"منازل القمر" للكاتبة سمية رمضان، هي اماكن الروح، بحثت عنها، وتوقفت لديها وتأملت فيها. لكنّ المكان - منذ الصفحة الاولى في هذا الكتاب - لا ينفصل في حال عن الزمان. "لكل حال من احوال الحياة - واقرأها "الروح" - ميقات، ولكل امرئ منزل يعود إليه"! فهل نوستالجيا الصبا الاول في ذلك المنزل الذي هو اكثر بكثير من مجرد مكان مادي متعين بل هو ابتعاث روائح أو انفاس الماضي هو مكان الروح؟ دادة فاطمة وبيت باب الشعرية بكل سماته المصرية الشعبية وقد تلبستها روح شعرية النوستالجيا، أهذا كله منزل الحلم والحنين والوطن معاً؟ القصة الأولى "منازل القمر" هي أولى رباعية قصص لعل وصفها بأنها قصص "الزمكان" أو "المكان الزمان" ليس بعيداً عن الصحة. في هذه القصة الأولى ملمحان -اضافة الى ما سبق - هما اولاً ذلك التقابل الذي لا حل له في نهاية الامر بين لغة دادة فاطمة ولغة شكسبير، أو بين هنا وهناك، وهي لمحة بارعة عندما تقول "الرجل الفيل جُلب من وراء البحر لأنه في حقيقة الأمر ولد في ساسكس" ص13 فهذه نقلة اساسية ضرورية وصحيحة - وكم غابت عنا - لان وراء البحر ليس كما يجري التعبير الغربي هو الشرق. بل ان "وراء البحر" من زاوية نظرنا - هو الغرب كله، ومن هناك تأتي "تلك المخلوقات المشوهة"، من هناك يقوم ذلك السايكلوب الوحش ذو العين الواحدة وهو يتضاءل حتى يصير في "حجم عقلة الاصبع" فهل هو تصور أو وهم عن عملاقية الغرب التي تتضاءل الى حجمها الصحيح في إدراك الراوية؟ لعل الملمح الثاني أقرب الى التساؤل منه الى التقرير، من هي الراوية ومن المخاطبة؟ أهما واحدة أم اثنتان؟ اهذا خطاب للاخرى - رويدا - أم هي نجوى للذات؟ من هي التي وقع عليها عبء الحكاية ومن التي تحب الحكايات؟ لعل في النص ما يتيح التأويل الاخير أي وحدة الراوية المخاطبة ولعل هذه التقنية سوف تتردد - كما كانت ترددت من قبل في "خشب ونحاس" المجموعة الاولى للكاتبة. وما من حاجة بي هنا الى ان اشير الى دقة التفصيلات النسوية التي لا تكاد تلتقطها إلا عين المرأة وحسها، رائحة البودرة ووشوشة الفساتين التافتاه ووقع الكعب العالي على سبيل المثال. قصة "الاماكن أوقات" نقرأ فيها من عنوانها رؤية "الزمكان". الراوية - هي الصوت نفسه - تخضع هنا لعلاج نفسي في ما هو واضح ومذكور بوضوح، ولكن المخاطب هو ذلك الذي تقول عنه "وأنت تلهو وحدك" وهي الاشارة الوحيدة التي تحدد صراحة أنه وجود ذكوري، ولكن رمز الجبل يحمل في طواياه اكثر من إيماءة الى هذا الوجود الذكوري المراود والمخامر الذي يتبدى احياناً في صورة نوستالجية بالعودة الى ماضي اللعب على البلكونة تحت خيمة مصنوعة من ملاءات الاسرة - "اسرتنا". ليست هذه الاشارة الحميمة مما يمكن ان يكون موضع تجاهل، ومن الحديث المشبع بالحنين عن بيض شم النسيم الملون، وعن "نظام اولي" في "عالم يستعيد قدرته على الخلق من ذكرى خلق آخر" ص20 وهو جبل الى جانب دلالاته الاخرى الاساسية، ليس مجرد تقابل بين هنا وهناك، أو بين "ما وراء البحر" وما أمامه - كما حدث في "منازل القمر" بل هو "مزيج من جبال البحر الاحمر الساخنة وجبال الالب المثلجة البيضاء" لانه جبل من الروح "مدبباً