براعة الاستهلال مهمة ومطلوبة في الفن كما في الادب... وفي السينما ايضاً كثيراً ما تحدد المشاهد الأولى المسار الذي سينتهجه الفيلم. في المشاهد الأولى ل"الناظر" "الناظر صلاح الدين" سابقاً وتحول الى "الناظر" بأمر من الرقابة على المصنفات الفنية في مصر آخر افلام المخرج شريف عرفة، ومن بطولة الكوميدي علاء ولي الدين، يحيلنا الى عصور ثلاثة: العصر الفرعوني حيث نرى عاشور الجد الاكبر علاء ولي الدين يعلم الأطفال الجالسين في بهو معبد مستعملاً لغة، مؤلفة بالطبع، اخترعها كاتب السيناريو والحوار أحمد عبدالله وتغلب عليها خفة الدم وعلى الشاشة ترجمة باللغة العربية ... الى ان يأتي الغزاة ويحاصروه، فتظهر لوحة اخرى تعبر عن مرور الزمن لننتقل الى العصر المملوكي حيث عاشور المعلم يجري امتحاناً بين تلاميذه، على ان يحصل الفائز منهم على جارية، ويلجأ عاشور الى اسئلة تعجيزية حتى يحصل على كل الجواري لنفسه ... الى ان يدخل عليه هولاكو قائد التتار ليسأله عن حاكم البلاد، فيدعوه عاشور إلى البحث عنه في القصر المجاور، وبعد ان يخرج الغزاة يطلب عاشور من زملائه الاستعداد لمقاومتهم ... وفي المشهد الثالث نرى تظاهرات ثورة 1919 التي يقودها عاشور ويختلط في نداءاته الجد بالهزل، وصولاً إلى الاحتماء بأسوار المدرسة عندما يبدأ الجنود الانكليز برشق الطلبة بالرصاص. هذه المشاهد الثلاثة المفترض ان تدل إلى تاريخ عاشور المرتبط بحركة التاريخ ومقاومة الغزاة واشتعال الثورات، لكنها في الواقع تهيئ المشاهد لدخول عالم الفانتازيا الذي سينسجه الفيلم من خلال احداثه اللاحقة. وتمهد لتقمص علاء ولي الدين عدداً من الشخصيات. فبعدما رأيناه في ثلاث شخصيات مختلفة، سنراه لاحقاً في ثلاث شخصيات اخرى. وهو أمر يقول للمشاهد ان كل ما ستراه على الشاشة هو لعبة وعليك ان تشارك معنا فيها، فإما أن تستمتع بها وتصدقها، وإما ان تخرج من قاعة العرض فوراً. هذا هو قانون الفانتازيا الذي يحوي اتفاقاً ضمنياً بين الجمهور وصناع الفيلم. ولكن في الوقت نفسه تؤدي هذه المشاهد الثلاثة الى التهاوي المبكر في الايقاع، والتطويل في التمهيد، والميل الى البطء قبل الوصول الى الهدف. الزمن الراهن بظهور لوحة "الآن"، وتعني ولوج العصر الحديث، نتعرف إلى شخصية عاشور الأب ناظر المدرسة العصبي ذي الصوت العالي الذي ينتهج القسوة والضرب وسيلة مثلى للتعليم، ونتعرف ايضا إلى الأم المهتمة بمظهرها والمتمسكة بحب الحياة، وصلاح الدين الابن الشاب الراسب في الشهادة الثانوية على رغم ملكية ابائه وأجداده مؤسسة تعليمية. والادوار الثلاثة يؤديها علاء ولي الدين، في محاولة لكسر الملل وتحطيم الصورة النمطية للكوميدي الذي يسعى دوماً الى تثبيت صورة اعتاد الجمهور ان يراه فيها. وفكرة الجمع بين اكثر من شخصية يؤديها ممثل واحد ليست جديدة تماماً، بل شاهدناها من سنوات طويلة في أفلام من مثل "اسماعيل ياسين في الطيران" و"المليونير". اما فكرة قيام الممثل نفسه بأداء شخصيات أفراد الأسرة بكاملها، بمن فيهم النساء، فقد اداها الممثل الاميركي ايدي