لم يكن الكاتب وحيد حامد والمخرج الراحل عاطف الطيب، في العام 1986، ليكونا عرّافين أو متنبيين كي يحققا، أولهما كسيناريو، والثاني كفيلم، ذلك الشريط الذي يعتبر منذ ذلك الحين واحداً من «أفضل مئة فيلم حققت في تاريخ السينما المصرية: «البريء»، الذي قام بالدور الأساسي فيه الفنان الراحل أحمد زكي وإلى جانبه محمود عبدالعزيز وإلهام شاهين وغيرهما. ذلك، وعلى رغم كل ما قيل لاحقاً من ان الفيلم اتى أشبه بنبوءة توقعت أحداثاً عاصفة حصلت في مصر خلال الفترة اللاحقة تماماً لإنتاج الفيلم وعرضه، فإن أي مطلع على الأوضاع المصرية في ذلك الحين، كان يمكنه ان يعرف على وجه اليقين تماماً، ان انفجاراً ما سيحصل. وهو قول يمكن إيراده اليوم ايضاً - وفي شكل خاص - إزاء الأحداث المدهشة التي عرفتها مصر منذ يوم 25 كانون الثاني (يناير) المنصرم والتي أدت، حتى الآن، الى تنحي الرئيس مبارك وتبديل ستترسخ جذريته أكثر وأكثر، في السلطة ونمط الحكم... والأهم من هذا، الى تبديل جذري في اهتمام الشباب المصري بالسياسة وشؤون الوطن. في الحالة الراهنة يمكن ايضاً القول ان الانتفاضة اتت من حيث لم يتوقع أحد. وكذلك كانت الحال في صيف العام 1986، حين اندلعت «ثورة قوات الأمن المركزي» في مناطق عدة من القاهرة والمناطق المجاورة لها، فالأمور كانت من التفاقم يومها، بحيث ان اي امرئ كان في إمكانه ان يتوقع أحداثاً كبيرة من دون ان يعرف من اين ستأتي. أما ان يكون وحيد حامد وعاطف الطيب قد جعلا الانتفاضة تأتي من جانب فرد من افراد الأمن المركزي، فصدفة وعي تُسجل لمصلحة هذين المبدعين، من دون الزعم ان ثمة تطابقاً بين ما يرويه الفيلم وما حدث حقاً في الشارع. واللافت على اي حال، ما يرويه الناقد كمال رمزي من انه حين تقرر عرض الفيلم، احتارت الرقابة في أمرها، ما استدعى الطلب الرسمي من ثلاثة وزراء لمشاهدته قبل إجازة ذلك العرض (وزير الدفاع ووزير الداخلية ووزير الثقافة). ويروي رمزي انه فيما كان الوزراء مجتمعين، حدث ذلك «التمرد الخطير» من جنود الأمن المركزي الذين اندفعوا من معسكراتهم في منطقة الهرم وطريق القاهرة/ الاسكندرية ليحتلوا الشوارع الرئيسة في محافظة الجيزة، ما اضطر السلطات الى إعلان حظر التجوال وإصدار الأمر لقوات الجيش كي تتدخل... مهما يكن، نترك هنا التاريخ للمؤرخين ونعود الى الفيلم نفسه. في كل الحسابات، وحتى بغض النظر عن الصدفة التاريخية التي أضفت على فيلم «البريء» قيمة إضافية من خارجه، يمكن النظر إليه على انه فيلم شديد الجرأة، وما كان يمكنه ان يتحقق في نظام قمعي، أو قائم على هرمية سلطوية ما، لكن تلك السنوات المصرية التي أعقبت اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات، كانت سنوات وعود ديموقراطية، وتسامح مع حرية التعبير، واستعادة الحياة الحزبية. وقد استغل عدد كبير من المبدعين الفرصة لقول كلمتهم في ما يحدث في وطنهم. وقد كان صنّاع «البريء» في عداد هؤلاء. ومن هنا سرعان ما اتخذت حكاية فردية الطابع، سمات جماعية... وسمة المجاز، حتى من دون ان يكون في سياق الموضوع نفسه، ما يسمح لهذا في شكل جذري. فالموضوع الذي صاغه وحيد حامد يتحلق من حول فلاح بسيط وأمي يدعى احمد سبع الليل (احمد زكي) يعيش حياته في قريته الريفية وسط سخرية وملاحقة شبان من القرية. وكان من حظ سبع الليل هذا ان يجد من يدافع عنه ويحميه في شخص «مثقف القرية» حسين وهدان، وهو شاب ذو ميول تقدمية واشتراكية واضحة. وحين يجنّد سبع الليل في صفوف الأمن المركزي (بالتحديد لأنه لا يعرف القراءة والكتابة، كما يُحدَّد!)