قبل 20 عاماً استبشر الأردنيون قرب وأد شظف عيشهم المستدام، بينما أطلقت حكومتا الأردن وإسرائيل أسراب الحمام وبلالين بألوان علمي البلدين في حفل إبرام معاهدة سلام اقترنت بداياتها بأحلام وردية ومشاريع عملاقة عابرة للحدود. يومذاك، وقف الملك الراحل الحسين بن طلال بجانب رئيس وزرائه عبدالسلام المجالي، وهو يتبادل الوثائق مع نظيره الإسرائيلي إسحاق رابين بمشاركة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون. كان الملك مقتنعاً بأن فرص السلام قائمة بتسارع على سائر الجبهات: السورية واللبنانية والفلسطينية، وصولاً إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة، جوهر الصراع، وبما يسمح بتحليق معاهدة سلام ثانية عربية - إسرائيلية بعد مصر 1979، وفتح الباب أمام تطبيع شامل رسمياً، ثم شعبياً. اليوم، تمر هذه الذكرى من دون صخب وسط برود على السطح لا يعكس عمق الروابط الرسمية المتذبذبة. حسابات الحسين سارت بعكس رغبته في ترك إرث سلام يؤمّن للأردنيين حياة أفضل، إذ تعطّل المسار للأبد عقب اغتيال رابين على يد متطرف إسرائيلي، وجنوح الرأي العام مرة أخرى صوب التشدد والانغلاق. وبعد عقدين في مختبر تجارب السلام، تغيب إنجازات سياسية أو اقتصادية ملموسة لدى الأردنيين، نصفهم تقريباً - من أصول فلسطينية - متأثرين بحرائق الضفة الغربية وقطاع غزة. لكن علاقات التعاون الثنائي بين الحكومتين مستمرة، خصوصاً في الشق الأمني والمائي والاقتصادي، في مفارقة مع حال العداء وشح التواصل بين الشعبين وتذمر الرسميين المعلن من موقف إسرائيل المتشدد حيال حل الدولتين ومسألة «القدس والأوقاف». العلاقات الرسمية تأرجحت ومرت بفترات حرجة. لكنها ستستمر حالها حال أي علاقات ثنائية، وفق مسؤولين وديبلوماسيين. فمعاهدة السلام خط أحمر للأردن الرسمي، المتحالف استراتيجياً مع أميركا، راعية إسرائيل. لكن المنغصات لن تختفي. آخرها فضيحة استخراج أجهزة تنصت وتدميرها كان زرعها الجيش الإسرائيلي في جبل عجلون ومناطق أخرى قبل أربعة عقود. الإعلان المتأخر عن هذه الأجهزة أطلق تساؤلات حيال دوافع صمت تل أبيب عن هذه «الدفائن» لدى توقيع المعاهدة. كما زاد شكوك الأردنيين حيال نوايا إسرائيل وعمّق الشعور بأنها المستفيد الأكبر من السلام. بموازاة ذلك، يتعاظم غضب شعبي ونيابي بعد لفلفة نتيجة التحقيق في جريمة قتل القاضي رائد زعيتر على جسر الملك حسين (اللنبي) على يد مجند إسرائيلي، وفشل جهود الإفراج عن أسرى أردنيين وفلسطينيين في سجون الاحتلال. ولا ينسى الأردنيون أيضاً الخرق الفاضح المتمثل في محاولة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» خالد مشعل، في أيلول (سبتمبر) 1997، في وضح نهار عمان. وقتذاك هدّد الملك حسين بتجميد معاهدة السلام وأجبر إسرائيل على إرسال ترياق أنقذ حياة مشعل. لكن غالبية الأردنيين لا تعرف، مثلاً، أنه مع اشتداد الحرب في سورية - ممر 60 في المئة من تجارة الأردن والترانزيت مع أوروبا - تحول مسار التجارة مع الاتحاد الأوروبي وتركيا عبر ميناء حيفا. فمنذ مطلع 2013، انتقلت 4571 شاحنة إلى تركيا عبر الميناء المتوسطي، وفق أرقام رسمية توافرت ل «الحياة». التبادل التجاري قائم أيضاً، وإن سجّل تراجعاً في السنوات الثلاث الأخيرة. فحجم المستوردات من إسرائيل انخفض إلى الثلث تقريباً، من 232 مليون دولار في عام 2009 إلى 96 مليون دولار في عام 2013. أما الصادرات - وغالبيتها من الكلينكر - فراوحت عند 64 مليون دولار في عام 2013، هبوطاً من 66 مليون دولار عام 2009. والمفارقة أن غالبية البضائع الإسرائيلية واصلت طريقها إلى دول خليجية، بعد تمويه بلد المنشأ. غالبية المصانع الإسرائيلية في المناطق الاقتصادية المؤهلة التي كانت تستفيد من مزايا التصدير لأميركا، أغلقت أبوابها