شاهقاً. لم يكن يشبه اي جبل رأيته بالعقل أو في الصور" ص19 "كلما اقتربت منه ابتعد .. لن اصله ابداً مهما حاولت" ص20. ومهما حاولت الراوية ان تنفي ابتذال المعادلة الفرويدية: "فهنا الامور قد تؤول على نحو فرويدي سقيم" ص24 إلا أن المعادلة قائمة معقدة، مركبة، وشعرية، وغير مستنفدة عبر تأويل فرويدي سقيم أو سليم. ولكنها غير قابلة للنفي أو للاستبعاد. بل إن الراوية إذ تحاول إلغاءها إنما تؤكدها في نهاية التحليل. ألا يؤيد ذلك أن الراوية "لا تخجل من جسدها ولا من حاجاته"، وأن التوتر القائم في هذه القصة على أكثر من مستوى، بين الرغبة والنفور، بين حافة السواء العقلي وحافة المرض النفسي، بين النوستالجيا والماضي، وبين الاستشراف والامل؟ "فبالله عليك قل لي إن كان ذلك مكاناً قائماً" وبهذا التساؤل الذي يأتي من غير علاقة الاستفهام فكأنه تقرير وليس تساؤلاً. تنتهي هذه القصة عن مكان للروح ما زال قائماً. هل هذا المكان هو في الوقت نفسه زمان التحرر من القيود ومن قمع مضمر؟ زمان ما زال قائماً في نوستالجيا الصبا، أو أن هذا المكان هو زمان استشراف الحب الذي ما زال قائماً؟. "الطابق الثاني" هي ثالثة القصص. تفصيلات المكان - البيت القديم الذي يقع فيه هذا الطابق الثاني وحديقته كلها مرسومة ببراعة دقيقة وبحيوية الاندماج بين الخارج - المكان - وبين صوت الراوية المتحرك في رقعة مكانية محددة، ولكنها توحي بما هو اكثر من محدوديتها. قصة "جدتي" استطراد مع فكرة "الزمكان" التي تكمن وراء القصص الثلاث الاولى. هل هي هنا سطوة الماضي؟ او سلطته المطلقة أو على الاقل عدوان الماضي على المكان - الزمان الذي تحياه الراوية، او هو اقتحام الماضي هذا الموقع الراهن، عالمها الداخلي الزماني، او الخارجي المكاني، على السواء "حجرتي كانت عالمي" ص41. فليس العالم مجرد "موقع" بل هو "وجود". كل شيء يرتبط وينصهر بضده، وفي هذا تتبدى في مجموعة "منازل القمر" مرحلة من المقدرة على الفن ومن نضج التعامل معه اكثر مما تبدى في كتاب سمية رمضان الاول "خشب ونحاس". وبهذه القصة تكتمل رباعية الزمكان وإن كانت التيمة المكانية الزمانية تسري بخفاء في سائر القصص. سوف اسمي الفلك التالي من قصص الكتاب قصص "القضايا الكبيرة" وهي قضايا الوطن والهوية والاصولية والنسوية. وربما بهذا الترتيب، على رهافة علاج هذه القضايا بما تحمله من مخاطر الوقوع في مباشرة قد تكون مما يضير او يعطب العمل الفني. ولحسن الحظ فإن هذا الخطر تتفاداه الكاتبة بمقدرة واضحة، بل هي تضفر الهم "الوطني" مثلاً بعناصر حلمية وشعرية تضفي عليه فاعلية اكبر. وفي داخل هذا الهم الوطني تأتي معالجة قضية الاصولية او ما يسمى "الارهاب" معالجة فنية. قصة "الوحدة" لها مستويان من الدلالة: المستوى الاول هو ذلك العالم الحلمي والطفولي، او على الادق منطقة الحدود - او اللاحدود - بين عالمين هما عالم اللعب وزيارة الهدهد الخاطفة ونوارة البرتقال اي عالم السحر والحلم من ناحية، ثم عالم الواقع الصلب والذائب والبرد من ناحية اخرى. لكن ما يثير القلق، ويخرج بنا عن مجرد دائرة الحلم الاسطورية امران: ان الاطفال الثلاثة مع انهم