} ينتهي المخرج محمد خان، هذه الأيام، من تصوير آخر مشاهد فيلم "ايام السادات" الذي يمثله وينتجه أحمد زكي ويتابع حياة الرئيس المصري الراحل أنور السادات، من صباه إلى لحظة اغتياله. ومن المؤكد ان عرضه سيعيد الى الاذهان صوراً من مشاهد الحياة التاريخية السياسية المصرية، خصوصاً مسائل الاغتيال. وهنا نتوقف عند بعض أشهر الاغتيالات السياسية كما قدمتها السينما المصرية في تاريخها الحديث. يعتبر الاغتيال السياسي من "الاعمال البطولية" في عرف الجماهير، حين يمارسه بعض الأفراد أو الجماعات "ضد بعض الطغاة" او "نظمهم الشمولية"، بهدف "القضاء على هؤلاء الاشخاص وتغيير نظمهم القامعة وتحرير الشعوب المقهورة والمغلوبة على امرها". وحين تمارسه أنظمة ديكتاتورية ضد بعض الأفراد المعارضين يعد أمراً مخزياً ومكللاً بالعار، ومولداً للعنف والعنف المضاد له، ما يغرق المجتمع في حال من الفوضى والتوتر الاجتماعي. وقد يكون الاغتيال السياسي فردياً لا تدعمه جماعات سرية او معلنة منظمة، او جماعياً منظماً تقف وراءه جماعة او اتجاه او تيار، او قد يكون اغتيالاً حكومياً تمارسه الدولة نفسها ضد معارضيها بغية تصفيتهم والتخلص من الأرق الذي يسببونه. وتتعدد دوافع الاغتيال، فإما ان تكون شخصية وإما لتأليب الجماهير على حكوماتها، كالإرهاب الواسع المنظم المستمر، واظهارها في موقف العاجز عن السيطرة على الحكم واحكام القبضة الامنية، وإما من اجل تغيير نخبة حاكمة واحلال أخرى تسعى الى الحكم محلها، وإما للقضاء على رؤوس بعض الأنظمة الشمولية الراسخة في حكمها طويلاً من دون تغيير، وإما للدعاية ولفت الانظار. وينتمي إغلب القائمين بعمليات الاغتيال السياسي الى المعارضين السياسيين لنظام الحكم سواء من الأجنحة المدنية او الدينية او المسلحة. الاغتيال في السينما وكانت السينما العالمية سباقة الى خوض تجربة التعبير السينمائي عن الاغتيال السياسي في عدد من الافلام - العلامات الناجحة من مثل: "451 فهرنهيت" للفرنسي فرانسوا تروفو، و"زد" لليوناني كوستا غافراس، و"الاغتيال" للفرنسي ايف بواسيه، و"رصاصة واحدة في المكان الصحيح" للانكليزي ليندسي اندرسون. ولم تكن السينما المصرية بعيدة من خوض تلك التجربة المثيرة المعروفة ب"فيلم الاغتيال السياسي". وهي بمقدار هامش حرية التعبير الضئيل المسموح به والذي يزيد وينقص تبعاً لظروف الحكم والحكام، حاولت التعبير عن هذه التجارب التي قد تكون حدثت بالفعل، والثابتة تاريخياً، أو المتخيلة في واقع معروف بكثرة حدوث الإغتيالات السياسية فيه، او رمزية في ظل ظروف استثنائية قامعة. وسمحت ثورة تموز يوليو بالتعبير بمنتهى الوضوح والحرية عن الاغتيالات السياسية في مرحلة الحكم الملكي من اجل ادانته ووسمه بالفساد في محاولة منها للتبشير بنظامها الثوري الجديد، وحدث الشيء نفسه مع حكم الرئيس السادات، إذ سمح بالتعبير عن مساوئ العهد الناصري في الحقبة السبعينية، وشهدت الحقبة الثمانينية ايضاً نقد النظام الساداتي سينمائياً والتشهير به. ومن السمات المشتركة العامة بين معظم الافلام التي تعرضت لقضية الاغتيال السياسي، انها افلام سياسية بحت، فلم