها في العمل الجامعي بوجه عام. ومن ذلك إشارة التقرير إلى أن الباحث "وضع نفسه مرصاداً لكل مقولات الخطاب الديني، حتى لو كلفه ذلك إنكار البديهيات، أو إنكار ما علم من الدين بالضرورة"، وما جاء من اتهام مباشر للباحث في عقيدته وأخلاقه. وتختتم الملاحظة بتأكيد أن هذه العبارات وأمثالها تنطوي على محاكمة المرشح في ما يتعلق بضميره وعقيدته الدينية، وما لا سبيل للعلم إلى محاكمته عليه، وما ليس موضوعاً أصلاً للتقويم العلمي. ولم تفت الملاحظة السابعة والأخيرة ما انطوى عليه التقرير من حجب المعلومات البيبليوغرافية الخاصة بالنشر العلمي للأبحاث التسعة السابقة، فقد ذكر التقرير أن الأبحاث التي تقدم بها المرشح نشرت في مجلات وكتب محدودة الانتشار. والحقيقة أن معظم هذه الأبحاث نشر في مجلات علمية محكمة، وصدرت لكتب الباحث أكثر من طبعة في أكثر من بلد عربي، كما ألقيت بحوثه في مؤتمرات علمية. ومضى التقرير يعدّد الأمثلة على ذلك، ليثبت تحامل كاتب التقرير، وحرصه على إخفاء المعلومات التي تجافي النتيجة التي حرص على أن يصل إليها منذ البداية. ويصل التقرير إلى نهايته المنطقية التي بناها على مقدمات راسخة في ملاحظاته السابقة، وانتهى إلى أن الباحث تقدم بستة أبحاث مقبولة على الأقل. هي: البحثان اللذان قبلتهما اللجنة، والبحث الذي اعتبرته من قبيل النشاط الثقافي على رغم نشره في مجلة علمية متخصصة وبلغة أجنبية، ثم الأبحاث العلمية الثلاثة التي نشرت في مجلات علمية تتصل بتخصص الباحث وتخصص قسم اللغة العربية، وطبعت بعد ذلك كاملة كفصول ثلاثة في الكتاب الذي تم نشره مرتين: مرة في القاهرة والأخرى في بيروت. وترك التقرير القرار - بعد هذه النتيجة الحاسمة - لمجلس الكلية الذي اجتمع في العشرين من شهر شباط فبراير سنة 1993، وقرر بالإجماع الموافقة على تقرير اللجنة، والتوصية برفض تقرير اللجنة العلمية وترقية نصر أبو زيد اعتماداً على التقرير العلمي الذي تقدّم به مجلس قسم اللغة العربية واللجنة التي شكّلها مجلس الكلية على السواء. ولا أذكر أن تقرير لجنتنا - بعد أن قرأه مصطفى سويف بنبرته الهادئة الواثقة - واجه اعتراضاً يذكر، وأن جميع أعضاء المجلس أعلنوا موافقتهم عليه، ومن ثم موافقتهم على أن يتولى المجلس ترقية نصر أبو زيد كما تولى ترقية زملاء له من قبل.