أو قلّصت إنتاجها بعد أن وقّع الأردن اتفاق تجارة حرة مع أميركا. ولا يفضل رجال أعمال إسرائيليون الاستثمار في المملكة بسبب رفض المحامين الأردنيين التعامل معهم، وسط اشتداد حملات مقاومة التطبيع على الجبهة النقابية والمطالبات الحزبية والنقابية بطرد السفير الإسرائيلي. في الأثناء، وبعد سنوات من بيع أحلام شمعون بيريز مثل مشروع قناة البحرين والمطار المشترك في العقبة وحديقة السلام في وادي الأردن، يتوقع ساسة وديبلوماسيون استكمال أهم مشروعين مشتركين بحلول 2017 و2018. يتعلق المشروعان بصلب أزمات الأردن الداخلية: المياه والطاقة. الأول يتمحور حول مشاركة السلطة الفلسطينية بتحلية مياه البحر الأحمر في الأردن، وضخ مياه مالحة لإنقاذ البحر الميت. أما الثاني، فيتمثل في استيراد الغاز الطبيعي من حقل إسرائيلي. غالبية لجان التعاون الثنائي تجتمع باستمرار، لكن بعيداً من الأضواء وسهام انتقاد الشارع الأردني. التعاون الأمني والعسكري والاستخباري على أشدّه، لحماية الحدود المشتركة مع سورية. وفي أحيان كثيرة للبحث عن سياح إسرائيليين ضلّوا سبلهم على متن سيارات دفع رباعي، كما حصل قبل أيام في جنوبالأردن. ويتعاون البلدان أيضاً لمواجهة خطر تنظيم «داعش» المطل برأسه من العراق وسورية، وفق مسؤولين وديبلوماسيين. «المياه» تبقى الأكثر نشاطاً بين اللجان المشتركة المنبثقة عن معاهدة السلام، حالها حال لجنة الأمن والحدود. كما تتواصل اجتماعات لجنة النقل المشترك من دون ضجة إعلامية. لجنة المياه تضع اللمسات النهائية على مشروع استراتيجي بكلفة 830 إلى 900 مليون دولار، على أسس بناء، «إدارة ونقل ملكية» بعد 25 عاماً قابلة للتمديد. وفي إطار هذا المشروع الثلاثي - الذي يعد بديلاً من مشروع قناة البحرين الملياري - توفر إسرائيل 50 مليون متر مكعب من مياه شرب فوق الكميات المتفق عليها في المعاهدة، من خلال مد أنبوب من شمال إسرائيل، مقابل مد خط لضخ كمية مماثلة من مياه البحر الأحمر المحلاة من العقبة إلى إيلات. وستضخ مخلفات المياه المالحة إلى البحر الميت عبر أنبوب بطول 186 كم، لرفع منسوب مياهه التي تتقلص بوتيرة 1 - 1.5 متر سنوياً. الغاز المقبل من حقل لفيتان في عمق المتوسط ستصل إلى مولدات شركة الكهرباء الأردنية، ومنها إلى بيوت الأردنيين. يتبلور ذلك عبر اتفاق مع شركة «ديليك» الإسرائيلية وشريكتها «نوبل إنرجي» الأميركية. ويدعّم الاتفاق بتوقيع وزيري الطاقة والثروة المعدنية في البلدين. بموازاة إنعاش الاقتصاد الإسرائيلي، يفترض أن يحل عقد الغاز معضلة الأردن الاقتصادية، إذ تخسر شركة الكهرباء خمسة ملايين دولار يومياً منذ انقطاع الغاز المصري. بالطبع، تبقى تفاصيل الاتفاق الأخير سرية، وسط معارضة الأردنيين للاعتماد على مصدر طاقة وحيد، وبالتحديد منح إسرائيل مفاتيح تحكم بأمن الأردن الاقتصادي. كما أن ذلك يتطلب مد خط ناقل ومفاوضات. وهناك مشروع مواز من حقل تمار، المفترض أن يوفر 0.16 بليون متر مكعب سنوياً لتغذية خطوط إنتاج مصنع بوتاس الأردن بحلول 2017. حكومتا البلدين تدعمان المشاريع تلك، لكن عمان تتكتم وسط تصاعد وتيرة المعارضة. وقد تطلب عمان ضخ المزيد من الغاز لتغذية محطة توليد الكهرباء قبل الانتهاء من تمديد أنابيب المشروع الأكبر عام 2018. وستنعقد لهذا الغرض لجنة فنية معنية بمشروع الطاقة في 26 تشرين أول (أكتوبر)، وفق ما اتفق وزيرا المياه والري حازم الناصر والطاقة والثروة المعدنية محمد حامد حين اجتمعا يوم الثلثاء الماضي في إيلات مع وزير النفط والطاقة الإسرائيلي سيلفان شالوم. في الأثناء، يستمر سفر أردنيين إلى إسرائيل، غالبيتهم تبتغي زيارة عائلاتها الممتدة هناك وفي الضفة الغربية. كما يتواصل قدوم إسرائيليين - غالبيتهم من فلسطيني ال1948 - على رغم تحذيرات حكومتهم