يحدث فعل الاغتيال السياسي ضمن سياق اجتماعي او كوميدي على سبيل المثال، واستند بعضها الى الواقع التاريخي المصري سواء في طريقة الاعداد او التنفيذ، او الهرب او الشخصية، والعرض جاء حقيقة او مجازاً او رمزاً مثل مقتل اللورد موين "جريمة في الحي الهادئ" او اغتيال الرئيس السادات "الغول". وواجهت هذه الافلام في معظمها اعتراضات رقابية عاتية مارستها اجهزة تنفيذية عليا في الدولة بدءاً من الرقابة، مروراً بمجلس الشعب البرلمان المصري والوزراء المعنيين وانتهاء بساحة القضاء، وتعرضت غالبيتها للمصادرة ثم الافراج عنها، مثل افلام "الكرنك" و"الغول" و"البريء" وان معظمها يتحدث عن جرائم تنتمي إلى العصر السابق لزمن انتاجها، ولم تكن لاحقة للحدث او مواكبة له، مثل "الكرنك" الذي انتج وعرض في السبعينات مفتتحاً الحديث عن افلام مراكز القوى ومساوئ الحقبة الناصرية، و"حب في الزنزانة" الذي أنتج وعرض في الثمانينات وتعرض لمساوئ الانفتاح الساداتي. شخصية سيئة وعادة تركز هذه الافلام على شخصية وحيدة سيئة، مظهرة عيوبها ومساوئها وفسادها السياسي، ومحاولة تشويه تاريخها الشخصي واسقاط هذه الملامح والصفات الشخصية على النظام الحاكم ككل في محاولة لاستعداء الجماهير له لإسقاطه، مثل شخصية محمود المليجي في "غروب وشروق" وصلاح نظمي في "امرأة من زجاج" وفريد شوقي في "الغول" وسعيد عبدالغني في "احنا بتوع الاتوبيس" وجميل راتب في "حب في الزنزانة" ومحمود مرسي في "ليل وقضبان". وكثيراً ما تنفذ عمليات الاغتيال السياسي في هذه الافلام في صورة بشعة منفرة مؤلمة ودموية، هدفها توليد حال من العداء والفعل المضاد لدى الجماهير المشاهدة وتوعيتها إلى بشاعة النظام السلطوية، وقد تحدث عملية الاغتيال في بداية الفيلم او في نهايته كحقيقة دامغة على ما يحدث، او تركه بنهاية معلقة تتيح للمتلقي فرصة التفكير لاختيار الحل بنفسه. ويعد "غروب وشروق" الذي كتب قصته احد الضباط الاحرار، جمال حماد، ووضع السيناريو والحوار له السيناريست رأفت الميهي قبل تحوله الى الاخراج في اوائل الثمانينات واخرجه كمال الشيخ 1970، واحداً من اهم الأفلام التي تعرضت للفساد السياسي في العصر الملكي، من خلال شخصية عزمي باشا محمود المليجي رئيس البوليس السياسي، وفي الجانب الاخر ينشط تنظيم سري لقلب نظام الحكم، يشترك فيه زوج ابنته ابراهيم خان الى ان يفاجأ بها في شقة صديقه، فيطلقها. وخشية الفضيحة يعد والدها خطة محكمة لاغتيال صهره تحت عجلات سيارة، ويقرأ زملاؤه خبر وفاته في الصحف التي تقدمه على انه انتحار، فتبدأ محاولاتهم كشف غموض الحادث، ويعلمون انه اغتيال سياسي وراءه عزمي باشا، ويحصلون على اوراقه الخاصة، ما جعل السرايا تستغني عنه. ويصور فيلم "ليل وقضبان" 1973، عن قصة لنجيب الكيلاني وسيناريو وحوار لمصطفى محرم ومن اخراج اشرف فهمي، مأمور المعتقل محمود مرسي في صورة سادية يقهر المعتقلين السياسيين ويتخلص من احدهم بكتم انفاسه ودفع رجاله إلى الفتك به، ويدبر عملية هرب وهمية من السجن عقابها معروف وهو الرمي بالرصاص. والأمر نفسه او ما يشبهه يشهده فيلم "احنا بتوع الاتوبيس" عن