، يكون أول ما يزرع في دماغه هو انه إنما جنّد كي يدافع عن الوطن ضد أعداء هذا الوطن... وهو كي يقوم بهذه المهمة بصدق وعفوية يلحق بمعتقل صحراوي يقوم فيه، مع الكثير من رفاقه جنود الأمن المركزي بحراسة أعداد غير محدودة من المعتقلين. وهؤلاء المعتقلون - على طريقة ما يحدث في عدد من الأنظمة الشرق أوسطية في أيامنا هذه - يعتبرون من جانب النظام أعداء للوطن وخونة وصنيعة للأجنبي. ومن هنا، بفضل غسيل دماغ سبع الليل ورفاقه، يتبنى هؤلاء التوصيفات التي يسبغها النظام على المعتقلين، الى درجة ان سبع الليل، يتولى بنفسه أحد المعتقلين، إذ يحاول هذا الهرب من المعتقل ويكافأ الجندي «الشجاع» من رؤسائه على شجاعته هذه وهو يعتقد أن ما قام به إنما هو نبيل لخدمة الوطن. هذه الحال كان يمكن ان تتواصل طويلاً بالنسبة الى احمد سبع الليل، لولا انه يحدث ذات يوم ان تكون هناك موجة اعتقالات جديدة. وتكون المفاجأة المذهلة لأحمد سبع الليل ان من بين المعتقلين الشاب المثقف حسين وهدان الذي كان يدافع عنه في القرية. هنا أمام وجود وهدان في المعتقل يبدأ الجندي بطرح اسئلة حارقة على نفسه: هل يمكن ان يكون حسين وهدان حقاً، عدواً للوطن؟ انطلاقاً من هذا التساؤل الذي يكتسب سبع الليل عبره، وعياً متدرجاً، لا يجد امامه إلا ان يتولى حماية حسين (كما كان هذا يفعل معه في الماضي)، ولا سيما حين يبدأ جنود الأمن المركزي، كعادتهم بضرب المعتقلين بالعصي وأعقاب البنادق. وإذ تتنبه القيادة في المعتقل الى ما يفعله احمد سبع الليل، تأمر بالقبض عليه وتسجنه مع حسين جنباً الى جنب، بعد ان تسلبه شرائط الشجاعة التي كانت مُنحت له في السابق. وإذ يحدث في الزنزانة ان يموت حسين وهدان بعضة ثعبان (ويبدو ان هذه الميتة حلت في السيناريو، وكاستجابة لطلب رقابي محدد، محل ميتة أخرى كانت متصوّرة في شكل مختلف)، يستبد الحزن والغضب بأحمد سبع الليل، الذي بدلاً من التساؤلات وضروب الشك التي كانت تستبد به، يصل الى يقين لا راد عنه: ان حسين وهدان، صديقه الواعي، لا يمكن ان يكون واحداً من اعداء الوطن، بل ان الآخرين الذين اعتقلوه وتسببوا في موته هم أعداء الوطن. وأحمد إذ يصل الى هذا اليقين، يقرر ان ينتقم الآن من أعداء الوطن الحقيقيين. وهكذا يصعد مع رشاشه وغضبه الى أعلى برج في المعتقل ومن هناك يوجه رشاشه الى تجمع الضباط والجنود، مطلقاً زخات رصاص تحصد الكثيرين منهم قبل ان ترديه، رصاصة تطلق عليه. وفق الكاتب وحيد حامد، فإن منطلق الفيلم كان وضعية حدثت معه هو شخصياً وعايشها حين كان معتقلاً خلال انتفاضة 17- 18 كانون الثاني (يناير) 1977، غير انه لم يعتمد الوضعية نفسها بل طورها وفي ذهنه - كما سيقول دائماً - ان بطل الفيلم لن يكون سوى أحمد زكي، لأن هذا الأخير، كان قد طلب منه أولاً ان يكتب سيناريو له، يدخل به حلبة الإنتاج السينمائي عبر شركة كان أسسها (لكن زكي تراجع عن إنتاج الفيلم لتتولاه الفنانة سميرة أحمد، مكتفياً بلعب دور أحمد سبع الليل). والحقيقة ان جزءاً كبيراً من نجاح الفيلم وقوته يكمن في أداء أحمد زكي في هذا الفيلم وهو أداء اعتبره النقاد أكثر من مقنع، إنما من دون التقليل من شأن الإخراج الواقعي والمتراوح بين أعلى درجات القسوة، وأطرف لحظات البساطة (في رسم شخصية سبع الليل)، حيث اعتبر الفيلم واحداً من أبرز ما حقق عاطف الطيب خلال حياته القصيرة، علماً أن عاطف الطيب، الذي انتمى الى جيل «الواقعية الجديدة» في السينما المصرية - وفق توصيفات النقاد والمؤرخين - الى جانب علي بدرخان ومحمد خان وخيري بشارة، خلّف عند رحيله المبكر أكثر من 20 فيلماً يعتبر معظمها (مثل «سائق الأوتوبيس» و «التخشيبة» و «ليلة ساخنة» و «الهروب» و «كشف المستور») من أفضل ما حققت السينما المصرية خلال الربع الأخير من القرن العشرين، اما وحيد حامد الذي بدأ حياته كاتباً وصحافياً، فيعتبر دائماً، في الجيد من سيناريواته، من افضل ممارسي الكتابة السينمائية في الحقبة نفسها. [email protected]