بدأ العالم الثالث يتنبه الى اهمية حماية البيئة ولو بحذر في مستهل الألفية الثالثة الواعدة بكل مجهول. وبدايته، هنا ايضاً، خجولة ومتأخرة وعشوائية بداهة وكالعادة. لكنها بداية مع ذلك وهذا هو المهم. ففي موريتانيا اعلن رسمياً، وكان هذا من اسرار الدولة قبلاً، عن استفحال زحف التقحل او التصحر على نحو 7 7 في المئة من ترابها حالياً، كما نشطت نواكشوط اعلامياً بشكل لافت في اعمال الاجتماع الوزاري الاخير لمنظمة دول الساحل الافريقي التسع الذي قرر استحداث برلمان اقليمي للاطفال يهتم بشؤون التعليم البيئي، لتنشئة جيل مهتم بحماية البيئة. وفي دبي اعلن عن انشاء مركز البحوث والدراسات البيئية، كأول مركز متخصص بنشر وتأصيل حماية البيئة عبر اعادة صياغة سلوك الافراد والمجتمع بدءاً بالمدارس وفي ضوء المعايير الدولية. وفي بيروت جلس خبراء من دول عربية عدة للبحث في تأثير البيئة على التجارة في بلدانهم وإقتراح التشريعات التي تحميها من بعض الصناعات التي لم تصنع الى الآن سوى تخريب البيئة في هذا العالم العربي المتجه عدد سكانه ليصل عام 2005 إلى اكثر من 320 مليون على اساس معدلات الخصوبة الحالية، أي بزيادة 80 مليوناً خلال عقدين، ما يزيد الطلب بشدة على الموارد الشحيحة اصلا من المياه والاراضي الصالحة للزراعة ومنتجاتهما. وفي جاكرتا حيث انتهى اجتماع الدول المانحة، يؤكد تقرير علمي نشر في المناسبة، ان اندونيسيا، ارخبيل الغابات الأعظم بعد برازيل الامازون، تواجه خطر نضوب غاباتها الطبيعية خلال مدة لن تتجاوز خمسة عشر عاماً اذا استمرت السياسات الحالية نفسها في احتقار الغابات المطرية التي تشكل عشر مساحات الغابات الاستوائية في العالم. فالغابات في سومطرة وكاليمنتان وسولاويزي واريان جايا تنضب بمعدل 1.6 مليون هكتار في العام الواحد خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية، في حين اظهرت ارقام رسمية ان مساحة الغابات الطبيعية نضبت بنسبة 84 مليون هكتار وصولاً الى 9.25 مليون هكتار في عام 1991، بالمقارنة مع حجمها السابق البالغ 140.4 مليون هكتار في عام 1970. وكان الامر فاجعة عندما عشنا وهو ما عرضناه قبل عامين في مؤتمر دولي حول البيئة في بيروت، ذلك التزامن المثير الذي مر من دون انتباه من احد: فبينما كان رواد مركبة اتلانتس الاميركيون يسلمون الى زملائهم الروس رواد المحطة الفضائية العجوز "مير" كومبيوترا مركزيا ضخما جديدا ليحل محل كومبيوتر مير العاطل في رقصة فالس كانت تتم بسرعة 28 الف و158 كلم في الساعة وعلى مسافة 380 كيلومتراً فوق سطح الارض مسجلة من جديد نجاحا انسانيا عظيما ومدشنة عصر السلام البارد بين العملاقين, كانت الحرائق على الارض تلتهم اكثر من مليون هكتار من الغابات الاندونيسية كما تسببت فوق ذلك بسحب سخماء هائلة اكملت مع الحرائق في عملية قتل كل ما في تلك الغابات من بشر ودواب وحشرات، بل أدت الى اسقاط طائرة مدنية ومقتل ركابها ال233 وربما اكثر، جميعاً، بسبب الدخان والضباب الناجمين عن الحرائق، كما اوقفت الحياة في مقاطعات سكانية بأكملها، ولوثت سلفاً ليس اجواء اندونيسيا فقط وانما وصلت الى معظم ماليزيا كما تسربت الى اجواء تايلاند والفيليبين وكل آسيا والبحار المجاورة. اما سبب هذه الكارثة، فليس من صنع صحون طائرة جاءت من كوكب آخر ولا من فعل حمم بركانية اندفعت من امعاء الارض في لحظة غضب جهنمية لا يعرف اسرارها الا الله. انما، وبكل