ميرفي في الفيلم الذي عرض في مصر باسم "الاستاذ المنحوس". ومسألة جدة الفكرة ليست هي المشكلة بمقدار ما هي اهمية طريقة التناول، فتبرز محاولة شريف عرفة الصادقة من اجل التجديد في الشكل، والتزام ولي الدين هذا النهج. وتتواصل المشاهد ونتعرف إلى سيد حسن حسني وكيل المدرسة، وحسين هشام سليم المدرس الايجابي الذي يرفض اسلوب الناظر في استخدام الضرب والعنف في تعليم الأولاد وهو الوحيد الذي يقف امامه، بل ويجذب منه العصا ويلقي بها. بموت الأب ينتظر ان تتطور الاحداث، لكنها تسير بالبطء نفسه اذ يقدم السيناريو شخصية عاطف احمد حلمي صديق صلاح الدين، اللذين يفكران معاً في تعلم الانحراف الصياعة وخوض خبرات حياتية فيقرران اللجوء الى اللنبي محمد سعد زميل المدرسة القديم الذي كان طرد منها لأنه ضرب احد المدرسين. وعلى رغم الطرافة الشديدة في رسم شخصيتي اللنبي وعاطف الا ان السيناريو بدا في هذه الاجزاء وقد انتابه خلل في الايقاع. تبدأ الاحداث في التحرك حين يأتي سيد وكيل المدرسة ويطلب من صلاح ان يقوم بمهمة والده ويتولى نظارة المدرسة. من هنا تبدأ المفارقة: كيف يتسنى لطالب فاشل وشخص كسول عديم الخبرة ان يصبح ناظراً لمدرسة؟ في البداية ينصاع صلاح الدين الى اوامر سيد المستفيد من بقاء المدرسة على حالها والسير على نهج والده، بينما ينضم إلى جبهة حسني عضو آخر، هو وفاء بسمة أحمد الفتاة الجميلة التي كانت زميلة لصلاح في المدرسة، وتعمل الآن مدرسة موسيقى في المدرسة نفسها، فتحظى بإعجابه. ويبدأ حسين بمحاولة لفت صلاح إلى فساد العملية التعليمية داخل المدرسة واهمية إصلاح هذا النظام وتغييره. تطويل... تطويل ينتاب هذا الجزء ايضاً شيء من التطويل بتعشيق مشاهد، مثل محاولة صلاح وعاطف خوض تجربة جنسية بمساعدة اللنبي الذي يصطحبهما الى قواد يقدم صلاح الى عاهرة اجنبية، برفقتها مترجم ... ويترك عاطف في حجرة غطت جدرانها عشرات من صور النساء ... وعلى رغم طرافة هذه المواقف إلا أنها تبدو اسكتشات خارج السياق، تعيقه ولا تدفعه إلى الأمام. تأتي لحظة التنوير كما يسمونها عندما يتقابل حسين وصلاح ليلاً في المدرسة ويصطحبه الى "البدرون" حيث مئات الكتب القديمة، وهي كنز تركه الأجداد من وجهة نظر حسين، ويركز أيضاً على أهمية ان يضطلع صلاح بالدور التاريخي نفسه ويحمل الرسالة نفسها، في محاولة نبيلة من كاتب القصة السينمائية شريف عرفة وكاتب السيناريو أحمد عبدالله لبث مضمون نبيل في هذا السياق الفانتازي. يبدأ صلاح بالتغيير التدريجي ويحاول التقرب من الطلبة الذين يرفضون المدرسة والتعليم، ويشرع في التمرد على سيد وتقليص دوره. ويأتي في هذا الجزء مشهد آخر غير مهم، مشهد ضرب صلاح وعاطف في صالة البلياردو. فأهميته ترجع فقط الى ما نتج عنه، وهو زيارة وفاء لصلاح في منزله للاطمئنان إليه، اذ ينسج بداية نمو مشاعر حب بينهما. وفي الوقت نفسه نمو العلاقة بين عاطف وانشراح مدرسة اللغة الانكليزية، وهو خط بتر ولم يكتمل. تعود الام من سفرها فتفاجأ بوجود وفاء وانشراح في الشقة فتطردهما. فيضطر صلاح إلى الاتفاق