من السفر إلى عمان. يستخدم آخرون الطيران الأردني للسفر إلى الشرق الأقصى وبعضهم يقضي أياما في وادي رام والبتراء. في 2013، دخل الأردن 70 ألف و940 إسرائيلياً، وقرابة 20 ألفاً خلال الأشهر التسعة الأولى هذا العام. في المقابل، منحت السفارة الإسرائيلية حوالى 11 ألف تأشيرة لأردنيين. السفير الإسرائيلي داني نيفو يقابل صنّاع القرار والوزراء ونواب باستمرار، لكن بعيداً من الأضواء. نيفو سيترك منصبه الصيف المقبل بعد أن أمضى 12 عاماً في الأردن – نصفها كنائب رئيس للبعثة. وهو يتواصل مع شبكة علاقات في القطاعين العام والخاص، وإن حدّت القيود الأمنية من تحركاته، بخاصة بعد تعرض موكبه لمحاولة تفجير قبل سنوات. ستحل مكانه سفيرة ساهمت في افتتاح مقر السفارة الموقتة قبل 20 عاماً في أحد فنادق عمان قبل أن تتحول السفارة اليوم إلى حصن عسكري مغلق. سياسياً يجهد الأردن لكسب تأييد دولي لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على خطوط الخامس من حزيران (يونيو) 1967 وعاصمتها القدسالشرقية مقابل تطبيع في العلاقات بين إسرائيل و56 دولة عربية وإسلامية، وفق طرح مبادرة السلام العربية. لكنه يدرك استحالة تحقيق هذا الهدف بسبب الوقائع على الأرض. أميركا حليفة البلدين تعجز عن إقناع حكام إسرائيل بوقف بناء المستوطنات التي أحالت الأراضي الفلسطينية إلى سجن كبير بعد 21 عاماً على اتفاقية أوسلو وملحقاتها، وباتت تهدد الأمن الوطني الأردني. السلطة تتحول إلى مقاول محلي لاحتلال تمدد ليقطّع أوصال الدولة المنشودة ويريح الإسرائيليين من «وجع راس» إدارة شؤون الاحتلال. هذا الصيف شنّت إسرائيل العدوان الرابع على قطاع غزة في محاولة لتكسير نفوذ حركة «حماس» العسكري. وقبله استهدفت لبنان، كما شنّت غارات على مواقع داخل سورية وعلى جبهة الجولان بحجج مختلفة. وباتت غالبية الفلسطينيين على قناعة بأن البناء والصمود والمقاومة هي الطريقة الفضلى لإدارة أزمة الصراع إلى أجل غير مسمى لحين توافر الشروط الموضوعية لتغيير الواقع. وعلى رغم استمرار العلاقات الرسمية يراقب سياسيون أردنيون المشهد السياسي الإسرائيلي، بزعامة ليكودي متحالف مع أحزاب يمينية وتكتل متطرفين، بعضهم يريد حل القضية الفلسطينية على حساب الأردن. تواصل عمان إدانة سياسات إسرائيل الأحادية وانتهاكاتها لقدسية المسجد الأقصى والتدخل في شؤون الأوقاف الإسلامية. وتستمر الحفريات حول المقدسات الإسلامية من كل حدب وصوب وسط خشية من انهيار حائط البراق، ما سيحرج الأردن صاحب الولاية العامة على هذه المقدسات. في كل مقابلة صحافية، يحذّر الملك عبدالله الثاني من ضياع فرصة السلام وانعكاس ذلك على أمن المنطقة واستقرارها. لكن كلماته لا تحرك الحكومة الإسرائيلية وسياسييها المتطرفين ممن لا يخشون إظهار نواياهم الحقيقية والعبث بملفي الاستيطان والقدس. مع ذلك، تصر غالبية أعضاء فريق التفاوض على أن المعاهدة أمّنت اعتراف الدولة العبرية بكيان الأردن، معتبرين أن المشاكل بين الدولتين تحل بالتفاوض أو التحكيم. في موقفهم هذا يخالفون غالبية تعتقد أن الأردن اقترف خطأ استراتيجياً في لحظة ضعف، سببه توقيع ياسر عرفات على تفاهمات أوسلو السرية مع إسرائيل وراء ظهر الشريك الأردني في وفد سلام مشترك. صحيح أن تطرف إسرائيل العلني بات يطعن الأردن في الصميم، ويهدد أمنه واستقراره. كما يرفع أصوات سياسيين، نشطاء، كتاب ونقباء بضرورة البحث في ما قدمه الأردن من تنازلات، والعمل على استردادها. لكن ذلك يظل تفاصيل أمام حقيقة أن المعاهدة التي أقرها مجلس الأمة بالغالبية باقية، وأن لا مصلحة لعمان في فك التحالف الاستراتيجي السياسي والأمني مع واشنطن وإسرائيل، وإن شابت العلاقات الثنائية منغصات. فالبدائل ليست أفضل وسط زلزلة التحالفات الإقليمية والدولية.