أكدت في مقالات سابقة نشرت في "الحياة" على ضرورة عودة المعارضين من الخارج في ظل الديموقراطية النسبية والمقيدة بما وضعه لنا الاثنان معاً المنظمة داخل النظام وقانون الأحزاب والشيخ الترابي وقانون التوالي. ولم أختر هذا الموقف إلا لأنه الخيار الموضوعي الأقل سوءاً ومن ضمنها حمل السلاح الذي لن يورثنا في حال اسقاط حكومة الانقاذ نظاماً آخر متماسكاً بل سيورثنا ميليشيات متنازعة على قسمة السلطة ونظام الحكم وشكله وبرامجه. فبعد أنهر الدماء لإسقاط الانقاذ ستتعدد أنهر دماء أخرى بين المسلحين من ورثة الانقاذ، فالتجمع الوطني الديموقراطي المعارض لا يعدو كونه جماع تناقضات متناحرة ايديولوجياً وسياسياً وتنظيمياً. والضحية في كل الحالات، سواء أسقطنا الانقاذ بالسلاح أو تصارعنا بيننا بعد اسقاطه بالسلاح هو الوطن والمواطنين. ثم انه ليس هناك من بديل يستحق كل ذلك، فالمثقفون الذين يصنعون البديل التاريخي، فلسفياً واستراتيجياً، فشلوا منذ الأربعينات في طرح البديل المنشود، وذابوا في ما هو موجود من حركات طائفية الأنصار والختمية وحزب الأمة والاتحادي الديموقراطي والحركات الوسيطة الحزب الوطني الاتحادي سابقاً وفي الحركتين العقائديتين الإسلامية والشيوعية، ومن دون أن يسهموا حتى في تطوير هذه الحركات التي ذابوا فيها، ولمن يريد التفاصيل يمكنه مراجعة كتاب أحمد خير كفاح جيل أو مؤلفي السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل. وكان موقفي ضد الطرح العسكري للتجمع "الوطني الديموقراطي" منذ حضوري كمراقب لمؤتمر القضايا المصيرية في أسمرا عام 1995. وكتبت ذلك وأوضحت أسبابه على رغم ما يربطني بأسمرا التي استضافت المؤتمر. التعامل مع الأقل سوءاً ان التعامل مع الانقاذ هو من نوع التعامل مع الخيارات الأقل سوءاً في كل الحالات. فالسودانيون اذ يدفعون ثمن عدم وجود البديل الجذري - حضارياً وفلسفياً واستراتيجياً - فإنهم مضطرون للتعامل مع أنصاف الحلول، والاختيار بين السيئات، كحكم الانقاذ وحكم الطوائف. أولاً: فالمسلم لا يجد، إسلاماً حقيقياً لدى كل هؤلاء، ويكفي ان الانقاذ في كل ما تفعل تعود بالناس الى "مرجعية الحقبة النبوية الشريفة" وكأنها تشرع لنفسها "اعادة انتاجها" فكل حرب لديهم في الجنوب أو الشمال هي بدر أو الخندق وبني قريظة علماً أنه: أ - ليس فيهم خاتم الرسل والنبيين صلى الله عليه وسلم الذي يطاع بإذن ربه ]وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن ربه[ - النساء/ ج 5/ من الآية 64. وليس لديهم تلك السلطة الإلهية الممنوحة للرسول ]قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين[ - آل عمران/ ج3/ آية 32. وهم ليسوا من أولي الأمر منا بالاختيار الحر، بل هم من أولي الأمر علينا بالغلبة والاستيلاء ]يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم[ - النساء/ ج5/ من الآية 59. ب - ثم انهم لا يتلقون وحياً الهياً مرشداً متتابعاً عبر الروح القدس حتى يميزوا بين الخطأ والصواب كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام في الحقبة النبوية الشريفة: ]وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم[ - النمل/ ج19/ آية 6 وكذلك ]قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين[ - النحل/ ج14/ آية 102. فهم ليس لديهم من الوحي الرباني ما يقارنون به أنفسهم بالحقبة النبوية الشريفة. ج - ثم ان الله - سبحانه وتعالى - قد تدخل غيباً في معارك المسلمين في الحقبة النبوية، فبعث بمقاتلين مردفين ومسومين من الملائكة في بدر الكبرى ]ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون[ - 123، إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين 124 بلى أن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين 125[ - آل عمران/ ج4. وأرسل ريحاً في معركة الخندق: ]يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا[ - الأحزاب/ ج21/ آية 9. فأين نظام الانقاذ السوداني من ذلك التدخل الإلهي الغيبي في الحقبة النبوية الشريفة وهو يدعي استعادة تلك الحقبة ويقذف بالصغار الى فوهات المدافع؟ د - ثم أين الانقاذ ومؤتمره الوطني الحاكم من تأليف الله - سبحانه وتعالى - لقلوب العرب بإرادته المتعالية من حول الرسول صلى الله عليه وسلم - ]وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم انه عزيز حكيم - الأنفال/ ج10/ آية 63. مع ذلك ما دخل الانقاذ معركة في الجنوب إلا هي بدر أو الخندق وما شن معركة في الشمال إلا وهي ضد المنافقين وما واجه تدهوراً اقتصادياً وإلا ذاك نوع من الابتلاء الإلهي وليس تهلكة بأيديهم. صادروا الإسلام كله لمصلحتهم، فماذا يتبقى بعد لبعض مثقفي السودان، أو غالبيتهم وغالبية أهله سوى اللجوء للعلمانية والليبرالية والبراغماتية؟! ه - ثم انهم لا يميزون بين الحاكمية الإلهية وبين ما أنزل الله، فالحكم ليس لله ولكن لما أنزل الله وفي ذلك فرق كبير، فأن يكون الحكم لله فإنهم يدعون الخلافة عنه في مجالسهم القيادية، وحين يكون الحكم لما أنزل الله فإن لنا الرأي كمثلهم والمشورة ]ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون[ - المائدة/ ج6/ من الآية 44 ومع ذلك نثبت الخيار الإسلامي في الشمال. و - ألقوا بأحمال دين عظيم يتسع لأكثر من بليون مسلم في العالم على شعب فقير تنقصه العدة والعتاد، يعيش 90 في المئة من مواطنيه من دون سقف الفقر، يستنهضونه بوجه كل المراكز الصناعية والحضارية العالمية، ولسنا سوى هامش لهذه المراكز، ولم يحملنا الله عز وجل برحمته ما حمّله غيرنا ]وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تُسألون[ - الزخزف/ ج25/ آية 44. فأين نحن في السودان ممن أنزل عليه الذكر ويسأل؟ وأين ذلك المدد الإلهي الذي بيَّناه في النقاط السابقة؟ بل أين موروثنا الحضاري السوداني الإسلامي الذي نبني عليه؟ أهو طبقات الذكر للمهدي الكبير أو الميرغني الكبير، أم طبقات الصوفية لود ابن ضيف الله، مقارنة بموروث القيروان والأزهر والنجف؟ وليس لدينا حظ في الكتابات الإسلامية التجديدية المعاصرة يقارن بحظوظ غيرنا، فهل تواضعنا قليلاً أو كثيراً؟ لقد شوه الانقاذيون في السودان الإسلام، كما شوهه غيرهم في أفغانستان والجزائر، ولأنه خلاف ذلك وأرقى من ذلك، ويسمو على العلمانية الليبرالية والبراغماتية وكذلك على الطبقية وجدليتها المادية نظل نتمسك به، فلا نسقط الخيار الإسلامي، ولو اسماً مارسوه على غير مسمى، فمعركتنا معهم وعلى ما تبنوه اسلاموياً وليس مع الإسلام. ز - ثم انهم حولوا عالمية الخطاب الإسلامي الى خطاب حزبي، وحولوا حاكمية الكتاب الى مراسيم رئاسية، وحولوا دار الدعوة والاستجابة في الجنوب السوداني الى دار حرب. ان أكبر نصير - بممارساته - للعلمانية والليبرالية والبرغوماتية - هو نظام الانقاذ إذ يتبنى الإسلام بما يكره الناس للبحث في البدائل، فتبنيهم للإسلام مناقض لموروثه السلفي وحقبته النبوية الشريفة وكذلك للتجديد المعاصر. وهذا ما قلته صراحة في أولى محاضراتي بعد عودتي الى الخرطوم في آذار مارس 1997 حين ركزت على كونية القرآن المتسعة لكل مناهج المعرفة، وعالمية الإسلام المتسعة لكل الأنساق الحضارية / المتعددة والمتنوعة، وشرعة التخفيف والرحمة وليس شرعة الأصر والأغلال. ولكن الانقاذ إذ تحول بالإسلام الى ثيوقراطية دينية فتح الباب لبديل العلمانية، وإذ قيد الحريات فتح الباب لليبرالية، ولكن لأننا نرفض الحالين، فإننا نأخذ بأنصاف الحلول والتعامل مع أقل النظم سوءاً. ثانياً - حين أدعو للعودة والعمل من الداخل فإني لا أجير موقفي هذا لمصلحة نظام تتراوح خياراته بين الانغلاق الحركي للمنظمة داخل النظام بخلفيتها الانقلابية والتكتيك الشعبي لشيخها. إذ كان أول بحث كتبته في حياتي عام 1965 هو الحرية ضرورة طبيعية، أشرت فيه الى الفارق بين الجماد ثم النبات ثم الحيوان ثم الإنسان. وبما ان الإنسان هو الأقدر على الحركة، من بين هذه الكائنات، فإن امتلاكه للحرية ضرورة طبيعية بحكم تكوينه، فالحرية ليست من صنع الأنظمة أو الفلاسفة. ولهذا يناضل الإنسان ويموت من أجلها لأنها من ضرورات تكوينه ومدخله للحركة. ثم