بساطة، لأن شركات تجارية كانت تسعى الى استثمار الارض باسعار بخسة والتخلص من الاشجار بأقل كلفة ممكنة فاضرمت الحرائق في المنطقة، غير آبهة حتى بالقيم التجارية الاكثر وحشية. تلك الكارثة البيئية الضخمة التي اجتاحت منطقة جنوب شرق آسيا جاءت لتؤكد من جديد ان مستقبل الحياة الانسانية لن يكون معبدا بالانتصارات العلمية والفضائية وغيرها فقط انما تهدده الكوارث من كل جانب، والكوارث البيئية، خصوصا اذا اقتصرنا على العالم الثالث. لا سيما وان التلوث الجوي والخراب البيئي بسبب حرائق الغابات وغيرها والمتسارع اصلا في مناطق اخرى منه لا يمثل سوى بعض المظاهر الصارخة في هذا المجال . كما ان مصادر التلوث لم تعد مقتصرة على تلك القادمة من التوسع الصناعي العشوائي وحده، انما هناك التلوث الآخر الاخرس وغير المنظور، لكن الاعظم بنتائجه الخطيرة الذي يسمم هواء المدن الكبرى وفي كل البلدان النامية تقريباً. فالعواصم الرئيسية في آسيا واميركا اللاتينية وحتى افريقيا تكاد تختنق اكثر فاكثر حالياً في موازاة تورمها السكاني المخيف وازدهارها الحياتي المشوه والذي ينعكس سلبياً في مختلف مجالاته، كما الحال مثلاً في ارتفاع عدد السيارات والحافلات وما تنفثه من غازات كيمياوية سامة وغبار معدني قاتل، مقابل غياب أي اجراءات وقائية على مختلف الأصعدة وفي المديين الآني والبعيد. وفي لحظة نجاح زواج اتلانتس و"مير" فضائياً، اعلن في مكسيكو العاصمة ان معدلات التلوث، وسببها ثلاثة ملايين سيارة في شوارع المدينة، وصلت الى درجات تشكل خطورة على حياة السكان، الامر الذي استوجب اعلان حالة الطوارئ وايقاف عدد من المصانع. وفي الوقت نفسه، كان تقرير صادر عن البنك الدولي يعلن ان الصين اصبحت من البلدان الاكثر تلوثاً في العالم متوقعا مستقبلاً مظلماً للبيئة في كل الصين اذا استمرت هذه الحال حيث كشف ان التدهور البيئي في الصين يتسبب في موت 289000 شخص سنويا ويكلف نحو 7 الى 8 من الدخل الوطني وان الظاهرة التدميرية هذه يخلقها عاملان: استهلاك للطاقة يعتمد 80 في المئة على الفحم، وتضخم المدن بشكل سريع حيث تأخذ السيارات نحو 10 في المئة من مساحة معظم المدن الكبيرة. ولنلاحظ هنا ان كوارث التلوث التي تتعرض لها بلدان العالم الثالث ومنها البلدان العربية، لا سيما مدنها الأعرق: بيروت وبغداد والقاهرة والرباط، لا تأتي بسبب برامج تطور مستقبلية او نووية كما الحال في البلدان الصناعية الغربية انما بسبب عشوائية البرامج او غيابها، ما يعني ان الكوارث البيئية في العالم الثالث مصدرها الفقر المقترن بالتفريط المسرف في الثروات الطبيعية بفعل شركات محلية او متعددة الجنسيات اكثر فاكثر شراهة وجهلاً. فكارثة احتراق الغابات الاندونيسية او تلوث اجواء الصين او المكسيك او ازالة اهوار جنوب العراق بيد الدولة ليست النماذج الوحيدة او الاكثر خطراً في عوامل تدمير البيئة في البلدان النامية، انما هناك قبلها، ونتوقع ان تأتي بعدها، نماذج اخرى وفي هذه البلدان حصراً. فقد سبقتها كوارث استمرت لبضعة عقود وبعضها لا يزال الى الآن من بينها الخراب البيئي في منطقة الساحل الافريقي المتمثل بزحف الصحراء بسبب اسراف التجار المحليين والسكان في قطع اشجار الغابات لاستهلاكها كوقود، او انهاك الارض بمنتجات زراعية او رعوية من اجل الاثراء السريع. ومثلها ايضاً، وعلى سبيل المثال دائماً اسراف التجار المحليين في زراعة المخدرات