اختلف المراقبون والنقاد في تقويم نتائج مهرجان موسكو الدولي للسينما الذي اختتم اعماله قبل أيام، لكن معظمهم أقر أن موسكو بدأت تستعيد، ولو بمشقة، مكانتها السابقة كإحدى عواصم السينما العالمية. فكثُر من الروس يترحمون، بأسى، على أيام مهرجانات موسكو في العهد السوفياتي، حين كان يتألّق فيها العشرات من عظماء الفن السابع، وكانت بمثابة "أعياد" للخاصة والعامة على السواء، بدءاً بالفاعليات السينمائية السوفياتية والرسميين المدعوين الى الاحتفالات وموائدها العامرة، وكذلك بالنسبة الى المحظوظين الذين نالوا بطاقات دخول صالات العرض مجاناً أو بسعر رمزي، وصولاً الى الجماهير التي كانت تحيي النجوم وكبار المخرجين تحية الأبطال الأسطوريين. والآن تحول مهرجان موسكو مناسبة نخبوية محضاً. فغالبية سكان العاصمة الروسية اليوم باتوا إما عاجزين عن مشاهدة الأفلام فيها لارتفاع أسعار التذاكر، وإما غير مستعجلين على أمل رؤيتها بالفيديو لاحقاً. أما المارة في شوارع موسكو فأكثرهم غارق في مشكلات حياته الصعبة، ولذلك نراهم قلما يلتفتون الى ضيوف المهرجان، ما جعل الممثلة الفرنسية المرحة ايرين جاكوب تستغرب عبوس وجوههم على رغم اعجابها بموسكو. ولم يسجل مهرجان موسكو هذا العام حضوراً مميزاً لنجوم التمثيل السينمائي. وقال أعضاء في لجنة المهرجان للصحافيين "يبدو أنهم لم يسعوا أصلاً الى جلب عجائز متصابين من أمثال آلان ديلون الى موسكو" خلافاً لما كان يحدث في مهرجاناتها السابقة، خصوصاً أنهم يطمعون بقبض مبالغ ضخمة في مقابل "تشريفهم" الى العاصمة الروسية، بل ركزوا على استدراج رموز السينما الحديثة العاملين، خصوصاً المخرجين، وفي مقدمهم الأوروبيون، من وزن كريستوف زانوسي البولوني. وقالت الناقدة ناتاليا كوروفا التي واكبت مهرجانات موسكو ومنتديات سينمائية أخرى منذ الثمانينات، ان منظمي المهرجان، وعلى رأسهم نيكيتا ميخالكوف، "وفقوا في اضفاء طابع الجدية والرصانة عليه وفي تشكيل هيئة تحكيم قوية تضم مخضرمين كباراً ممثل تيو انجلوبولوس اليوناني وارفين كرشنير الاميركي الى جانب الشباب، وأبرزهم نادرة مخملباف 20 سنة من ايران". نجمة من الحانة وكانت مجموعة الأفلام المعروضة في مهرجان موسكو خالية تقريباً من أشرطة ضخمة وباهظة التكاليف، لكنها كانت منوعة جداً. فإلى فيلم "تجاوز الحدود" شبه الخلاعي لمخرج الايطالي السبعيني تينتو براس الذي حضر المهرجان بصحبة نجمته الجديدة، وهي فتاة جذابة من أوكرانيا التقطها من احدى حانات نابولي وجعلها ممثلة، والى "المنزوي" الفنلندي عن مغامرات جنسية لطبيب الاسعاف... ثمة افلام روسية وأوروبية وآسيوية تمتاز ب"الأخلاقية" وحتى بالطهارة.والى أفلام تندد بالعنف، كانت هناك أفلام تمجد هذا العنف مثل "قواعد القتال" الأميركي عن "بطولة" المارينز في عملية "انقاذ" سفارة واشنطن في اليمن من هجوم مسلحين. إلا أن هذا الفيلم لم ينل رضى الجمهور الروسي. ومن الأفلام "المثقفة" نال "الحياة كمرض مميت" من اخراج زانوسي الجائزة الكبرى "جائزة القديس جاورجيوس الذهبية". تحوّل السينما الروسية وانتبه المهتمون بالسينما الروسية الى ظاهرة تحولها الملحوظ من أفلام الاثارة والجنس، والتي صورت مغامرات المافيا الروسية وفتيات الليل، في العقد الأخير، الى مواضيع اساسية جادة. ونال فيلم "البستان الذي يملأه ضوء القمر" العاطفي والبريء جائزة خاصة في موسكو. واهتم النقاد بأفلام نوعية جديدة من دول اسيا الوسطى الحديثة الاستقلال وأبرزها "مملكة النساء" من اخراج الأوزبكي يعقوب رازيقون. وانتقدت ناتاليا كوروفا وبعض زملائها جعل الفيلم "رومانوف: العائلة المتوجة" فيلم الافتتاح للمهرجان، "لأن هذا الشريط، في رأيها، شوّه وقائع تاريخية، بتصوير نيكولاي، آخر قياصرة روسيا، "حملاً وديعاً" من دون الاشارة الى عيوبه وأسباب سقوط حكمه". في المقابل كان هناك مديح للممثلة البريطانية ليندا بلنهم التي اتقنت أداء دور الكسندرا القيصرة حفيدة الملكة فيكتوريا. وكالعادة في مهرجانات موسكو اشتكى الصحافيون والمشاركون من فوضى تنظيمية هائلة وغياب معلومات صحيحة عن نشاطات المهرجان وصعوبة الحصول على البطاقات على رغم بقاء معظم مقاعد صالات العرض خالية، وصلف الحرس الذين رافقوا روساً كباراً من دون دواع أمنية واضحة. سابق لأوانه وقالت صحف ليبرالية روسية ان ادراج مهرجان موسكو ضمن فئة "أ" العليا يبدو سابقاً لأوانه، وان المطلوب من موسكو وسينمائييها تحقيق الكثير من أجل "عودتها الى مصاف مراكز السينما العالمية فعلاً لا كلاماً". ولم يخلُ المهرجان من مهاترات روسية عنيفة عن طبيعته. فقد حمل بافل لونغين المخرج المقيم منذ سنوات في باريس والذي نال فيلم "العرس" الفولكلوري المستوحى من حياة العمق الروسي جائزة من "كان"، وإعجاباً بموسكو على لجنة مهرجان موسكو ل"غياب الديموقراطية في عملها وتركيزها على جوانب "الأبهة الشرقية غير الحضارية". وقال ان "موسكو هيهات ان تلحق بكان". ورد عليه رنت دولتياروف المدير العام للمهرجان بأبيات من سيرغي ميخالكوف الشاعر الكبير والد نيكيتا "صاحب المهرجان"، تصف "جراذين تأكل طعاماً روسياً دسماً ومع ذلك تشتم روسيا وتمدح كل ما هو أجنبي". وفي حفلة اختتام المهرجان تعهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مضاعفة دعم الدولة له ولكل القطاع السينمائي في روسيا وقال نيكيتا ميخالكوف "اننا على عتبة عصر جديد، لنهوض السينما الروسية". فهل توفق موسكو في اجتياز هذه العتبة الصعبة؟