كتاب الصحافي المعروف جلال الدين الحمامصي "حوار خلف الاسوار"، وكتب المعالجة والسيناريو والحوار له فاروق صبرى واخرجه حسين كمال 1979، وكذلك في "البريء" 1986 لوحيد حامد وعاطف الطيب ومن بطولة احمد زكي. ويعد هذا الفيلم الوحيد في تاريخ السينما المصرية الذي اجتمع لمشاهدته وتقرير مصيره ثلاثة وزراء بينهم وزيران سياسيان، محمد عبدالحليم ابو غزالة وزير الدفاع والانتاج الحربي، واحمد رشدي وزير الداخلية، واحمد هيكل وزير الثقافة، وقرروا عرضه بعد حذف نهايته والاكتفاء بنهاية تلفيقية مصطنعة. وكم كان حزن الراحل عاطف الطيب على مصير فيلمه يومها كبيراً. وتدور احداثه داخل معتقل للمعارضين السياسيين، وينضم الى الخدمة العسكرية المجند الأمي احمد سبع الليل احمد زكي الذي يفاجأ بوجود احد ابناء قريته ضمن "اعداء الوطن" كما يعرفهم المسؤولون عن المعتقل، فيبدأ وعيه بالانجلاء، ويتم اغتيال احد المعتقلين صلاح ذو الفقار اثناء محاولته الهرب ويسجن سبع الليل لتمرده، فيقوم في النهاية الاصلية للفيلم بفتح النار على قادة المعتقل، ويموت ويسقط نايه الصديق الى جواره مغمساً بدمه البريء. في هذا الفيلم يعرض حامد / الطيب بمنتهى الصدق والصراحة ما يحدث للمعتقلين داخل المعتقلات المصرية، وعلى رغم انه لم يشر الى زمن محدد في محاولة للتغلب على الرقابة الصارمة التي تغالط نفسها وتنكر حقيقة ما يحدث، كانت كل الاشارات واضحة كسطوع الشمس في وضح النهار، وكان الفيلم اشبه ب"النبوءة". فبعد مدة غير طويلة على انتاجه، خرجت قوات الامن المركزي في شوارع القاهرة ثائرة لوعيها المغيب، مقتصة لحريتها وارادتها المسلوبة على طريقتها الخاصة في التعبير عن الثورة بتدمير كل شيء يقف في طريقها. "الكرنك" ضد عبدالناصر يلتقط ممدوح الليثي رواية نجيب محفوظ الدامغة للحقبة الناصرية بكليتها ويحولها سيناريواً يحمل عنوان الرواية "الكرنك" ويخرجه علي بدرخان 1975 في ثاني تجاربه الاخراجية بعد "الحب الذي كان" 1973. وقد اثار الفيلم ازمة كبيرة قبل عرضه، إذ رفع صلاح نصر المدير السابق للمخابرات العامة دعوى قضائية تطالب بوقف عرض الفيلم، لكنه خسرها وحقق الفيلم نجاحاً كبيراً من وراء هذه الدعاية المجانية. والفيلم في عمومه يؤرخ حقبة من حقب التوتر والقلق في تاريخ مصر السياسي المعاصر بدءاً بهزيمة حزيران يونيو 1967، مروراً بثورة "التصحيح" الساداتية في 15 أيار مايو 1971، وصولاً الى حرب تشرين الاول اكتوبر 1973. ويتعرض لمراكز القوى - هذا المصطلح الذي اطلقه جمال عبدالناصر نفسه - وقهرها الشباب وتقسيمها إياه بين ماركسي و"اخواني". ولعل جريمة الاغتيال السياسي التي تمت في الفيلم هي التي تعرض لها حلمي حمادة محمد صبحي داخل المعتقل، فهي جريمة سياسية وقعت هناك في حال من القمع، ووصفت الشخصية بأنها يسارية، وكان محفوظ يرمي من ورائها الى التذكير باغتيال القطب اليساري شهدي عطية الشفاعي في سجون عبدالناصر هاتفاً بحياته. يجيء ايضاً فيلم "الغول" 1983 للكاتب الجريء دائماً وحيد حامد والمخرج سمير سيف، ضمن الافلام التي سببت قلقاً على المستويين العام والخاص، إذ انه أثار ضجة رقابية كبرى