في عدد من البلدان او زراعة القات في بلدان اخرى من دون الحديث عن تغييب الغابات في الامازون وتدمير الغابات العذراء الهائلة سابقا في كردستان العراق باسم حب الوطن والتقدم والازدهار. وبالاضافة الى ان هذا الامر لم يحل مشكلة ندرة الموارد المبتغاة ولم يحقق الاغراض المستهدفة الاقتصادية او السياسية، ادى الى المزيد من الجفاف والتصحر وانجراف التربة وسباخ الارض وتشبعها بالملوحة الدائمة احياناً ما ساهم بقسط وافر في تلويث البيئة بشكل اشمل وفي افتقاد الارض توازنها الايكولوجي وفي استفحال ظواهر تساهم في تحطيم الحياة نفسها في بعض المناطق كما هو الامر حالياً في بعض الاجواء الاندونيسية حيث اكد الخبير الزراعي الفرنسي باتريس لوفان في تقرير نشره اخيراً ان الدخان الذي احدثته حرائق الغابات في سومطرة مشبع بجزئيات صلبة وبمواد كيماوية سامة، مثل اول اوكسيد الكاربون واخوته، ويمكن ان تقضي على الكائنات الحية التي تبلغها على الفور. لكل هذه الاسباب نعتقد ان كوارث البيئة في العالم الثالث تتطلب ايلاء اهمية كبيرة لنظرية التطور على المدى المستديم التي، ومنذ مؤتمر قمة الارض في ريودي جانيرو في 1992، لم يعد هناك شك بسلامتها كعلاج استراتيجي لبعض هذه المشكلة. لكنها حقيقة ايضا ان معظم دول العالم الثالث لا زالت بطيئة ومترددة في السير قدما في وضعها موضع التنفيذ، لاسباب كثيرة سياسية واقتصادية بلا شك.. الا ان تقاعس الاعلام عن لعب دور في هذا المجال يبدو العامل الحاسم والاساسي في أغلب الاحوال. وهذا ما تثبته التجربة الغربية حيث، بفضل الاعلام، أصبح الرأي العام معبأ لمواجهة مشاكل البيئة. وبفضل الاعلام وضغوطه وتثقيفه اصبح السياسيون اكثر انتباها لأهمية هذا الموضوع، الى انه من الصعب نسبياً ان يشهد الغرب في المستقبل الكوارث التي تحصل حالياً في العالم الثالث، والتي كان قد شهدها الغرب نفسه في فترات سابقة ربما بأكثر او ربما بأكثر خطورة احيانا. ولئن انتقلت قضايا حماية البيئة الان لتتموضع في قلب البرامج الانتخابية للمرشحين للرئاسات والبرلمانات، فذلك لأنها بغض النظر عن صدق اصحابها، تحولت الى مطلب شعبي والى شعار حضاري. وفي العالم الثالث ايضاً، فان تغيير الافكار وبالتالي السلوك البشري في مختلف مجالات البيئة قادر على انقاذها من مشكلات محتمة مثلما هو قادر على تدميرها بأبسط الممارسات. والاعلام يقع على مفارق الطرق الرئيسية ويمكنه ان يلعب دوراً يؤدي الى التوجه نحو السلوك الصحيح. وهذا ما تنبه له عدد كبير من الاعلاميين في العالم العربي سلفاً، بل هناك الآن شبكات محلية للاعلاميين البيئيين في المنطقة الا انها لا تزال محض نطفة فهي محدودة الانشطة كما لا تمتلك الامكانات الضرورية لأسباب كثيرة، اهمها بلا شك ضعف الحركة الشعبية التي تدعم هذا الاتجاه الى الآن. ولعل من عوامل تدني الوعي البيئي لدينا شيوع وعي مضاد يقوم على الاعتقاد بأن البيئة في بلدان العالم الثالث تختلف جوهريا عن مثيلاتها من المشكلات في الدول الصناعية الغنية والمتقدمة وكذلك نوعية اخطارها، على اساس ان الازمات البيئية في مجتمعاتنا ليست بالحجم الكارثي كما الحال في الدول الصناعية. الا ان هذه التصورات غير صحيحة في جانب اساسي منها على الاقل. فالتباين موجود وكبير، الا انه يتعلق بمجالين اساسيين هما: ان الدول المتقدمة قطعت مراحل متقدمة في الوقاية من عدد من مشكلات البيئة كما تخطط حكوماتها