وقعوا داخل هذه الدائرة حيث "المساحة التي تفصل بين اجسادنا لها قوام يغلفنا ويربطنا، وسرى بيننا خيط ذهبي أخذ يروح ويجئ في تعاريج لطيفة" ص45. إلا أن هند "رجعت بنا الى عالم الواقع الخفيف.. وقالت: لا يمكن ان نكون ثلاثتنا نحلم نفس الحلم" ص 46. والامر الثاني ان القصة تدور في ارض سورية. نعرف ذلك من ان الام تهرول في اتجاه الغوطة، ومن اشارة الى رقصة الدبكة، والى الصقيع المبتعد والبرد الذي يغلف الارض. فإذا تذكرنا فجأة ان عنوان القصة هو "الوحدة" كان لا بد ان تتفتح دلالة هذا العنوان على المستوى الثاني من مستويات الدلالة في القصة، وهو المستوى السياسي العريض في فترة الوحدة بين مصر وسورية، وربما الحلم بالوحدة مع العراق، احمد وهند وسلمى، او ربما كان ذلك عقب انكسار هذه الوحدة او انكسار هذا الحلم عندما تبدأ القصة كلها "انكسرت الحلقة المعدنية الصغيرة في يد احمد، كانت الحلقة هي مجمل ادوات سحره" ص 45. ومع جمال القصة على المستوى الاول الحلمي الطفولي، فإنها تكتسب عمقاً جديداً على مستوى الهم الوطني العام. "زمارهاملين" قصة لها أكثر من دلالة وتحتمل، ايضا اكثر من تأويل فهي مبنية على حكاية من حكايات الاطفال التي صاغها كريستيان هانز اندرسون اشهر صياغة. والمعروف ان الطفل الوحيد الذي نجا من سحر الزمّار ولم تبتلعه المغارة كان اعرج. ولذا تخلف عن موكب المسحورين. وراوية القصة هي نفسها عرجاء ولذلك كانت تحب هذا الصبي المتخلف عن الركب. ولكن القصة على وجازتها تذهب شوطاً في تقصي او مساءلة معاني العدل والشر والصدق وصرامة الحق. ولعل سؤالها الاساسي هو: لماذا القبح؟ لماذا المرض والموت؟ لماذا "التخلف"؟ هل هي خير ام شر وهل فيها خلاص ام تعاسة؟ تصورت ان الهم الوطني يرود هذه القصة تحت مظهرها الجميل هل هو مظهر خداع؟ وعلى رغم عالمها الحلمي الطفولي، مرة اخرى، تصورت ان الوطن المتخلف، الاعرج بطيء الحركة هو الذي نجا من فخ ابتلاع مغارة التقدم التكنولوجي السحري وهو الظاهرة الصارمة التي لا تكاد تحتمل المقاومة، لكن هذا التصور، في طبيعة الحال، احادي ومختزل جداً، مصداقيته إن وجدت ليست الا جانباً واحداً من جوانب الالتباس. "اللوز الاخضر" احدى روائع "منازل القمر" ومن روائع فن القصة القصيرة، في تركيزها وعمقها وحرارة القضية التي تطرحها باسلوبها الغني المتميز، إذ تجمع بين بنية كلاسيكية في القصة القصيرة وبين سمات حداثية مغامرة من دون ادنى تنافر. وما من جدوى نقدية كبيرة او قليلة في ان اعيد حكاية القصة، كما اكرر كثيراً، لان نقد العمل الفني لا يحكي هذا العمل - بل قصاراه ان يحاكيه، وما من وسيلة إلا معايشة - وإعادة خلق - العمل الفني مباشرة، إنما مهمة النقد ان يضيء هذا العمل أو جانباً منه على الاقل إذا استطاع. وإذ تبدأ القصة بالاشارة الى قصة "الرجل الذي مات" ل د. ه. لورانس، وليس هذا الرجل الذي لم يمت في الحقيقة الا يسوع ابن الانسان نفسه وقد وصل الى معبد ايزيس. ثم تنتقل القصة الى كاهن متزمت ينصاع للشرع وينزل عليه يوم السبت ويعاني تجربة تكاد تكون مدمرة إذ يجابه بفعل الحب الصراع في معبد إيزيس ايضاً "وجد نفسه محتوى تماماً في