ربطت الحرية بالمسؤولية وبالسقف الحضاري الذي يتحرك فيه الإنسان بوصفه كائناً مفكراً ومختاراً مشيراً الى نوع من البشر لا تتجاوز حركته حال الجمال أو النبات أو الحيوان وبالتالي تضيق مسؤوليته وتضيق حريته. يظل ذلك البحث اليافع كامناً في ذاكرتي، فلم أمتهن الطائفية ولم أخلد للحزبية، وحين تكون ديموقراطية نيابية برلمانية في السودان - كما كانت - فإني أحمل مصباحي نهاراً للبحث عنه. أما الأنظمة العسكرية فهي أشد وطأة حين تخاطبنا من فوق دبابة. وما زلت متمسكاً بالديموقراطية التعددية، ودعوت مراراً وما زلت لإقامة نظام ديموقراطي يتكون من مجلسين مجلس النواب ومهمته التشريع، ومجلس للشيوخ ومهمته النقض رجوعاً الى ما نص عليه دستور السودان الموقت لعام 1956 بموجب الفصل رقم 5/ المادة 44. وأجريت تعديلات على الصياغة لتكوين المجلسين، وأوضحت الدوافع لتجاوز أزمات الديموقراطية والسيطرة الحزبية/ الطائفية الآحادية. راجع مؤلفنا "نحو وفاق وطني سوداني: رؤية استراتيجية" الصفحات 170/ 178. غير أن الوصول لهذا النموذج الديموقراطي يتطلب تجاوز ما نحن فيه من محن وخيارات سيئة. ولهذا أظل أطالب بمرحلة تسودها جبهة وطنية متحدة ولعشر من السنين، ثم نشرع في طرح ومناقشة خياراتنا الدستورية المستقبلية. علماً أني طرحت هذا الخيار منذ عام 1984 وقبل سقوط جعفر نميري، وتحسباً لسقوطه صحيفة البيان - دبي - 23 نيسان ابريل 1984. حتمية العودة نضجت الأزمة السودانية، وتراكمت مفاعيلها، وهي تتجه من بعد التراكمات الكمينة والمأسوية الى متغير نوعي يحمل الكثير من المحاذير. فهناك أزمات يمكن التغلب عليها وهي في مراحل تشكيلها، إذا توافر العقل والعقلاء، وهناك أزمات يصعب تطويقها قبل بلوغ نهايتها، والأزمات السودانية من هذا النوع الأخير. ومن طبيعة هذا النوع الأخير أن تأتي الحلول آخذة بنهايات المواقف لا من بداياتها، فلا يكون الحوار - مع العقيد جون قرنق فعلاً - حول دوافعه لحمل السلاح، ولكن حول ما يريد مع الأخذ بمعادلات وموازين قوى الساحة السياسية السودانية ككل، والأمر نفسه ينطبق على الانقاذ وعلى محور الصادق المهدي الجديد وعلى التجمع الوطني الديموقراطي المعارض. ولنصل الى هذه النتيجة علينا أن نتفهم الآتي: أولاً - ان حكومة الانقاذ فقدت السيطرة على تفاعلات الجنوب العسكرية، سواء بين الانقاذ وحركة قرنق أو بين الفصائل الجنوبية المتقاتلة في ما بينها. وأن مظلة الايقاد لم تعد مجدية. ثانياً - ان قوى الشمال الرئيسة الإنقاذ - حزب الأمة - الاتحادي الديموقراطي منقسمة على نفسها، وان المبادرة المصرية الليبية للم الشمل لم تعد مجدية. ثالثاً - وفي ظل الحالين تعاني البلاد تدهوراً في مختلف المجالات الاقتصادية والأمنية. الأزمة الناضجة حين وصلت الأزمات الى نهاياتها - كما هو الوضع عليه في السودان - ولم يتوصل العقلاء بعد الى صيغة ضابطة لها، ليس لهم أن يسخروا من الصوملة، فشعبنا الآن فقد حال الخوف من النظام ولكنه فقد في الوقت ذاته حال الولاء التاريخي للأحزاب التقليدية، ولا يجد أمامه بديلاً استراتيجياً، يعني أنه سيحضر البدائل في ذاته. بهذا يمر الشعب السوداني بحال فراغ سياسي ولكنها ممتلئة بحيوية الرفض لكل ما هو قائم نظاماً ومعارضة، ومستبعداً كل آليات التغيير وأدواتها، من انقلاب عسكري أو انتفاضة محمية، أو عصيان مدني، أو تظاهرات، بهذا سيجنح الشعب نحو تغيير غير مؤطر بنموذج، انه التغيير عبر الفوضى. هذه الحال من الفوضى ستشهد الكثير من العنف غير المنظم، علماً أن سوق السلاح رائجة في الخرطوم، وسيعمد كل انسان لأخذ ثأره، الشخصي والوطني، بيده وسيفرز ذلك العنف الفوضوي قيام كل جذاذ في الحكومة، والمعارضة باعادة تنظيم نفسه، دفاعاً وهجوماً، ووقتها ستتنادى الحكومة والمعارضة للوفاق وستسارع الدول العربية والأفريقية والقوى العالمية لمحاولة ضبط الأمور، ولكن بعد فوات الأوان. إذاً لا بد من العودة، إلا من سبق عليه القول أو حق، فهل يستجيب الجميع لأفضل الخيارات السيئة أم يتخذوا من أوضاع الصومال قدوة أكثر سوءاً؟! * سياسي ومفكر سوداني.