لمواجهة الكثير من المتبقي، من جهة، ويتعلق من جهة ثانية بحجم الوعي العام على المستويين الحكومي والشعبي وحتى لدى اصحاب الشركات لخطورة هذه القضية. هذا الوعي هو نصف العلاج على الاقل. لا يعني هذا القول ان الامور على ما يرام في الغرب، انما لا تزال هناك بالفعل انتهاكات للبيئة ترتكبها القوى الغربية هي الاخطر والمقصود التجارب النووية وغيرها من التجارب ذات الطابع الحربي من دون نسيان التلوث وتسمم الانهار والمساهمة في تدمير باطن الارض وغيرها من الانتهاكات التي ادت الى انهاك طبقة الاوزون من جانب وارتفاع سخونة الارض من جانب آخر. هذه الظاهرة الاخيرة قد تسفر، اذا استمرت كما هي عليه الآن، عن التسبب بكوارث جسيمة تهدد وجود اجزاء من البشرية من بينها تقلص المناطق الجليدية وارتفاع مستوى البحار الذي سيتمخض عنه غياب جزر ووديان واحتمال تزايد الفيضانات وكذلك الجفاف كما لاحظت هيئات رصد التغيرات الجوية انطلاقا من التأكد من ان سنوات الثمانينات سجلت تصاعداً في درجات الحرارة. لكن، يبقى صحيحاً ان اجهزة الاعلام تلعب دورا حاسما في التوعية البيئية في العالم الصناعي المتقدم، لاسباب تجارية احياناً، بينما لا يزال هذا الدور غائباً في البلدان العربية وعموم بلدان العالم الثالث. فهو في احسن الاحوال محدود وحديث ومزاجي في هذه البلدان. كما ان غياب دور الاعلام ساعد في الماضي في الجهل بحقائق كثيرة عن ضخامة الاضرار التي لحقت بالبيئة في العالم الثالث. ويكفي ان نذكر هنا موضوع التصحر التي لا يزال معظم الناس بل معظم الاعلاميين لا يعرفون جسامة الظاهرة، بينما تشير الاحصاءات التي انتهى اليها مؤتمر لشبونة الذي انعقد العام قبل الماضي حول هذا الموضوع الى ان هناك نحو 36مليون كيلومتر مربع, أي ما يوازي ربع الكرة الارضية يعاني حالياً من التصحر، وان التصحر سيمتد في نهاية القرن الحادي والعشرين ليغطي ثلث الكرة الارضية أي نحو 50 مليون كيلومتر مربع. دور الاعلام يمكن ان يكون حاسماً اذا علمنا ان دراسات الاممالمتحدة تقول بان هناك 5 4 سبباً معروفاً للتصحر منها 13 فقط تعزى الى تغيرات طبيعية، فيما تعزى الاسباب الاخرى الى سوء تدبير الانسان جراء الاستثمار غير العقلاني للمياه والتربة والنباتات والحيوان والطاقة. وكانت الدعوة الى عقد مؤتمر نيروبي 1977 جاءت بعد ان كان الزحف الصحراوي يهدد ما بين 50 و78 مليون نسمة بالموت والجوع، معظمهم في القارة الافريقية وفي الشرق الاوسط. والأمر نفسه يتعلق بظاهرة الملوحة او السباخ التي تغطي حالياً نحو 90 في المئة من اراضي مصر و50 في المئة من اراضي العراق. وهي نسب مرشحة للارتفاع في المستقبل القريب الا انها كان من الممكن ان تتقلص لو وجد وعي بيئي بهذه الكارثة الجدية التي تهدد الزراعة ليس في مصر والعراق فقط انما في معظم بلدان المنطقة. وفي رأينا فإن دور الاعلام في تطبيق مقررات مؤتمر ريو دي جانيرو سيكون اعظم اهمية في القرن القادم الذي سيكون عصر المعلومات، لا سيما وهو يقترن باتجاه العولمة الاقتصادية الذي يجتاح اسواق العالم، والذي ما كان ليولد لولا التمهيد له بعولمة وسائل العلام والاتصالات الحديثة التي كانت السباقة في هذا المجال كما يرى الاعلامي الالماني ديتر فايريش. كما ان التغيرات الهائلة التي يشهدها مجال الاعلام سوف تجتاح اصقاع الارض ولن تفرق بين عالم اول وعالم ثالث. فامبراطورية الاعلام هي "اول امبراطورية حقيقية لا تغيب