نظرتها المتالمة فلم ير راحة يدها وهي تمتد له باللوز الاخضر" ص80 اي تمنحه امكان تذوق اللوز الاخضر اي امكان العودة الى نضارة الحياة وخضرتها وعذوبتها وبهجتها ونشوتها، بينما الرجل "يتلمس طريق الحلم" او هو يتنكبه وينأى عنه. تبدو القصة لوهلة أولى كأنها من قسمين لا رابط بينهما، وهو غير صحيح، لان الصلة بين "الرجل الذي لم يمت" والكاهن الذي نعرف من آخر كلمة في القصة أنه "وثني" وهو في الوقت نفسه يهوديّ، هي الصلة بين تمجيد الحياة والحب من ناحية وبين جمود التنسك الزائف الذي يخدع نفسه بنفسه. على ان هذه البنية الكلاسيكية - بالمعنى الجيد - تقابلها كتابة حداثية اصطلحنا على ان نسميها "الميتا كتابة" او الكتابة الشارحة لذاتها، اي تدخل صوت الكاتبة مباشرة، مندمجاً مع صوت السرد، هذا الصوت الخارجي - الداخلي معاً - يتأمل كنه هذه الكتابة. مع قصة "انا وامينة" تبدأ دورة قصص الانوثة باعتبارها خصيصة جسدية وروحية معاً وبين "النسوية" باعتبارها قضية الدفاع عن حقوق المرأة، ولكن معالجة مسألة انبثاق الوعي بالأنوثة - بالجسد وباجساد الاخرين - تأتي هنا في سياق اقرب الى الخفة والرهافة العابرة، مع تعليقات فيها قدر من التهكم الخفيف من "ميلودرامية" الموضوع نفسه. وبهذا تفلت الكاتبة من اسر الجدية المسرفة في رفع لواء شعارات الانوثة والنسوية كما لعل كاتبة مثل نوال السعداوي او قصاصة مثل منى حلمي تفعلان وان كانت في الوقت نفسه لا تخذل قضيتها. فإذا جئنا إلى "دعاوى الورود الحمراء" فقد وصلنا الى ما اسميه بحق "قصة قصيدة" وهي مؤسية وعذبة الوقع في شجنها الرهيف الاسيان الذي ينتهي بعد تفصيلات واقعية او خطرات فكرية الى صلاة الى سانتا تريزا "من اجل عيونه وعيون اختي شبيهته". فإذا انتهينا من التطواف حول هذه الأفلاك الثلاثة من "منازل القمر" او أماكن الروح الخفية المفصح عنها، فلعلنا نستخلص السمات الرئيسة في كتابة سمية رمضان كما تتبدى في هذا الكتاب، وفي غيره. ولعلنا يمكننا ان نتلمس اولى هذه الخصائص في ميزة نادرة ومهمة هي ميزة الرؤية الفكرية الكامنة وراء النص او المسفرة عن ذاتها في النص بقدر محسوب، وهي رؤية تستند الى ثقافة واضحة والى خبرة بتقنيات الكتابة ومناحيها، كما تستند الى ادراك ل"القضايا الكبيرة" من نحو قضايا الزمان، والوطن، والهوية، والنسوية، من دون ان تقع في اسر موضة هذه الايام في الكتابة التي تزعم أنها لا تعرف القضايا "الكبرى" ولا تهتم إلا بما هو صغير وواقعي ويومي وجسدي. هذه كتابة تعنى اشد العناية وأضواها بما هو صغير وجسدي وتفصيلي لكنها تضفره بما هو جليل وكبير، على النحو نفسه الذي تمزج فيه على نحو متفرد وخاص بين الشاعري والارضي العادي، بين التاريخي والراهن، بين الواقعي والحلمي، بين الاسطوري والتأملي، وبين نوستالجيا الطفولة ونضج سؤال الحياة "وهل صناعة الحياة إلا صناعة السؤال؟". سمية رمضان لا تخشى - بل لعل من فضائل كتابتها أنها لا تخشى - ان تُتهم بتعاطي الفلسفة كما كانت النساء تتهم بتعاطي السحر في القرون الوسطى ص 74، 75 على العكس، فلعل اهم سمات كتابتها هو ذلك المزيج البديع من الرؤية الفلسفية ومن سحر الفن.