امتدت احداثها الى الصحف والمجلات المحلية والعربية والعالمية، منافساً في ذلك فيلم "الكرنك" وفيلمه التالي "البريء". وترجع أسباب هذه الضجة الى اعتقاد الجميع، رسميين وعاديين، أن الفيلم يشير صراحة الى شخصية الرئيس الراحل انور السادات، خصوصاً في مشهد الاغتيال الأخير الذي قتل فيه عادل إمام الغول فريد شوقي بعدما غافل الحراس المدججين بالسلاح في عقر شركته، وحمل "بلطة" بين طيات ملابسه، وانفرد بالضحية وفتك بها واطلق فريد شوقي بعض العبارات الشهيرة التي رددها السادات لحظة اغتياله "مش معقول!! مش معقول". وكان الاغتيال هنا بهدف القضاء على شخصية مسيطرة على مقاليد الاقتصاد والسياسة بالتبعية، وفي التخلص منها يجيء الفرج وتتبدل الأحوال وتتغير الظروف السيئة الى ظروف افضل في رأي الجاني. ويعد فيلم "وراء الشمس" 1978 من الأفلام المهمة في السينما المصرية والتي تعري الواقع السياسي مباشرة. وهو مأخوذ عن رواية حسن محسب الحاملة الاسم نفسه، وكتب هو بنفسه السيناريو والحوار، واخرجه محمد راضي. وتدور احداث الفيلم عقب هزيمة 1967، حين يصر احد قادة الجيش صلاح نظمي على اجراء تحقيق شامل لتقصّي اسباب الهزيمة الحقيقية، فيغتاله في بداية الفيلم الجعفري رئيس السجن الحربي رشدي اباظة ثم يقتل المسجون نبيل الهجرسي الذي رفض البقاء مع المعتقلين السياسيين، وتسجل الوفاة على انها حدثت بفعل ضربة شمس. ويغتال الجعفري أيضاً الطالب عصام احمد زكي داخل المعتقل، ويعتبر موته نتيجة محاولة هرب. وتغتال سهير نادية لطفي بالرصاص في صحراء الهرم، وكذلك وليد محمد صبحي باحدى رصاصات مدير السجن الحربي، وايضاً الصول عبدالحق محمود المليجي اثناء احباطه محاولة تمرد داخل السجن، وينتهي الفيلم محذراً من أن ما حدث قد يحدث ثانية وثالثة وهكذا. كذلك تعرض فيلم "زوجة رجل مهم" 1988، من تأليف رؤوف توفيق واخراج محمد خان، لمضايقات رقابية من جهاز الشرطة ووزارة الداخلية المصرية لتعرضه لشخصية ضابط شرطة ومحاولة تقديمه في شكل لا يليق بهذه الشخصية ولا تاريخها ولا اهميتها على مدار التاريخ المصري الحديث. تدور احداث الفيلم بين ربيع 1975 وخريف 1980، من خلال ضابط الشرطة المقدم هشام احمد زكي الذي يتزوج من منى ميرفت امين وينقل الى القاهرة لتميزه، ويشترك في الحفاظ على الامن العام خلال احداث 18 و19 كانون الثاني يناير التي تعرض فيها النظام الساداتي لهزة سياسية عنيفة، كادت تودي بحياته. ونتيجة لاخطاء هذ الضابط يحال على التقاعد. ونراه نتيجة لسوء حاله النفسية يقتل والد زوجته بعدما سئمت من حياته واصلاحه، ويسارع هو الآخر الى النتحار، بينما تبقى زوجته تنعى الوالد المقتول والزوج القاتل والقتيل. فاغتيال الاب هنا هو محاولة للتخلص من سطوته وسلطته، واذ تم عفواً فسيتم بعد ذلك حين يتقدم احد ابناء الضابط الى وسط المنصة ويقتل الاب، وهو ما حدث فعلاً ظهيرة السادس من تشرين الاول 1981 في شخص الرئيس الراحل محمد السادات الذي من المؤكد ان فيلم محمد خان / احمد زكي عن حياته سيكون ذا شأن ويثير ضجّة، باعتبار ان اغتيال السادات كان افظع اغتيال عرفته الحياة السياسية المصرية.