عنها الشمس مطلقا". كما ان الاعلام هو احد اقوى القطاعات الاقتصادية في العالم، ولعله سيصبح الاقوى اذا صحت التوقعات بأن المعلومات لا المعادن والنفط والغاز ستصبح المادة الاولية في اقتصاد العالم في القرن الحادي والعشرين. واذا صدقنا جوزيف فايزنباوم في قوله "ان شبكة الانترنت العالمية هي القارة السادسة" حيث يقدر عدد مستخدمي الشبكة بمئة مليون او اكثر حالياً، فان دور الاعلام سيكون، اضافة الى ضرورته، رائداً في حماية البيئة والحياة الانسانية عموما لا سيما ان الانترنت لن يكون الوحيد في هذا المجال بعد انتشار البث الفضائي وتطور التقنيات الرقمية التي ستلعب دوراً حاسماً في التحكم بالاذواق والامزجة وهي بدأت تلعب دورا في توجيه القناعات السياسية، فلماذا لا تتجه او يفرض عليها التوجه، لحماية البيئة ايضاً. وهذا ما نقصده بمفهوم "الأعلامبيئوية". أي تحميل وسائل الاعلام رسالة جدية تتمثل في اشاعة ثقافة شعارها "المعلومات قوة بشأن البيئة" ايضاً، وتنطوي على مسؤوليات تهدف الى زيادة مساهمة المواطنين في حماية البيئة عبر اعتبارها من مطالبهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبالنسبة الى الدول العربية، من الممكن في المدى الفوري حث الصحافيين والاعلاميين على المباشرة بعدد من الخطوات الفورية والتمهيدية في هذا المجال، بدءاً من تقديم عروض حول الكتب المعنية بالبيئة وبتقارير المنظمات الدولية والاستفادة من كل التجارب في هذا الشأن، وصعوداً نحو الدعوة الى تأسيس برامج بيئية مباشرة وغير مباشرة تلفزيونية واذاعية بل انشاء قناة تلفزيونية للاعلام البيئوي. الا ان المنظور الاستراتيجي هو الذي ينبغي ان يحتل الاولوية في الاعتبار. فمن الملاحظ بشكل عام انه، وحيثما وصلت التقانيات المتقدمة اجهزة معلوماتية، اتصالات عبر الاقمار الاصطناعية، تلفزة مربوطة بشبكات الكابل وكافة "المكائن الثقافية "بما فيها الموسيقية والتصويرية والفيلمية..، فإن في الإمكان السعي منهجياً الى تشجيع قيام اجواء ثقافية تهتم اكثر فأكثر بحماية البيئة. كما يمكن توظيفها في عملية تكريس نمط جديد من العادات الاستهلاكية تعمل بصورة كثيفة على منع الدعاية والترويج التجاري لكل ما شأنه الاضرار بالبيئة مهما صغر ذلك الضرر، بينما تعمل في مقابل ذلك على التعريف بهموم البيئة وكل ما تعلق بهذه الهموم، وهكذا تدريجاً، حتى تصبح موضوعة حماية البيئة غاية في الحياة الاقتصادية ايضاً، خصوصاً وان هذا الغاية لا تعني شيئا آخراً سوى حماية الانسان، أي الارض. لكننا لا ندعو هنا الى خلط الاوراق. فسواء تعلق الأمر بمخابئ النفايات الذرية في العالم الثالث بما فيها بعض الدول العربية، او بثقب الاوزون المتزايد الاتساع، او البحث اليائس عن مواقع جديدة لرمي النفايات الصناعية او قبلها بإزالة الغابات المدارية، فإن كل ازمة تأتي لتفضح تبذيراً في المصادر الطبيعية تقوم به الدول الصناعية على حساب الدول النامية. لذلك من الضروري ان يكشف الاعلام هذه الحقائق بهدف تثقيف الرأي العام العالمي بالموضوع، ليلعب دوره في ارغام تلك الدول على تحمل مسؤولياتها، الجسيمة بلا شك، في معالجة امراض البيئة في العالم الثالث ضمن برنامج عالمي بالطبع. والتوصية التي رفعها تقرير التنمية العالمية الصادر عن برنامج الاممالمتحدة الانمائي للعام 1994 مهمة في هذا الصدد وتنص على قيام البلدان الغنية بمساعدة البلدان الفقيرة بطرق من