على إجراء مسابقة بين مدرسته ومدرسة البنات المجاورة التي كانت سجلت عليهم انتصاراً ساحقاً في المسابقة الماضية، على ان يترك صلاح ادارة المدرسة في حال فشله فيها. تبدأ الاستعدادات للمسابقة، ويعد صلاح التلاميذ بجوائز في حال الفوز بعدما شاهد هذه الجوائز في اعلان تلفزيوني ... يتخلص من التلميذ المشاغب بعدما تعلم فنون الكاراتيه بمساعدة اللنبي الذي قدمه إلى أحد المدربين، وهو التلميذ الذي كان يعيق العملية التعليمية .... ويحاول سيد أن يتخلص من صلاح وينوي تقديم شكوى عليه في الوزارة لأنه لم يحصل على الشهادة الثانوية، فتغويه الام وتصطحبه إلى صالة ديسكو. وبعد ان تسكر، تشارك الأم السمينة/ الرشيقة في آن، في الرقص مع فرقة روسية، وعبر لقطات سريعة تعتمد احياناً الزوايا الغريبة التي تعكس مهارة شريف عرفة في التعامل مع اللون الاستعراضي كما عودنا في افلامه، وإن شاب هذه الرقصة شيء من التطويل. عندما تفشل الأم في ايقاف سيد عن مخططه، تضطر الى خطفه بمساعدة اقاربها من النساء، بينما يبلي تلاميذ مدرسة عاشور بلاء حسناً في المسابقة حتى يأتي دور مسابقة المرحلة الثانوية. وتبين أن الطلاب لم يحضروا بعد، اذ عطلهم مساعد سيد عن المسابقة، بإبعادهم في احدى الطرق الصحراوية حتى ينهزم صلاح. ومن طريق المونتاج المتوازي، نرى الشبان الثلاثة في طريق العودة جرياً على رغم امكان ركوبهم سيارة بينما تصر ناظرة مدرسة البنات على اعتبارهم منسحبين. وهنا يأتي دور التلميذ المشاغب الذي سبق ان فاز عليه صلاح في الكاراتيه اذ يصيب احد منظمي المسابقة برمية من نبلته في انفه، فتتعطل المسابقة الى حين وصول الثلاثة الذين سيفوزون بالطبع. ويعترف وكيل الوزارة بقيام الناظر صلاح الدين بإصلاح حال المدرسة ورفع مستوى التلاميذ. لكن صلاح يعترف بعدم حصوله على الشهادة الثانوية، فيقر وكيل الوزارة إسناد إدارة المدرسة موقتاً الى حسين إلى أن ينال صلاح الثانوية العامة. بعد مرور عام لوحة مكتوبة... يفهم ضمناً ان صلاح ووفاء تزوجا، وأنها الآن على وشك الوضع. وتجتمع الشخصيات مرة اخرى في المستشفى في هذه المناسبة: صلاح، الام، سيد وقد عاد مجذوباً على كرسي متحرك تجره خاطفاته. ونرى ايضاً اللنبي وعاطف وحسين... تضع وفاء مولودها الذكر. الجميع يشاهدون الطفل عبر زجاج الغرفة المعقمة. يشير صلاح إلى انه سيكون ناظر مدرسة عاشور في المستقبل. يتحول وجه الطفل باستخدام الغرافيك ويبدأ بترداد السلام الجمهوري "تحيا جمهورية مصر العربية" و يردد الاطفال المولودون خلفه التحية نفسها. "الناظر" محاولة لصنع فيلم كوميدي جيد ومتماسك. وان كانت نجحت في مناح كثيرة الا ان هناك عدداً من السقطات الدرامية التي تنحو نحوها الافلام من النوع نفسه، مثل الاسكتشات التي تأتي من خارج السياق، وتهميش باقي الشخصيات عدا البطل، علماً ان الامر مختلف في "الناظر"، اذ بذل احمد عبدالله جهداً لتحقيق توازن بين وجود علاء عبر 6 شخصيات ووجود باقي الشخصيات، من مثل حسين ووفاء اللذين يمثلان الجانب الايجابي... فتظهر في شكل مفاجئ ومن دون أن نفهم، لماذا هي مثالية في تصرفاتها؟ وما تركيبتها التي تدفعها إلى السير على هذا الجانب والتصرف بهذه الطريقة؟. اداء علاء ولي الدين في تطور ملحوظ ايضاً، وبدا تفوقه واضحاً في اداء شخصية الام اكثر من اي من الشخصيات الست، خصوصاً حين تحاول اغراء وكيل المدرسة للحفاظ على مستقبل ابنها. وتاريخ السينما حافل بالممثلين الذين أدوا دور المرأة، من اسماعيل ياسين وعبدالمنعم ابراهيم الى احمد آدم، ومن داستين هوفمان الى روبين وليامز. لكننا نلمس اجتهاد علاء من اجل تحقيق اختلاف عمن سبقوه، يتجلى في محاولته الوقوف على تفاصيل الشخصية. خفة الظل تضيف مسحة إلى اداء احمد حلمي البارع في دور عاطف، ويعود الفضل إلى أحمد عبدالله في رسم هذه الشخصية المنسية دائماً والتي لا يتذكرها احد. والخشية ان تتحول هذه الشخصية نمطاً بعد افلام عدة لا يجسد فيها حلمي اي دور سوى دور صديق البطل. بسمة احمد وفاء ذات وجه ملائكي وجذاب تحبه الكاميرا. ادت دورها ببساطة وتلقائية، وظهر التطور الواضح في ادائها هنا عنه في فيلم "المدينة"، وخصوصاً في ما يتعلق باستعمالها جهازها الصوتي. وعلى رغم صغر الدور وهامشية وجوده الدرامي، تخرج من دار العرض وانت تتذكرها. وهي مكسب حقيقي للسينما المصرية كان يسري نصرالله قدمه على الشاشة الصغيرة للمرة الأولى. اما محمد سعد اللنبي فكان اداؤه مفاجأة غير متوقعة، لأننا شاهدناه في اعمال اخرى متعددة ولم يكن بالتألق نفسه. بعد نظر شريف عرفة هو الذي جعله يراهن على محمد سعد في اداء هذا الدور الصعب الذي يفصل بين ادائه نمطياً وادائه في شكل مختلف خطوة واحدة، والذي سيفتح الطريق امامه سعد اذا احسن الاختيار. كذلك هي حال حنان الطويل التي قامت بدور انشراح والتي تتمتع بطاقة كوميدية هائلة. لم يضف "الناظر" جديداً إلى حسن حسني، وكذلك إلى هشام سليم، على رغم السعادة بعودته مرة اخرى للوقوف امام الكاميرا في "الناظر" وفي "العاصفة" لخالد يوسف بعد أخبار صحافية أفادت باعتذاره عن عدم قبول الادوار. مهندس الديكور محمود بركة نجح في اختياره أماكن التصوير وتنسيقها مدرسة عاشور/ شقة صلاح/ قاعة المسابقات وكذلك في اختيار ملابس شخصيات الفيلم وخصوصاً الشخصيات المختلفة التي أداها علاء. نبيل علي ماهر مؤلف الموسيقى، عليه ان يتخلص من تأثره بموسيقى مودي الامام مؤلف موسيقى اغلب افلام شريف عرفة السابقة، ويشق لنفسه طريقاً خاصة به. تصوير ايمن ابو المكارم لم يخرج عن اطار المعتاد، كذلك مونتاج معتز الكاتب. وعلى رغم كل التحفظات السابقة، يظل "الناظر" اكثر افلام الكوميديين الجدد تماسكاً واعتماداً على كوميديا الموقف/ التعبير البصري. ثم انه يبتعد عن الابتذال والاسفاف، إذ ليس هناك اي ارتباط شرطي بين الكوميديا والاسفاف. وهناك كثير من الخيوط تربط بين "الناظر" و"عبود على الحدود" وهذا يعني ان الثلاثي عرفة وولي الدين وعبدالله يحاول تأسيس خط يسير عليه في دربه، يُدعم ويطور من فيلم إلى آخر، وقد جاء "الناظر" ليظهر قيمة ما فعله هذا الثلاثي: اصلاح ما افسده بعض الكوميديين الجدد هذا الصيف.