حين انتشر، في 19 تشرين الثاني نوفمبر الماضي، خبر محاولة اغتيال الديبلوماسي الاسرائيلي يورام هافيفيان في عمان، لم يقلق أحد. وليس من سبب يجعلهم يقلقون لمحاولة اغتيال الديبلوماسي الثاني شلومي راتسابي. اما الذين عبّروا عمّا يساورهم فأزعجتهم النجاة من المحاولتين. مع هذا فمع المحاولة الثانية ظهرت اصوات في الشارع الاردني تقول ان اسرائيل كانت وراء المحاولتين، بحثاً عن ذريعة لتوجيه ضربة الى الأردن. واستشهد اصحاب هذه الاصوات ب"الاصابات الطفيفة" في الحالتين. وبغض النظر عن مدى الميل التآمري، او الدقة، في هذا التحليل الجديد، يبقى الأمر لافتاً. ذاك ان الأردنيين يلتقون كلهم على تأييد الانتفاضة، خصوصاً ان الحزن في فلسطين كثيراً ما يتحول حزناً مباشراً في الأردن من خلال وشائج القربى. ويرى بعض الأردنيين ان الحماسة التي شهدوها بُعيد الانتفاضة هي مما لم يعرفه بلدهم منذ حرب الخليج الثانية، حين راحت عمان تهتف بصوت واحد "بالكيماوي يا صدام". ويضيفون ان تغيرات بدأت تطرأ، بسبب الانتفاضة، على المشهد السياسي. فالاسلاميون، مثلاً، صعد نجمهم مجدداً على ما دلت التظاهرات، علماً بأنهم لم يعرفوا كيف يستثمرون هذا التأييد. والحال ان هذا الشعور لم يجد في مقابله شعوراً يناهضه. فغالبية الشرق الأردنيين التي تخوّفت من قيام الحل النهائي على حساب بلدها، اعتبرت ان انهيار السلام لا ينطوي على خسارة باهرة. والأبعد، ان العاطفة والمصلحة التقتا كما لم تلتقيا منذ حرب الخليج. فسعر النفط العراقي المخفّض واستيعاب السوق العراقية ووعودها تحض جميعاً على الموقف نفسه الذي تنمّ عنه الحماسة في تأييد الانتفاضة وصدّام. والى ذلك فالملك عبدالله الثاني، رغم سلميته المؤكدة، يختلف عن أبيه الراحل في ما خص السلم. فالملك حسين كان من صانعيه ومن رموزه التأسيسية بحيث بدا أي انتكاسٍ يصيب العملية الشرق الاوسطية انتكاساً له شخصياً. وغني عن القول ان هذا لا يصح في الملك الحالي الشاب. وبذاتها تبدو السياسات الأردنية، اذا جاز فصلها نظرياً عما يجري على الجبهة الفلسطينية - الأردنية، مستقرة. فالعائلة رست على تقسيم عمل أرضى الكل، والتقى الجميع على تأييد الملك. وثمة من يقول ان الحكم الفعلي لعبدالله الثاني انما بدأ بعد ازاحة سميح البطيخي عن دائرة المخابرات، بالمعنى الذي قيل فيه، عام 1957، ان الحكم الفعلي للملك حسين بدأ بعد ازاحة غلوب باشا عن الجيش. ويحاول الأردنيون ببراعة وموازنات ماهرة ان يمنعوا الطغيان الكامل لأي من أبعاد سياستهم على الآخر. فما ان وقّع الملك عبدالله اتفاقية التجارة الحرة في واشنطن، وهي الوحيدة التي تجمع بلداً عربياً بالولايات المتحدة، حتى توجه رئيس حكومته علي أبو الراغب، في زيارة وصفت ب"التاريخية"، الى بغداد. صحيح ان هناك علاقات لم تنمُ كثيراً مع اسرائيل. الا ان الجميع متفق على اشاحة النظر عنها كأنها "زنى يستحق الغفران" بحسب وصف أحد الأردنيين. ذلك انه ما بين سياحة وزراعة وبرامج كومبيوتر وطباعة و"مناطق صناعية مؤهلة" يعمل فيها ستة آلاف أردني، تتوافر دخول نقدية تصعب مطالبة الأردني الفقير بالتخلي عنها. ثم اذا كانت هذه العلاقات رمزاً قابلاً للتطور إذا أقلع السلام مجدداً، فهذا سبب اضافي للتمسك بها. ذلك ان عمّان لا تملك ان تدير ظهرها للسلام وللقوى الغربية الفاعلة التي تدعمه. بيد ان السيطرة على اليوم ليست ضماناً كافياً للغد. فماذا، مثلاً، لو طالت المواجهات في الأراضي المحتلة، وماذا لو تعدّت رقعتها الجغرافية المباشرة؟ هذا السؤال هو الكابوس الأردني. وربما كانت هواجسه البادئة بالظهور وراء التفسير الجديد الذي حملته محاولة الاغتيال الثانية. ومع ذلك يفضل الأردنيون ان يتحاشوا مواجهة المشكلة عملاً بميل عربي عميق الى التسويف المرفق بالاتكال على الله. واذا كان هذا الاتكال مما لا بد منه، فلا بدّ أيضاً من اجراءات، ولو رمزية، تصلّب الوحدة الوطنية الأردنية، في مواجهة عواصف يُحتمل هبوبها من القدس وغزة واسرائيل. أليس افتقار فلسطينييالأردن، وهم قرابة ثلثي السكان، الى اسماء بارزة في صدارة الحياة السياسية من الأمور التي يُستحسن تلافيها سريعاً!؟