بينها الضرائب البيئية التي تدفعها البلدان الصناعية للبلدان النامية. وقبل سنوات قليلة قام عدد من المثقفين الذين شاركوا في مؤتمر حول "اقتراب عام 2000" بإدانة الاضرار الملحقة بالمصادر العالمية، موجهين بذلك الانظار الى اللامساواة الشنيعة في توزيع الثروات في عالم يستهلك 20 في المئة من سكانه 80 في المئة من ثرواته ويتحملون مسؤولية 75 في المئة من تلويثه". لكن ما لحظه المؤتمر ايضاً ان مصدر هذه الظاهرة هو "التلوث الثقافي وضياع الهوية اللذان أديا الى تغرب شامل، وحوّلا البشر الى كائنات هشة تحت رحمة ضغط التوتاليتاريات السياسية والاقتصادية وضغط العادات الاستهلاكية والتبذير التي تجعل الارض بمواجهة الاخطار". وعموماً فإن العولمة سيرورة غير معروفة بما فيه الكفاية في الوقت الحاضر، والحديث عن العولمة اليوم بات شائعا من دون معرفة معناها الحقيقي غالباً. فالمفهوم السائد لهذه الكلمة يرتبط بالاقتصاد حيث يقال ان العولمة هي اولاً وبصورة اساسية سيرورة تحويل الرساميل على مستوى عالمي، او انها تهدف الى اخضاع مجموع الانظمة الاجتماعية والاقتصادية في العالم الى نسق اقتصادي واحد يقوم على السيطرة المالية او ما يسمى بديكتاتورية الاسواق والرساميل، وان هذه العولمة هي ايضا عولمة التجارة الخارجية عبر اخضاعها لقانون التجارة الحرة. وممها يكن الأمر فبالنسبة إلينا، العولمة ستكون كارثة اذا لم تقترن بحماية الحياة الانسانية ايضاً، وحماية الانسانية لا تعني شيئاً آخر سوى حماية الطبيعة من ايدي الجماعات الانسانية في معظم الاحيان. وعلى الصعيد المحلي فإن للاعلام دوراً جوهرياً وهو الترويج لما نسميه ب"العقد البيئوي" الذي يمكن ان يكون موازياً للعقد الاجتماعي وان يكون مثله عقداً مستقبلياً. واهمية دور الاعلام هنا تأتى من ان هذا العقد لا يتحول الى حقيقة وسيكون بلا جدوى اذا لم يتحول الى وعي وإلى اجراءات تعليمية واقتصادية ومالية وسياسية واجتماعية ايضاً، تدور جميعها حول السؤال: كيف يمكن تعمير الحياة، لا سيما الحياة المدنية؟ ذلك لأن المدينة هي مستقبل الحياة الانسانية المقبلة. فالقول أن سكان العالم مقبلون جميعاً ربما على العيش في المدن يقين أكيد ويقين القول أن مشاكل البيئة المدنية لا تحلها الاجراءات القصيرة النفس انما تحتاج الى رؤية استراتيجية واستثمارات طويلة الامد تخصص للتعليم والصحة للجميع وللعلم والتقنية خصوصاً للمعلومات الجديدة. وفي المدن قد تبدو مشاكل البيئة مختلفة، الا انها تظل في الجوهر نفسها، ذلك لأن معظم كوارث البيئية مصدرها هذه العملية القائمة على مراكمة الارباح على المدى القصير. والتي تسفر دائماً عن تبذير اكثر في المصادر المحدودة للارض. وهكذا بينما تحترق الغابات في الأرياف يؤدي تضاعف الاستخدام السيئ لوسائط النقل والمواد الكيمياوية واستفحال نزعات الاستهلاك الى تسميم اجواء المدن بالغازات الكاربونية المنبعثة من بقايا المحروقات النفطية او الفحمية وفضلات البلاستيك وقناني الكوكاكولا والفضلات الخطرة الاخرى في كل مكان. وكل هذا يتم بسرعة مذهلة في العالم الثالث حالياً من دون ان يعني الأمر قطعاً اننا نقصد هنا اطلاق صرخة جديدة ضد التكنولوجيا او الرفاهية. انما نطلق امنية ان توظف التكنولوجيا، وأعظمها تكنولوجيا الاعلام حالياً، في ايجاد مدينة اكثر أمناً ونظافة وديمومة وجمالاً. * رئيس تحرير القسم العربي في يونايتدبرس انترناشنال - لندن.